إلى روح المربية الكبيرة اوجيني نويميان... بقلم آرا سوفاليان
غيب الموت المربية الكبيرة اوجيني نويميان والموت حق ولكن ليس مع الغدر والظلم، نطلب العفو والصفح منك أيتها المربية الفاضلة لأننا لم نتمكن من مساعدتك بعد أن صرفت كل جهدك وعمرك في مساعدة الأجيال وتنشئتها النشأة الصالحة فيما يرضي الله والأمتين والوطنين.
لشهر نيسان وقع حزين في نفوس الأرمن وخاصة في ثلثه الأخير حين يبدأ العد العكسي لذكرى جريمة الإبادة العرقية الكبرى التي لحقت بالشعب الأرمني في العام 1915 بدايات القرن المنصرم، والتي تصادف 24 أبريل ـ نيسان من كل عام، وكنت قد فرغت من تحرير وإرسال مقالة أفردتها لهذه المناسبة الحزينة، وتشاء الصدف أن تشتمل المقالة على إحصاءات تتعلق بخسائر الشعب الأرمني البشرية والثقافية وخسارة الأرض والعمارة والبنى الأثرية ومجمل الخسائر المالية والاقتصادية المباشرة والخسائر الديموغرافية الناجمة عن إبادة الجنس وانحدار عدد السكان إلى مستويات متدنية خطيرة جداً، كان من مفاعيلها عدم إدراك عدد السكان الأرمن الذين كانوا على قيد الحياة قبل مجازر العام 1915 لغاية اليوم في موطنهم التاريخي و بعد مرور 96 سنة على الإبادة .
ولأن الفقيدة اوجيني نويميان كانت تعمل في سلك التعليم فإن المقاربة الآتية تبرر المكانة الرفيعة التي يحتلها المعلمون لدى الشعب الأرمني كما في الشعوب الأخرى وربما أكثر.
في العام 1900 وفي أسوأ فترات حكم السلطان عبد الحميد الثاني كان للأرمن 1100 مدرسة يدرس فيها 120000 طالب وطالبة، و1639 كنيسة وأغلبها آية في فن العمارة الدينية الأرمنية، ويقال بأن عدد المدارس الأرمنية في أرمينيا الغربية والشرقية فاق عدد المدارس التركية التي كانت السلطنة تمتلكها!!!
وبعد الإبادة والترحيل، والترحيل كان في مجمله وبفضل من الله الرحيم، كان إلى جهات سوريا، لم يشعر الشعب الأرمني بالغربة لأن الشعب المضيف برهن عن أصالة وكرم ونبل بلا حدود، فلقد قبل الشعب العربي السوري مقاسمة الأرمن الزاد ورغيف الخبز، ويعتبر الشعب الأرمني أن في هذا الفضل مكرمة لا تنسى ودين لا يمكن سداده.
وفرت سوريا للأرمن أسس الحياة الكريمة كحق العمل والكسب الشريف وحرية العبادة والتعليم وحق المواطنة الكاملة، فكان للأرمن كنيسة ومدرسة وبيت وهوية وجواز سفر، وأفاق الناجون من الإبادة على هذه المقاربة:
كنيسة أرمنية واحدة فقط لا غير، تقع في منطقة الباب الشرقي لمدينة دمشق لا يملكون غيرها مقابل 1639 كنيسة تركوها خلفهم في أرضهم التاريخية، ومدرسة واحدة فقط لا غير، ملحقة بهذه الكنيسة مقابل 1100 مدرسة تركوها خلفهم في أرضهم التاريخية.
ومن هذه المقاربة المذهلة نفهم تحقق قانون الندرة في آثاره الفادحة، قانون الندرة الذي يقيم سعر كأس الماء في الصحراء بما يوازي وزنه ذهباً ويزيد.
كان من المستحيل العثور على معلم أرمني، وكان من المستحيل أيضاً العثور على رجل دين أرمني، وخاصة في السنين الأولى التي تلت النكبة، وقد تحسنت الظروف في السنين التالية بالطبع، ولكن ومن الجدير بالذكر أنه وفي هذه الظروف المأساوية عمل المعلمون الأرمن والسيدة اوجيني نويميان منهم، واستطاعوا إرشاد الأجيال إلى أول طريق العلم والمعرفة والخير .
أمضت السيدة أوجيني نويميان أجمل سني عمرها في التعليم وفي مدرسة الطليعة (ساهاكيان) الكائنة في منطقة الصالحية ـ شهداء، ويذكرها كل طلابها من عرب وأرمن خاصة وان إدارة هذه المدرسة والقائمين عليها لا تهتم ومنذ نشأتها بأي اعتبار يتعلق بقبول تسجيل الطلاب فيها، حيث لا توجد شروط من أي نوع كان، وقد عرفت وبالصدفة أن صديق لي وهو من أكبر الجراحين في الولايات المتحدة الأميركية مرّ من هذه المدرسة، وقد أسرّ لي بذلك في زيارة خاطفة له إلى دمشق وأخبرني أن والده كان من كبار التجار وقد أشاد كل البنايات التي تحيط بهذه المدرسة وكان بيت أهله في نفس الحارة وكانت أمه تراقب التلاميذ من شرفتها وتمنت أن يتم قيد ولدها في هذه المدرسة بالذات، وأرسلت زوجها لاستطلاع رأي الإدارة في ذلك فذهب الرجل وهو يمشي خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الوراء، وكان محرجاً لأسباب، لا يعرف هو، أن إدارة هذه المدرسة لا تقف عندها نهائياً ولا تأخذها إلا على محمل الحب والاعتزاز والاحترام المطلق، وعاد الأب إلى زوجته يريد البشارة، وعاد الطبيب في زيارة خاطفة إلى دمشق لرؤية أهله وكان لي شرف مقابلته وسماع القصة منه، خاصة وأنه لا زال يحفظ بضع كلمات أرمنية، وأرجح أنه لا بد انه قد مرّ من بين يدي المعلمة اوجيني نويميان.
الأحد الماضي 17 نيسان 2011، وقبل ثلاثة أيام من تاريخ كتابة هذه المرثية، كان أحد الشعانين وابن السيدة اوجيني نويميان يصحب زوجته وأولاده إلى كنيسة الأرمن لحضور قداس الشعانين وكان ينتظر وصول والدته إلى الكنيسة بفارغ الصبر، ويمني نفسه بمشاهدتها، فلقد كانت وكالعادة التي درجت عليها قد حضرت الأطباق الشهية وكعك العيد، لملاقاة ابنها وزوجته وأحفادها، وكان من المقرر أن يلاقي والدته في الكنيسة ليصطحبها والعائلة إلى بيتها الكائن في جرمانا للاحتفال بأحد الشعانين وتناول طعام العيد، ومضى نصف القداس والوالدة لم تحضر، واتصل بها ولا مجيب، ومضى على عجل متوجهاً إلى دارها، وكانت المفاجأة الصاعقة... جثتها ملقاة على الأرض وهي تسبح في دمائها، ومصابة بطعنات متعددة وآثار التعذيب بادية على جسدها المنهك!!! فالمجرم لم يرحم عمرها ولا بد انه كان يريد أن تكشف له عن المكان الذي خبأت فيه المال، دون أن يعرف أن المعلم يموت وهو يملك كل شيء عدا المال لأنه يملك أشياء أخرى أسمى من المال بكثير.
في بريدي وجدت البارحة ايميل من صديق يطلب مني المساعدة، فسألته أن يقترح طريقة لإبداء هذه المساعدة فأجابني: أنت صحفي ويمكنك نشر الحادثة، فقد ييسر الله من يستطيع تقديم المساعدة للعثور على الفاعل أو الفاعلين ... فأجبته: سأفعل
ووصلت ابنتاي من المدرسة وأخبرتني الصغيرة أنها تعرف حفيد المغدورة وهو في الصف العاشر ويحمل نفس اسمي...، قلت لها لم أعرفه يا حبيبتي؟، فأجابتني الكبيرة، كان من طلابك يا بابا !!!
نطلب العفو والصفح منك أيتها المربية الفاضلة لأننا لم نتمكن من مساعدتك بعد أن صرفت كل جهدك وعمرك في مساعدة الأجيال وتنشئتها النشأة الصالحة فيما يرضي الله والأمتين والوطنين، ليرحم الله روحك الطاهرة ويلهم أهلك الصبر والسلوان.
آرا سوفاليان
Ara Souvalian
arasouvalian@gmail.com