لا يخفى على ذوي اللبّ والأفهام، أين ينبغي أن يكون موقعُ أمة الإسلام ، ومقامُها بين الأنام ، تلكم الأمة التي شرُفنا بالانتساب إليها حين اجتبانا الله تعالى ابتداء لحمل رسالته من بين سائر الأمم ، فأنزلنا منزلا وبوّأنا مقاماً أفصح عنه قولُ ربّنا عز وجل (كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله)[ آل عمران110] .
فقد قلّد جلّ شأنه أمّة محمد – عليه الصلاة والسلام - وسامَ شَرَفٍ عندما شهد لها بأنها خيرُ أمّةٍ أخرجت للناس ، ومن تمام نعمته عليها أن جعل باب الخيريّة مفتوحاً ، يلجه كلُّ من استفتح بمفتاحه، مؤدياً شروط ولوجه التي بيّـنها المولى في كتابه (تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) حيث قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ( من أراد أن يكون من هذه الأمّة – أمّة الخيريّة – فليؤدّ شرط الله فيها ! قالوا : وما شرط الله فيها ؟ فتلا قوله تعالى : { تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون باللهْ })
في ضوء ذلك : فالحكام ورعاياهم إن استقام إيمانهم بالله مولاهم ، وعلى طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سارت خطاهم ، غدوا امتداداً لذلك الجيل ، وورثة ذاك الرعيل من أصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم - الذين رفع المولى في العالمين ذكرهم ، وخلّد في الضمائر ذكراهم.
وتأمّل قوله تعالى (أخرجت) فلم يقل سبحانه (خَرَجَت) لأن قوله (خرجت) يعني أنها خرجت من تلقاء نفسها ، وأنّى لها ذلك ؟! إنما قال ( أخرٍجت) ليدلّ ذلك على أنّ هناك قوةً خارقة أخرجتها ، وإرادةً عظيمة بعثتها ! إنها إرادة الله تعالى !ولم يُذكر لفظ الجلالة للعلم به ؛ إذ ما من أحد يماري أنّ إرادة الله وحدها هي التي جعلت من عُبّاد الحجر زعماء للبشر، ومن عبيد الصنم روّاد للأمم ، ومن القبائل المتخاصمة المتناحرة أمة واحدة متماسكة ، ذات حضارة سادت العالم حتى غدت في سمائه قمراً منيرا، ورفرفت راياتها بعد ذلك في ربوعه قروناً كثيرة ، فأنيط بها مسئوليات عظيمة، واضطلعت بأمانات جسيمة ، ومهام قويمة ،كان جماعها في قوله تعالى (أخرجت للناس).
فأمّة الإسلام لم يُخرجها الله تعالى لتعكفَ على ذاتها ، وتنطويَ على نفسها، وتعيشَ لأنانيّتها، إنما هي(أُخرجت للناس) لتقودَهم وتسوسَهم وتهديَهم لما فيه رشدهم وصلاح أمر دينهم ودنياهم، وإذا كان ذلك كذلك فينبغي أن تتبوأ هذه الأمّة مقعد القيادة للبشرية، فتمسك بزمام الريادة فيها وتكون لها السيادة ( وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة الإسلامية لتعرف حقيقتها وقيمتها ، وتعرف أنها أخرجت لتكون في الطليعة ، ولتكون لها القيادة بما أنها هي خير أمة ، والله يريد أن تكون القيادة للخير لا للشر في هذه الأرض ، ومن ثمّ لا ينبغي أن تكون عالة على غيرها من الأمم ،بل هي التي تعطي هذه الأمم ما لديها ، وأن يكون لديها دائما ما تعطيه من الاعتقاد الصحيح، والتصور الصحيح ، والنظام الصحيح ، والخلق الصحيح ، والمعرفة الصحيحة ، والعلم الصحيح ) [ الظلال 1/130 ] تعطيهم ذلك بلسان حالها ومقالها على السواء .
فهذه المنزلة التي أنزلها الله إياها قد أحدثت لها في العالمين ذِكرا (وإنه لذكر لك ولقومك)[ الزخرف 44]، ولهذا الذكر تبعات ، لذا ختمت الآية السابقة بقوله تعالى (وسوف تُسألون) ستُسأل الأمة التي أخرجت للناس عما قدّمته للبشرية من رُشْدٍ في سياساتها، وعدالةٍ في أنظمتها، ونزاهةٍ في قضائها ، وصفاءٍ في ولائها ، وصدقٍ في قيلها ، ومصداقيةٍ في شعاراتها ، ورصانةٍ في قيمها، وتجرّدٍ في عواطفها ، وسدادٍ في مواقفها إن في حالة سلمها أو حربها ، وجديّةٍ في دفاعها عن حياضها ومقدساتها وحقنِها لدماء أبناء ملّتها ، وحسنٍ صنيعها فيما ملكته أيديها من ثروات وخيرات ، وما استخلفت عليه من رعايا، واستؤمنت عليه من قضايا.. وغيرِه مما يعكس أصالة شرعتها ونصوع مبادئها وأحقيّتها بأن تسود وتقود ، ليرى العالمُ ذلك منها رأيَ العين ، ويلتفت إلى ما أورد هذه الأمّة موارد الأمان والأمن، فتكون لهم آية ، وعنوان هداية ، ولكيلا تكون في الوقت نفسه فتنة للناس ومحط غواية، إن هي حادت عن منهاج ربها ، وغفُـلت عن قيادتها وريادتها ، وعطلت تبليغ رسالتها، فحرمت بذا جموع البشرية مما حوته هذه الرسالة من خير ، وانعقد في نواصيها من بٍر، وقد وعظـنا كتابُ ربنا تعالى أن نكون فتنة للغير بتميّع قيمنا وتأرجح مشاعرنا واضطراب أمورنا ، وفسادِ أحوالنا، فيظهر بذا عدوّنا علينا وتكون الغلبة والازدهار له لا لنا ، وقيم العدل وتعاطي الحقوق عنده لا عندنا ! فيظنّ حينها أنه على حق وأننا على باطل ، فيزداد فتنة على فتنة ، وفي هذا جاء قوله تعالى
(ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا)[ الممتحنة 4 ] .
ولتعلم أمة القيادة أنها ستقدم بين يدي الله تعالى على البشرية شهادة ؛ هل قبلت البشرية منها ما جاءت به من هدى؟ أم أنها نكبت عنه وأبت إلا أن تنزلق في مهاوي الضلالات والردى ؟ هذا ما قرره المولى جلّ شأنه في كتابه (هو سمّاكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكونَ الرسولُ شهيداً عليكم وتكونوا شهداءَ على الناس)[ الحج 78 ]، وأكّده المصطفى – عليه الصلاة والسلام - بقوله لجموع أمته : ( أنتم شهداءُ الله في الأرض، أنتم شهداءُ الله في الأرض ، أنتم شهداءُ الله في الأرض ) [ متفق عليه ] .
وإذا كانت أمة القيادة أمة ذات شهادة ، فإن الشهادة تقتضي العدالة لئلا تكون شهادة زور على البشرية ، وقد شهد الباري جلّ شأنه لجموع من أمة محمد – صلى الله عليه وسلم - بالعدالة لما تصدّروا لحمل الأمانة والنهوض بمسئوليتها الضخمة فقال(وكذالك جعلناكم أمّةً وسطا)[ البقرة 143 ] أي (ثقاتٍ عدولاً أخياراً ) [ فتح القدير للشوكاني 1/15] مبيّنا العلة (لتكونوا شهداء على الناس ) فأمّة الإسلام هي ( الأمّة الوسط التي تشهد على الناس جميعا ، فتقيم بينهم العدل والقسط ، وتضع لهم الموازين والقيم ، وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأيَ المعتمد ، وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم ، فتفصل في أمرها وتقول : هذا حق منها وهذا باطل ، لا التي تتلقى من الناس تصوراتها وقيمها وموازينها وهي شهيدة على الناس ، وفي مقام الحكم العدل بينهم ) [ الظلال 1/130] .
وعدالة أمة الإسلام ماضية ما أحيا فيها علماؤُها وولاةُ أمورها ومفكروها ومثقفوها علومَ شِرْعتها التي هي أمارة عدالتها ، ومنبع تزكيتها ، ومكمن نهضتها، ومبعث عزتها ، وطريق صون وحدتها وجمع كلمتها ، ومجلبة رفعتها وسؤددها ، وضامنٌ لديمومة مجدها ، وعدالة حكّامها باقية ما أعزوا شعوبهم ؛ فعلّموا ناشئهم ، واحتضنوا شبابهم ، وطبّبوا عليلهم ، وأطعموا جائعهم ، وكسوْا عاريَهم ،وأمّنوا خائفهم ، وآوَوْا مشرّدهم ، وأنصفوا مظلومهم ، وواسوْا مكظومهم ، وأغاثوا ملهوفهم ، وسّروا عن مكلومهم ، وآتوْا سائلهم ومحرومهم ، وأجلّوا عالِمهم ، وأكرموا عاملهم ، وشجّعوا باحثهم ، وقدّروا مفكّرهم ، وقادوا عجلة البحث والاكتشاف والاختراع والتقدّم والتطوّر والازدهار في أمتهم ، فإن هم أشاعوا هذه المعاني في الورى عن بصيرة ووعي ، وساسوا رعاياهم بذلك دونما شطط ولا بَغي ، أحدثوا بذا للمؤمنين مدّكراً ، وللباغين مزدجراً، وللبشريّة معتبراً ، وطاب لهم الحال والمستقر، وظلّ يُقتفى لهم في العالمين أثر ، وإن هم قلبوا لهذه المعاني ظهر المجن فتحوا على أنفسهم وشعوبهم وأمتهم أبواباً من الفتن.. ووقعوا جميعاً في أتون المحن.. فتلكم بشائر في كتاب ربنا ونُذر .