حزب الله: الظاهرة التاريخية
بروفيسور عبد الستار قاسم
15/حزيران/2013
يكثر على الساحة العربية منتقدو وشاتمو حزب الله هذه الأيام بسبب موقفه من الصراع الدائر في سوريا، وواضح أن شعبيته على المستوى العربي قد انخفضت، لكن هذا النوع من الانتقاد والشتم لا يغير واقعا، ولا يسبب تغييرا في موازين القوى في المنطقة، ولا يقلب طاولة أو كرسيا على رأس أحد. موقع حزب الله وقدراته ورؤيته للأمور ليست خاضعة للتقييم الشعبي، وهي متعلقة فقط بتأثيره على الواقع وتمكنه من السيطرة على الأوضاع الإقليمية أو المساهمة في السيطرة عليها وإدارة دفتها بالطريقة التي تتمشى مع رؤيته للمنطقة ككل وترتيب عناصر القوة فيها. التأييد أو الرفض الشعبيين مهمين في تشكيل السياسة العامة، لكن الحزب ليس مرشحا للانتخابات، وتبقى المواقف حياله متعددة تبعا للمواقف المذهبية والدينية والسياسية والأخلاقية.
بغض النظر عن المواقف المؤيدة أو المعارضة له، المادحة أو الشاتمة، يتميز حزب الله في التاريخ العربي الإسلامي بأنه ظاهرة تنظيمية سياسية جهادية فريدة ومتميزة، وتقدم نموذجا استثنائيا في المنطقة العربية الإسلامية، ومثالا نوعيا يستحق الدراسة والتوقف عنده بكل اهتمام وجدية لأن فيه ما يثري المعرفة الإنسانية في دقة التنظيم وحصافة الرأي وبعد النظر وجدية العمل وصدق القول والحرص على التطبيق، وما يعزز الثقة بالتاريخ العربي والإسلامي والحاضر والمستقبل. لقد قرأنا في التاريخ نماذج عليا في العدل والقوة والشموخ كسيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وسيرة صلاح الدين الأيوبي غفر الله له، ولكننا لا نقرا الآن فقط، وإنما نرى سيرة فريدة تختلف عن سِيَر من عرفناهم من حكام العرب الحاليين وتنظيماتهم وأحزابهم.
حزب الله ظاهرة تاريخية فريدة ومتميزة للأسباب التالية:
أولا: يملك الحزب رؤية واضحة بشأن الحاضر والمستقبل متصاحبة مع قراءة دقيقة للتاريخ العربي الإسلامي المعاصر. تقول هذه الرؤية إن العرب والمسلمين قد عانوا الذل والهوان بفعل ما صنعت أو لم تصنع أيديهم ففتحوا الثغرات التي نفذ من خلالها الطامعون والغزاة والحاقدون. خاب من ظن في نفسه العجز والاستضغار، وتفوق عليه كل من رأى في نفسه القدرة على الاستغلال. لقد هان العرب والمسلمون على أنفسهم فهانوا على الأمم، واستخفوا أنفسهم فاستخفت بهم الأمم. تمردت الأمم واكتسبت القوة وشدة البأس، إلا أغلب العرب الذين استطابوا البقاء تحت وطأة الاستعمار.
هذه أمة لا ترفع رأسها إلا بالقوة، القوة التي لا تعتدي وإنما تلك التي تحمي الحياض، وتنصر المظلوم، وتنتزع الحقوق. وإذا كان للأمة أن تنهض فإن عليها أن تعود إلى الجذور، إلى مبادئ الإسلام العظيم الذي يقوم على العدل ويستمر بالعدل، ويقاتل دفاعا عن العدل. وهنا الرؤية واضحة على الرغم من أن الحزب يتبنى فقها مذهبيا، وهي أن الإسلام إسلام، وأن المذهبية ليست إلا مجرد ممارسة شعائرية طقوسية وشبه فقهية، وأن مبادئ الإسلام التي تحرص على العدل وحمل الأمانة وتحمل المسؤولية والإعداد والتطوير العلمي والبناء الحضاري والعمل الدؤوب والمثابرة التي لا تؤوب لا يحتكرها سنة أو شيعة أو قدرية أو جبرية أو إسماعلية وإنما هي إسلامية فحسب.
القوة وفق رؤية حزب الله ليست الدبابة والطائرة والمدفع، وإنما الإنسان أولا. لا قيمة لدبابة يسوقها مهزوم، وكل الفعل لبندقية يحملها مؤمن يثق بالله وبنفسه وبقدراته على تحقيق الهدف. القوة بناء إنساني أولا، وتربية راقية تسمو بالمرء لتجعل منه متزنا متوازنا فكرا وقولا وعملا، وشجاعا دون تهور، وكريما دون إسراف، ومترويا دون إبطاء، وصاحب مروءة دون إفراط، وعاملا دون إجهاد، ومتواضعا دون هوان، وشديدا دون ظلم، ولينا دون انكسار. هذا الإنسان هو القوي الذي يتدبر بالتأكيد أمر الوسائل والأدوات اللازمة نحو تذليل الصعاب وتحقيق التطلعات.
ثانيا: للحزب رؤية سياسية محددة بالنسبة للمنطقة العربية الإسلامية وهي أن إسرائيل كيان مصطنع لا ينتمي للمنطقة، وهو تجسيد إجرامي للأطماع الاستعمارية والصهيونية في المنطقة، ويجب أن يزول إذا كان للمنطقة ان تنعم بالراحة والسلام يوما. الحزب لا يقبل بوجود إسرائيل، ولن يقبل بها أبدا، ويرى أن التخلص منها يتطلب الإعداد والاستعداد والنفير، وهو لا يحمل السلاح من أجل تحرير مزارع شبعا فقط وإنما من أجل تحرير فلسطين وكل الأراضي العربية المحتلة. وإذا كان لا يستطيع إنجاز ذلك الآن لأن أصدقاء إسرائيل من العرب يأبون. أما بالنسبة للمنطقة ككل، يرفض الحزب القطرية، ويرفض كل ما صدر عن الدول الغربية والمنظمات العالمية من قرارات بشأن التجزئة العربية الإسلامية وترسيم الحدود وإقامة الدولة القطرية. إنه يعتبر الحدود حدودا افتراضية فرضها الاستعمار الغربي بالقوة من أجل تحقيق مصالحه، ولا بد من إزالة كل هذه العوائق إذا كان للعرب والمسلمين أن ينبثقوا إلى أمة عظيمة لها شأن بين الأمم.
ثالثا: الرؤية بالنسبة للحزب تبقى نظرية ما لم تُمهر بالتطبيق، والتطبيق يتطلب الإرادة الصلبة والتخطيط الدقيق، والسهر الطويل، والجهود التي لا تكل ولا تمل. ولهذا حرص الحزب على تطوير الأمور التالية:
1- اكتساب القوة العسكرية لأنها تشكل الظهر القوي الذي يستند إليه في استكمال خطواته نحو تحقيق رؤيته. قدّر الحزب منذ البداية أن العالم هذا لا يحترم إلا الأقوياء، ولا يخشى إلا الأقوياء، وأن تطوير القدرات العسكرية سيشكل هيبة للحزب وردعا للآخرين. وقد مارس هذه القوة في بداية نشأته إذ فجر مقري القوات الأمريكية والفرنساوية وأجبرها على الهروب من لبنان فورا، ونجح أيضا في إسقاط اتفاق 17/أيار المهين والشبيه باتفاق وادي عربة واتفاقية كامب ديفيد. كان في إسقاط اتفاق أيار وتانك التفجيرين ما أقام دولة حقيقية للبنان. بقيت لبنان منذ قيامها مرتعا للجواسيس وأجهزة المخابرات، وميدانا للصراعات الفكرية والثقافية في المنطقة العربية، ولم تصبح دولة مهابة الجانب إلا مع ظهور حزب الله.
2- التركيز على العقيدة الصلبة التي تجد صدى لها على أرض الواقع. راى الحزب منذ البدء أن العمل هو المرآة الحقيقية لصلابة العقيدة، ولا عقيدة لمن ساء عمله ونام نهاره، وطالت صلواته على حساب إنجازه. ولهذا عمل على تدريس ديني عقائدي صلب غير متعصب، سنده الإيمان، وعنوانه التقوى بمختلف مراتبها: الشعائرية والاجتماعية والبنائية. رفض الحزب الكهنوت، ورأى ان كهنتة الدين ليست إلا اعتداء على المبادئ الإسلامية، ورأى في العلم والعمل والجهاد ترجمة حقيقية للعقيدة وصدقية الإيمان. وهذا بالتأكيد ما أسس لإنسان عربي مسلم جديد يستطيع الإنجاز دون جعجعة أو فهلوة أو تهريج أو مفاخرة خاوية.
3- بناء أسرة حزبية متكاتفة متضامنة غير متعصبة تحرص على أبنائها دون استهانة بحقوق الآخرين. أقام الحزب نظاما أسريا متميزا ويستحق الإعجاب والتقدير من حيث أنه عزز البناء الأسري تحت سقف البيت الواحد، وأسس أسرة القرية، ومن ثم أسرة مجموعة القرى، ومن ثم أسرة ابناء الحزب في كل البقاع اللبنانية. لقد ألف بين القلوب، وحشد الطاقات، واهتم بشؤون الناس الصغيرة والكبيرة وشكل أكبر أسرة متحابة ومتكاتفة عبر التاريخ. تنظيم حزب الله الأسري رصين وقوي ويشكل حالة تثير الاهتمام والدراسة، ومن المفروض دراستها وتوثيقها وتعميمها كتجربة إنسانية رائدة.
4- التأكيد باستمرار على الحوض الأخلاقي الذي يجب أن ينهل منه الجميع، فطور لمنتسبيه وذويهم حوضا أخلاقيا إسلاميا راقيا يوازن بين الفرد والجماعة، بين الصالح الخاص والصالح العام، ويبقي على الضمير الإنساني متيقظا وحاضرا في كل خطوات الإنسان. بنى الحزب أخلاقيات العدل وحمل الأمانة وتحمل المسؤولية والتضحية والفداء والعمل الجماعي والتعاون المتبادل، وأخلاقيات الإنجاز وحمل السلاح. وقد حرص الحزب في كل أمور البناء على وضع المعايير الأخلاقية لكل عمل، وبث الوعي الأخلاقي في عقول ونفوس المنضوين بين جنباته. وهذا ما أبهر أعداء الحزب من أهل الغرب، وقوض الكثير من خططهم وتآمرهم نحو تدمير الحزب. أبهرهم المستوى الأخلاقي الرفيع، والتماسك الأخلاقي المتين الذي يحافظ على قوة الإنسان الفرد وقوة المجتمع.
5- التأكيد على الفضائل الكونية التي لا تصلح أمة بدونها وهي الصدق والوفاء بالعهد والوعد وحفظ الأمانة والدفاع عن حقوق الذات والغير، وحفظ الأعراض واحترام الآخرين. وهذا ما يدفع العدو دائما إلى الاستماع إلى قادة الحزب وبالأخص السيد حسن نصر الله، ويأخذ كلامه مأخذ الجد.
6- فاه الحزب بقدر قدراته وطاقاته. الحزب لا يتشدق ولا يضيق فاهه بكلماته. هو يقول ما يستطيع أن يفعل، ولا يعلو سيفه على قامته. وهذا أمر لم يعتد عليه العرب عبر قرون، ودائما كان عليهم ان يسمعوا الوعود والخطابات الساخنة التي تنهار مع أولى الخطوات. الحزب لا يكذب ولا يخادع، وقادته حرصوا دائما على أن يكونوا صادقين، وتفوقوا بصدقهم على كل أعدائهم.
7- البراعة في التخطيط والتنفيذ بخاصة في أمور القتال الميداني. وقد ظهرت قدرات الحزب في الحروب مع الصهاينة. علت أقدام الحزب فوق الصهاينة، واضطر الصهاينة أن يهربوا من جنوب لبنان كالفئران تحت جنح الظلام عام 2000، وفشلت آلتهم الحربية عام 2006.
8- الحرص على مصالح الناس وطمأنينة حياتهم ولقمة خبزهم وكرامتهم وعزة نفوسهم والعدل فيما بينهم. يحرص الحزب على حاجات الناس اليومية، ويرعى شؤونهم وشؤون مرضاهم وجرحاهم، وشؤون أسر شهدائهم، ولا يغفل عن نقص معيشي قد يصيب أحدهم. وبعد حرب عام 2006، عوض الحزب المسيحي قبل المسلم، والسني قبل الشيعي.
العالم والعرب
بقي أن أكتب ملاحظتين:
أ- يصعب أن نجد على المستوى العالمي الآن دولة أو حزبا على المستوى التنظيمي والتدريبي والأخلاقي الذي يتميز به حزب الله. أمريكا ومجمل الدول الغربية تعي ذلك، والصهاينة يعلمون أن الحزب أرقى في ممارساته الاجتماعية والحربية والمدنية والسياسية من كيانهم. وهم يدركون تماما أن من يتفوق أخلاقيا يتفوق ميدانيا، ولوا تحالف أغلب الأنظمة العربية معهم لما استطاعوا البقاء.
ب- حكام العرب وقادتهم يناصبون حزب الله العداء ويعملون على تدميره لأن الأمين يكشف عورات الخائن. إسرائيل حبيبة أغلب الحكام العرب، وإذا كان لها أن تفشل أو تلحق بها هزيمة فإن عروشا عربية كثيرة ستهتز وربما تنهار. فكيف يحاربون حزب الله؟ ببساطة صناعة فتنة مذهبية بقيادة فاسقين يستغلون البسطاء من أبناء الأمة سنة وشيعة.
ونصيحة
إذا كان هناك من لا يعجبه حزب الله، فإن العمل الطيب هو الذي ينافس عمل الحزب، أما السباب والشتائم فلا تعبر إلا عن عجز وضعف. الإنجاز لا يقابله إلا إنجاز آخر مشابه وأفضل، والسباب يصنع غصة يمنع الهواء عن حنجرة القائل بها. اتقوا الله، واعتصموا بحبل الله. ولا يوهمن أحد نفسه بأن الحزب آيل إلى سقوط.