لندن: د. أحمد عيسى
هي أمي التي تستحق أن تكون كل أيام وجودها في الحياة عيداً تفوح فيه رياحين السعادة بها ومنها، وينغمر الضوء بسنا بسماتها، ولا أتركها - وأنى لي ذلك - حتى أهدي لها عن كل دمعة انهمرت شفقة علي، قبلة حب، وأهدي لها عن كل كلمة علمتنيها أو قصة نقشت في ذاكرتي دعوة سر، لو يعلم الأولاد قيمة الأم ما تركوا تحت قدميها، ولو تعلم الأمهات تأثيرهن على الأولاد ما وجدن أشرف وظيفة من الأمومة، ولكن العصر الحديث شهد غياب الأم ودورها، كما شهد عقوقها لا من قبل الأولاد فحسب، بل من قبل المجتمع الذي أغراها بالخروج وجعل الابن ينادي: أمي أين أنت؟! في هذا المقال نستعرض ذلك الاحتفال السطحي بالأم مع غياب عمق العلاقة التي تبني الأجيال، لقد وصل التفكك الأسري في الغرب (بريطانيا كنموذج) إلى درجة غيرمسبوقة، مما أدى إلى إصابة طفل من كل ستة بالأمراض النفسية، وربما تنتشر عدوى التفكك إلى بلاد الإسلام بحذافيرها، وإرهاصات نتيجة الغزو الفكري، والعنوسة والانفصال والطلاق والسفر، والمربيات الأجنبيات، والإلهاء بالإلكترونيات! وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات؟ لا أمَّ ربع الأسر في بريطانيا ذات عائل واحد، يرعون 3 ملايين طفل (270 ألفاً منهم بلا أم حيث يرعاهم ذكور، والباقي يرعاهم إناث). فقط 3% من هذه الأسر من أصل آسيوي، أما الأسرة المتماسكة التقليدية البريطانية - فقد قل متوسط حجمها من 3.1 إلى 2.4 فرد، وأصبحت تمثل أقلية متناقصة، ففي أقل من 40 سنة، انخفضت نسبة الأسر التي ترعى أطفالاً من 52% إلى 36%، وفقاً لتقرير مكتب الإحصاءات الوطنية البريطانية (1) عن أحدث الاتجاهات الاجتماعية 2009م، والذي علق قائلاً: «إن طبيعة الحياة الأسرية قد تغيرت كثيراً في السنوات الأربعين الماضية، وأصبحت الأسرة التقليدية قطعة متحف أثرية». لا وقت وجبات الطعام معاًً، ومشاهدة التلفزيون معاً، والعطلات والتسوق معاً كأسرة هي التسلية العائلية المفضلة في بريطانيا، ولكن واحدة من كل خمس من الأسر تعرف نفسها بأنها «الأسرة الرقمية والتلفزيونية»، حيث يقضون الوقت معاً في مشاهدة التلفزيون أو يلعبون ألعاب الفيديو، 11% فقط يعتبرون أنفسهم «أسرة الطعام»، حيث تدور حياة الأسرة حول الوجبات، و3% فقط قالوا: إنهم يقرؤون القصص. وتحاول هيئات عديدة تشجيع الآباء والأمهات لقضاء مزيد من الوقت مع أطفالهم، ولكن وفقاً للبحث فإن أكثر من نصف الآباء اعترفوا بأنهم لا يقضون ما يكفي من الوقت الأسري الجيد، واللوم يعود إلى العمل والمال والأعمال المنزلية في معظم الأحيان لذلك. يقول «كيفن ستيل»، الذي شارك في تأسيس الأسبوع الوطني للأسرة: «تأتي العائلات في جميع الأشكال والأحجام، ولكن ما يهم هو نوعية العلاقات، هناك توترات قوية جداً بين الحياة الأسرية، وطول ساعات العمل، والحاجة إلى كسب ما يكفي من الأموال لتمويل نمط الحياة في العصر الحديث» (2). وفي 2006م وفقاً لتقرير مكتب الإحصاءات الوطنية البريطانية، فإن المرأة العاملة البريطانية تقضي 19 دقيقة فقط يومياً مع أطفالها! وفي استبيان للأمهات العاملات اتضح أن 6% فقط يردن أن يعملن دواماً كاملاًً، أما نصفهن فيرغبن في دمج تربية الأولاد مع العمل الجزئي، بينما أعلن أكثر من الربع رغبتهن في أن يكن أمهات طول الوقت. تقول «ماري فاهي» محررة مجلة بريما: «لقد ظننا أننا نستطيع الحصول على كل شيء، وطمحنا في وظائف عالية وعائلات سعيدة، لكن بدأت التصدعات في الظهور. إن الحياة الأسرية تعاني ولا بد من التنازلات»(3). لا أسرة وطبقاً للتقرير عن الطفولة الجيدة - والذي أصدرته جمعية الأطفال البريطانية المستقلة - والذي اشترك فيه 11 من أشهر المتخصصين بينهم 8 من أساتذة الجامعات، فقد وصلت نسبة المراهقين في سن 16 سنة، والذين يعيشون منفصلين عن آبائهم إلى الثلث، والأطفال من عمر ثلاث سنوات الذين يعيشون مع أحد الوالدين فقط، أو أحد الوالدين مع رجل ليس هو الأب، أو امرأة ليست هي الأم، يكونون أكثر عرضة (ثلاثة أضعاف) للمعاناة من مشكلات سلوكية، مقارنة مع أولئك الذين يعيشون مع أبوين متزوجين، وكذلك الذين يعيشون مع والدين منفصلين «ويمثلون 50٪، هم أكثر عرضة للفشل في المدرسة، وتدني احترام الذات، ولا يحظون بشعبية مع غيرهم من الأطفال، ويعانون من مشكلات سلوكية، ومن القلق والاكتئاب». ويخلص التقرير إلى أن «تربية الأطفال هي واحدة من أكثر المهام الصعبة في الحياة والوضع المثالي يتطلب شخصين»(4). ناهيك عن زواج المثليين من الشواذ، والذي أصبح قانونياً في الدول الأوروبية التالية(5): الدنمارك والنرويج وهولندا وإسبانيا والسويد وأيسلندا وفنلندا وفرنسا ولكسمبورج وبلجيكا وألمانيا وبريطانيا. (وتبني اللواطيين للأولاد! في هولندا وإسبانيا والسويد وإنجلترا وويلز وبلجيكا). لا تربية وفي غيبة الأم جسداً أو روحاًً، يقضي الأطفال 21 ساعة أسبوعياًًًً في مشاهدة التلفزيون أو في ألعاب الفيديو أو الإنترنت، وأصبحوا بذلك هدفاً سائغاً لمشاهدة العنف ولحملات الإعلان غير المسؤول، كما يهلكون صحتهم بالأغذية السريعة غير الصحية، كما يقول التقرير: «يعمل معظم النساء الآن، واستقلالهن الاقتصادي الجديد يساهم في مستويات تفكك الأسرة، والتي تصل في بريطانيا أعلى منها في أي دولة أوروبية غربية أخرى»، فيشير التقرير إلى أن 70% من الأمهات البريطانيات (واللاتي لديهن أطفال في سن 9-12 شهراً) يعملن الآن مما يعني غيابهن عن المنزل أكثر مقارنة بما كان عليه الأمر قبل نحو 25 سنة، وبالتالي يترك الأولاد لغير الأم. وينذر التقرير أن نهم الكبار لتحقيق النجاح بشراسة هو الآن أكبر تهديد لأطفال بريطانيا، وأن الميزان يميل كثيراً جداً نحو الفردية في بريطانيا. «إن معظم العقبات التي تواجه الأطفال اليوم ترتبط باعتقاد الكبار أن الواجب الأساسي للفرد هو تحقيق الاستفادة القصوى من حياتهم، بدلاً من المساهمة في تحقيق الخير للآخرين»، ويصل البحث إلى أن الفردية المفرطة تسبب مجموعة من المشكلات بالنسبة للأطفال بما في ذلك: ارتفاع معدل التفكك الأسري، والقسوة في سن المراهقة، والضغط التجاري تجاه «الجنس» المبكر، والدعاية التجارية غير المسؤولة، والمنافسة الشرسة في مجال التعليم. يزعم البعض كما في(BBC)(6) أن عيد الأم كان قد بدأ عند الإغريق في مهرجان احتفالات عيد الربيع، وكانت هذه الاحتفالات مهداة إلى ما يسمى باطلاً بالإله الأم «ريا» Rhea، وفي روما القديمة كان هناك احتفال مشابه لعبادة أو تبجيل «سيبل»Cybele - أم أخرى للآلهة الباطلة، والبعض يقول: إن هذه الاحتفالات الرومانية بُدِّلت من قبل الكنيسة باحتفالات لتوقير وتبجيل مريم عليها السلام، وفي إنجلترا بدأت في عام 1600م عبارة «يوم أحد الأمهات» Mothering Sunday في الظهور، وفي المسيحية يكون أحد الأمهات هو الأحد الرابع من الصوم الكبير، وكان الخدم يرجعون لبيوتهم في ذلك اليوم لزيارة أمهاتهم مُحمَّلين بالهدايا والمأكولات التي تشمل كعكة الأمومة المعدة من القمح والحليب والسكر والتوابل. يقع هذا اليوم في الأحد 18 مارس هذا العام 2012م في بريطانيا. عيد الأم العربي يقال: إن فكرة الاحتفال بعيد الأم العربي بدأت في مصر على يد «مصطفى وعلي أمين» مؤسسي «أخبار اليوم»(7)، فقد وردت إلى أحدهما رسالة من أم تشكو له جفاء أولادها، وتتألم من نكرانهم للجميل، وتصادف أن زارت أحدهما أماً وحكت له قصتها أنها ترمَّلت، فلم تتزوج، وأوقفت حياتها على أولادها الصغار، وظلت ترعاهم بكل طاقتها، حتى تخرجوا، وتزوجوا، واستقلوا، ولم يعودوا يزورونها إلا على فترات متباعدة، فكتبا في عمودهما «فكرة» يقترحان تخصيص يوم للأم يكون بمثابة تذكرة بفضلها، وأشارا إلى أن الغرب يفعل ذلك، وشارك القراء في اختيار يوم 21 مارس، وهو أول أيام فصل الربيع، واحتفلت مصر بأول عيد أم سنة 1956م. العيد هو أن تعود الأم إلى دورها الفريد في القدوة والتربية، وأن يعود الابن إلى حضنها مطيعاً باراً، وتبقى العلاقة قوية دائماً كما كانت حين كان الابن جزءاً من جسد الأم وروحها داخل رحمها يكبر من رحيقها ودمها ونخاعها وتنفسها، وحين خرج من لبنها وحنانها وعطفها.. فكيف ينفصلان؟ هل التقاؤهما ينحسر ويتقزم إلى يوم كل عام على هاتف قصير، أو بطاقة في البريد، أو قطعة من ذهب، أذهب بريقها سهد الليالي وفراق الأيام؟! لقد غابت الأم - إلا من رحم الله - عن أولادها بانشغالها ويقوم بدورها في أحيان كثيرة حاضنة أجنبية أو شاشة إلكترونية أو مدرسة داخلية أو للأسف صحبة السوء ومغيبات العقل، لقد نزع الغنى من بعضهن الرحمة، فتخلوا عن فلذات أكبادهن للحاضنة الأجنبية يشربون منهن أخلاقاً وعادات ولغة غريبة، ونزع الفقر من بعض الأمهات الإنسانية، فكان وأد الأرحام وأطفال الشوارع. السباحة نحو النور الغالبية من النساء لا يردن بداية الإنجاب، وإنشاء أسرة إلا بعد سن الثلاثين. وطبقاً لجريدة «الديلي تلجراف» فإن أكثر من مليوني بريطانية يؤخرن بداية الإنجاب حوالي ست سنوات نظراً لغلاء المعيشة والسكن(8)، ويحذر الأطباء من ذلك نظراً لضعف الخصوبة مع تقدم السن، ووسط الإحباط البريطاني هناك دفقات نور ولمحات أمل وعبرة للغير، فقد استقالت أقوى امرأة سياسية بريطانية «سالي مورجان» التي كانت ذراع «توني بلير» اليمنى ومستشارته السياسية؛ لتقضي وقتها مع ابنيها المراهقين، واستقالت «جابي هنسلف»، المحررة السياسية لجريدة «الأوبزرفر» لتربي ابنها ذا الربيعين، وقالت في مقال لها بالجريدة تحت عنوان: لقد حصلت على كل شيء، ولكن لم تكن لي حياة، وذكرت أن ثلاثة أرباع قارئات مجلة «شي» يردن تقليل ساعات العمل حتى يتفرغن أكثر لأولادهن، وتقول: إنها «لا تأسف لوقتها في المياه المهنية العميقة، ولكن البقاء هناك لمدة طويلة من شأنه أن يكون قاتلاً، لقد حان الوقت لبدء السباحة نحو النور»(9).> الهوامش (1) http://www.statistics.gov.uk/socialtrends39/ (2) Happy families: The non-nuclear options The independent Sunday, 24 May 2009 (3) 19 minutes - how long working parents give their children Daily Mail- 19 July 2006 (4) A Good Childhood: Searching for Values in a Competitive Age- February 2009 Children's Charity & Child Support From The Children's Society | Kids' Charity & Children's Charities In UK | The Children's Society (5) Gay marriage around the globe BBC NEWS | Americas | Gay marriage around the globe (6) The History of Mother>s Day BBC - Norfolk - Extra - Mother's Day history (7) عيد الأم ! نبذة تاريخية ، وحكمه عند أهل العلم - محمد صالح المنجد | طريق الإسلام (8) Two million Britons delay having a family due to high housing costs Daily Telegraph, 18 Jan 2010 (9) t have a life> Gaby Hinsliff. The Observer, 1 November 2009 ليس اليتيمُ مَن انتهى أبواه من همِّ الحياةِ وخلّفاهُ ذليلا إنَّ اليتيمَ هو الذي تلقى له أمّاً تخلّتْ أو أباً مشغولا (أحمد شوقي)
http://magmj.com/index.jsp?inc=5&id=9244&pid=2399&version=134