كنت في زيارة لأحد أقاربي حيث تصادف وجود أبنائه و بناته و الأزواج و الأحفاد .....
الأحفاد?! ،ألا ما أروعهم ، كانوا يقفزون من حوله و من فوقه و من بين ساقيه كحمائم أليفة ، هذا يهاجمه مصارعا تارة و ملاكما تارة أخرى ، فيتخذ في مواجهته موقف المدافع ، و ذاك يطلق عليه رصاصه الوهمي من بندقيته الخشبية ، فيتصنع الإصابة ملقيا نفسه فوق أقرب أريكة فاغرا فيه مدليا لسانه جاحظا عينيه ، و تلك تسترق خطاها الناعمة لتفاجئه من الخلف قافزة على ظهره متشبثة بكتفيه ، فيثبت يديها الصغيرتين براحتي يديه الحانيتين ثم يدور بها بضع دورات حتى يدوخها و يدوخ ، فيقعا معا على الأرض ضاحكين ، و رابعة تشده مستنجدة ليحل لها مشكلتها مع إحدى ألعابها ، و ثمة صغير أخذ يلح عليه طالبا إعادة رواية إحدى الحكايات المثيرة . كانت سعادته بهم و سعادتهم به فوق كل وصف !
أما جهان إبنته الكبرى ، فكانت مكتئبة و من بينهم جميعا ظل فمها منكمشا و جبينها مقطبا و عيناها طافحتين و إن لم تفضا ، لولا أن علا عويل أصغر أبنائها من الداخل فانفجرت باكية و هي تدمدم : " هذا فوق إحتمال البشر ، لم يدعني أغفو طوال الليلة الفائتة ،هذا ظلم فكأن المرأة وحدها خلقت للشقاء " ، ثم التفتت إلى زوجها متمتمة ببعض غضب : " أنا بدوري إمرأة عاملة يا سليم ، ثم أنا لم أنجبه وحدي ، فكلانا شركاء ؛ ساعدني بعض الشيء في تحمل المسؤولية " .
هنا شدتني بعيدا عن عتابها الباكي الذي أثاره رضيعها المشاكس أو ربما المريض ، نظرة رمقني بها قريبي مشفوعة بابتسامة حملتا أكثر من معنى و حفزتا ذاكرتي للحال لتبرز على شاشتها الخفية ، لقطات مكثفة و سريعة من حكاية جهان . جهان الطفلة ذات السنوات العشر ، جهان المريضة و هي تصارع الموت ، جهان الموظفة النشطة ، ثم جهان العروس فالأم ؛ و إلى جوارها مع كل صورة وجهان حانيان ، وجه قريبي هذا و وجه زوجته المرحومة .
******
لم ينتبه والدا جهان إلى أن الأمر غير عادي ، إلا بعد أن أخذ سعالها يتكرر و يتلاحق ترافقه أعراض إختناقية ؛ كانا قد باشرا علاجها – شأنهما شأن معظم ذوي الدخل المحدود – وفق أعراف الطب الشعبي من مستحضرات العطارين ، إضافة إلى الحجامة و التبخير ثم انتقلت الوالدة – بناء على نصائح عجائز العائلة - إلى بيوت المشعوذين فمن قائل بأنها أصيبت بعين حسود و من قائل أن شيطنا قد تقمصها ، فاستجابت الوالدة لكل إرشادات هؤلاء- على الرغم من عدم قناعتها ، كمثقفة، بكل ذلك – و ذلك دون التماس أي تحسن ؛ و على العكس فقد تفاقم المرض فأقعدها ثم أخذ سعالها يتخذ شكل نوبات حادة مع ارتفاع حرارة جسمها ، و لكن عندما قذفت دما ، شعر الوالدان بخطر حقيقي ، فاستدعيا عندئذ الطبيب .
نظر إليهما الطبيب بإشفاق و لكن ببعض إرتباك ثم أخبرهما بأنه التدرن الرئوي أو السل الرئوي و أضاف : " هو في مرحلته الثانية فإن أفلحنا بإيقافه يكتب لها النجاة و إلا ... "
بكت الوالدة و أجهشت ، أما الوالد فقد أصابه ذهول لم يفق منه إلا عندما انتابت جهان موجة جديدة من السعال ، فهرع إلى ملابسه يرتديها ، و يخرج على عجل ليحضر ما وصفه الطبيب من أدوية .
و بروح تعاونية نادرة قسما واجباتهما الطارئة بينهما ، فهناك أبناء آخرون يجب الحرص على وقايتهم ، و تعليمات الطبيب بهذا الخصوص يجب أن تنفذ بدقة ، فغرفة جهان محظورة تماما على إخوتها و كذلك استخدام أدواتها و ملابسها . إنها حالة طوارئ باللون الأحمر .
و تعلمت الوالدة طرق التعقيم و ضبط مواعيد الدواء بأنواعه و قياس الحرارة و النبض و تسجيلهما على شكل خطوط بيانية ، و تعلم الوالد الحقن العضلي ثم الوريدي ، و كذلك تعودا على تناوب السهر إلى جانبها ؛ فحولا بذلك بيتهما إلى مستشفى حقيقي .
و بكل هدوء و شجاعة حصرا ما يمكن الإستغناء عنه بدءا من مصاغ الأم و انتهاء بمقتنيات الزينة ، كالمزهريات و الفضيات و الأوعية الصينية التي اعتاد الناس على اقتنائها ، ثم أخذا يبيعانها شيئا فشيئا ليتحول ثمنها إلى غذاء مركّز و علاج مكثف و أمل عنيد بأن ينقذا ابنتهما جهان من براثن الموت
*****
لم تحرز جهان تقدما ملحوظا ، فلجأ الوالد إلى طبيب آخر ذاع صيته مؤخرا ، فاستدعاه و بعد إجراء فحص دقيق مستعينا بالتحاليل المخبرية قرر لها عقارا جديدا باهظ الثمن يتم تناوله بالحقن بحيث كانت كل ثلاثة عبوات منه تعادل نصف مرتبه كمهندس طبغرافي في إحدى الدوائر الحكومية .
صدمة جديدة و عبء جديد ، جعل الوالدة تلقي برأسها على صدر زوجها مجهشة بالبكاء ، و أخذ الوالد يربت على كتفيها بحنان و هو يداري دمعه ، كان ذلك أول موقف عاطفي يجمعهما منذ أشهر امتزج فيه حبهما بدموعهما ، إلا أنه موقف حفزهما على مواصلة النضال ؛ فمنذ اليوم التالي قابل الوالد رئيسه شارحا له وضعه مطالبا بعمل إضافي يساعده على مواجهة محنته ، فاعتذر المدير إلا أنه أرشده إلى مهندس صديق ، فعمل لديه- و هو راض و ممتن - كرسام هندسي .
و ببطولة استوعبت الأم كافة الأعباء الداخلية لتفسح لزوجها مجال الإنصراف إلى عمله الإضافي المرهق ، كانت إذا فرغت من شؤون المنزل و احتياجات الأطفال ثم أسلمتهما إلى اللعب أو الفراش ، تنصرف إلى جهان ، فتجالسها و تقص عليها الحكايات و النوادر ، كانت جهان تمسك بيد أمها و تتشبث بها كأنما لتستمد منها الطمأنينة و الأمان ، كانت تتصور خطرا يتربص بها كخطر الذئب في قصة ليلى و الذئب ، أو خطر حلم يعقوب ، أو خطر منكر و نكير ، و تسأل أمها " ماذا لو كانت لي ذنوب هل حقا سوف يعذباني ؟ ، ماذا لو وجدت نفسي وحيدة في قبري ؟ ، كثيرا ما أحلم يا أمي أنني وحيدة في قبري أرتجف بردا و هلعا....!. "
أسئلة تتجاوز سنها و لا عجب فقد كانت من المتفوقين قبل أن يقعدها المرض ، و كانت منذ نعومة أظفارها فلسفية التساؤلات و غزيرتها ، و هاهي الآن تتفلسف حول الموت و ما بعده ؛ فقد أدركت معاناة والديها و متاعبهما المادية و الجسمية ، و تابعت بحزن و إحساس بالذنب مساومات والدها مع تجار الأثاث المستعمل و أصغت بأسى إلى همسهما حول ما تبفى من قائمة الموجودات المرشحة للبيع وشيكا ، ثم أخذت ترصد تأخر والدها المسائي و سهره أحيانا حتى الفجر و هو يرسم و يرسم ، و لاحظت عينيه بألم و هما تزدادان إرتخاء و عدم تمكنه من التحكم بعضلات جفنيه فانطلقت تتحرك كيفما شاءت ، فأيقنت أن ذلك كله ما كان ليحدث لولا مرضها ، فكان إحساسها بالذنب يضاعف من معاناتها من مرضها و خوفها من استفحاله ، لولا تلك اليد الدافئة و العينان الناضحتان بالحب و الوجه الباسم الذي كان يكلؤها برعايته الحانية ليل نهار .
*****
و ذات يوم قال لهما الطبيب : " لقد أفلحت بتعطيل المرض إلا أنني لم أفلح – للأسف - حتى الآن بإيقافه ، و أنصح بنقلها إلى مصح صدري في أحد المنتجعات الجبلية ، حيث الهواء النقي و العناية المتخصصة . "
مصاريف جديدة و أعباء جديدة و كالعادة واجهها الوالدان بشجاعة ؛ كانت أعمال البناء قد تضاعفت مؤخرا ، كما افتتحت الجامعة كلية الهندسة بفروعها ، فراجت تجارة الأدوات و المعدات الهندسية و جد فيها الوالد فرصة لدخل قد يسمح بتنفيذ توصية الطبيب المكلفة. فعمل بداية كوسيط ( سمسار ) ثم إكتشف إمكانية العمل لحسابه الخاص ، و إذ لاحظ أن الأمر مربح بادر لفوره إلى إدخال جهان إلى مصح صدري معروف .
فاضطرت الأسرة - نظرا لبعد المصح – إلى إستئجار منزل في قرية مجاورة ، و هذا ما أتاح للوالدة أن تزور ابنتها كل يوم مشيا على الأقدام توفيرا للمصاريف .
*****
و في يوم من تلك الأيام العصيبة ، ما كادت أم جهان تلتقط أنفاسها قادمة لزيارة ابنتها حتى وجدتها في غاية الإضطراب ، قالت جهان و هي تبكي بحرقة : " تقيأت نجوى زميلتي في الغرفة ، تقيأت دما ثم شهقت مرتين .. فقط مرتين ، ثم ماتت ... ماما أنا خائفة .. ماما يخامرني شعور أنني التالية "
هدأتها أمها ثم طلبت من الطبيب المناوب أن يبدد مخاوفها فأكد لها ، أنها في طريقها إلى الشفاء . و بعد أقل من أسبوع همست جهان بأذن أمها و هي تعانقها : " لم ينتبني السعال منذ الأمس يا أمي " كانت تلك العبارة بداية رحلة النقاهة لبضعة أشهر أخرى تكللت بالشفاء التام .
*****
تذكرت ذلك كله في ثوان تذكرت خروج جهان من المصح ، تذكرت عودتها إلى المدرسة و التهام ما فاتها من علوم ، تذكرت حفل زفافها ، و تذكرت والدتها التي ما أن إطمأنت على نجاتها من براثن الموت حتى عاجلها الموت . ثم تذكرت كفاح والدها و مثابرته و تصميمه على إنقاذ ابنته ؛ ثم التفتّ نحو جهان فهمست لها بسري : " و الآن تتذمرين من وعكة ألمت برضيعك يا جهان ؟ أنسيت كم سهر والداك من ليال أمام سريرك و هما يصارعان الموت لحسابك ؟!"