في ليل الصحراء الوادعة, يرسل البدر المكتمل أنواره الواهنة, على الكثبان والوهاد , أسمالا من الفضة اللامعة, تتوج أعراف الأحراش البرية , وترسم ظلالها الداكنة على تعرجات الكثبان . الأكف العريضة اليقظة تجس على مهل أديم الرمال, بقوائمها الممشوقة الفارعة .في سحر أثار الخطوات يكمن مجد الجسد ,ومن لهب العينين المتقدتين, تفيض شعلة الروح على الوبر البراق , رداءا من البهاء يجلل ثنائية الناب الأبيض , والمخلب القاتم , في الكف الذهبية . تردد الجبال من عليائها صدى العواء المهيب, المرفوع إلى البدر في علاه , ممزقا سكون الليل, وقد بث الفزع في المخلوقات , لتحاك الأساطير المتوهجة بالرهبة والإجلال.
جاس الوحش الجسور خلال التلال, معلما حدود حوزه, بروائحه التي تلقي الذعر في الضواري المغيرة ,وتفرض الاستكانة والخضوع على ذكور القطيع الفتية . أعيت حيله الصيادين,روع القطعان والقوافل . روى عنه البدو الأعاجيب: طاول ذكاؤه الغريزي ذكاء الآدميين , نصب الشراك ,وأحكم القبضة ,ركب صهوة الريح, ليدنو من معاقلهم المحصنة. رحل البدو عن قراهم التي عمروها لأيام قليلة, الى مراتع أغنامهم, التي بدت شحيحة المرعى , الشيخ المحنك, يأمر بنصب بيوت الشعر متراصة, لمجابهة الخطر الداهم , مستعيدا بذاكرته, تلك الرياح الهوجاء, التي كادت تقتلع الخيام , وكيف هاجمتهم الذئاب, عمت الفوضى ,وارتفع الصياح. تصدى ذئب مغير إلى اختراق الحضيرة, واهبا جسده طعما للكلاب المتجمعة فوقه. وعمدت بقية الوحوش إلى الأغنام المستباحة. هذه الذكريات الأليمة, ضاعفت من حذر الشيخ . كلاب الرعي, تتراجع في المواجهات التي يكون فيها الصراع مع الذئب الذهبي الضخم, تكتفي بنباح متقطع, مشعرة على الدوام بإنذارات مزيفة. تنصت الأمهات بفزع إلى حكايات بعولتهن, المتحلقين حول اللهب ,ويندس الصبية في عباءات آبائهم , بين رعب وانجذاب ,إلى التفاصيل الآسرة حول الوحش الغامض , تتداخل الروايات وتلتبس الحقيقة بالأضاليل , وتتراقص ألسنة اللهب الغضبى, وكأنها توقد من شرر في عيون الوحش .تذاكر الرجال رحلتهم لجمع المياه الراكدة من تجاويف الصخور, إثر ليلة عاصفة ماطرة , فوجئوا بغريمهم الأبدي متيبسا ,معفرا بالتراب ,اقتربوا ملوحين بعصيهم التي قلبوا بها الجثة الهامدة , يرصدهونها متنبهين, لساعة فلا تبدي حراكا...! إلا أنهم في طريق عودتهم أدركوا أن الحيوان الماكر قد عانق الرياح..... طلبوا نصيحة الرجل الكبير فزودهم بدقيق خبرته... ساردا قصة الوحش الذي ظل يطارده لعدة أيام, دون فتور, فحرمه غفوة الكرى, لكن الله ألهمه أن ينام مستندا إلى ركبة بعيره الجاثي ,مستوثقا ببصره الذي لا يغفو, وروحه التي تستشعر الأخطار البعيدة . روى الراعي قصة ظل يكتمها, عن الذئب ,الذي طفق يحفر تحت عنقه, وهو يغط في سباته العميق ,مستندا الى الكثيب , ولكن الصدفة أيقضته ,على أصوات مخالب الوحش, تحثو تراب قبره المنتظر!... نصبوا له الكمائن والشراك ,فلم تفلح, باءت المحاولات المبذولة في صيده بالفخاخ المثبتة إلى حجر مدفون بالفشل....فحاسة شمه العجيبة, تمكنه من النفاذ إلى الرائحة الحديدية العابقة .طاردته الكلاب ولم تظفر به, ولم تجن غير جراحها القاتلة....كابد الصيادون لأيام وليال مشقة تتبعه العبثية , وتبرعوا بجسد شاة هزيلة ,جعلوه طعما . انتظر الجميع أن يشق عواؤه في أسره الصمت, وقد أطبق الفخ ذو الأضراس على كفه الذهبية . أصوات طيور فزعة تقطع الصمت, فتوحي بوهم الظفر.., لكن الصوت الزاعق يغور عميقا في المدى. غير الصيادون مواقع الفخاخ ,معتمدين على ملاحظات الراعي المتعلقة بآثار جديدة لخطوات الوحش...وعمدوا إلى صبغ الفخاخ بروث الأغنام, لكسر حدة رائحة الصدإ.
يحدث أن يغفل الراعي عن أذكاره ,لكن هاجس الماكر الجواب يظل متعلقا بمخيلته, فقد جعلت منه المقادير قذى لعينيه ,في هذه البراري المتروكة نهبا للمكر والمفاجآت . فكان أول الحريصين على مراقبة الفخاخ , جد في أثرها, متمنيا سماع الصوت المنتظر للوحش الأسير.أضنت شهور الجفاف الطويلة كائنات البراري, فنفقت الطرائد وعلا بعضها الهزال . عمي الوحش المتضور من الجوع عن المكر البشري, أقعى تحت نور البدر , يتأمل وليمته العجفاء. تغلبت رائحة الروث الحادة ,والجوع الكافر, على الدهاء الغريزي. تشمم المكان وتفحصه, تلوى, غالب حزمه وصبره. الشاة العجفاء ترسل نداءها القاهر, تضطرب الأضلاع وينتصب الوبر ....فيخطو جاسا الرمال الباردة بحرارة جسده الملتهب, تعطل حدسه الثاقب, انزلقت الرمال تحت كفيه العريضتين, تلهفت الأضراس الصدئة, ململمة صقيع ليالي انتظارها الطويل , لينفجر البركان الخامد مصطكا بصوت مرعب, كتصدع الصخر , ذهول ,وغبار, والجسد الجبار الموثق يهتز ويعلو وينتفض, السلسلة المشدودة إلى الحجر, ذراع شيطان تثبته إلى حتفه. أما من أحد يفد لهذا القربان العظيم.؟! إستنفد الوحش الجريح بقسوة محاولاته الرعناء, وسدت دونه سبل الخلاص.وقد جلبت رياح القنوط رائحة أدمية ,لينغرز الناب المسنن المعقوف, في المعصم الذهبي, وهما اللذان طالما اتحدا ضد الموت والأسر والمجهول. الراعي الذي أحكم غلق الحضيرة, يقوم بجولاته الليلية , ينتبه لصدى الصوت يهتز وينقطع . يدنو صارخا كالملسوع , لتنصب في بصره الزائغ, صليات حانقة من عيون الوحش الملتهبة , فتسري قشعريرة الموت في بدنه .. ...قفل يعدو, مستنجدا صوب الخيام ....ولا يزال يدنو وهي تعلو, صارخا بجمل عديمة المعنى , يوقظ صياحه من في القبور , حتى هرع الرجال مسرعين إلى موقع الفخاخ , والذين استبقوا المكان أكدوا أن الوحش الجريح , كان يجتز بشراسة أوتارمعصمه الدامي, متملصا من قدره الأسود, أمام أعينهم المذهولة. وقد حدجهم بنظرة متسلطة. لم يكن الرعب مقتصرا على شدقيه الفاغرين, وانما انبثق من حدقتيه, شعاع مستطير, يشل الروح . بالرغم من جراحه النازفات, فلم يجرء أحد حتى على الاقتراب من تلك الخف الموتورة ,الغنيمة النادرة, وقد أطبقت عليها شفاه الآلة العمياء. حيث تراءى الثرى مضرجا بحمرة قانية.
الوحش الأسطوري, يهب كفه الذهبية, فدى لروحه, التي تتسامى عن الوقوع في الأسر. فقد تولهت بجماله الصحراء المنكوبة !, كما لم تتوله بغزلانها الراتعة ؟!.لقد كنت طيلة سنوات طفولتي, أتوق لفتح الصندوق الخشبي الأخضر, المكتظ بالأسرار...كلفا بتلك الكف العريضة ,ذات المخالب العاجية الحادة, المضمخة بروائح الأعشاب الجبلية, التي كانت قدرها في الحياة وفي الموت, متطلعا لتميمة جدتي الغامضة, مصدر إلهامي ودهشة صباي, أتأملها بجراحها الجافة البيضاء الغائرة .
18/10/2010