تنبئ المقدمات في غالب الأمر عن النتائج التي سنحصل عليها، لكننا نقع في مستنقع الأمل الكاذب، و نخوض فيه زمنا طويلا قبل أن نجد من ينتشلنا و قد غمرنا الوحل و العفن و الرائحة النتنة، و يعيدنا إلى ضفة المقدمات بعد أن اختبرنا قسوة النتائج و فظاعتها كاملة، لا أحاول هنا الخوض في تحليل أدبي لنص ما، و لكننا خلال عامين من أزمة تسمى السورية، لكنها في واقع الأمر عصفت بالكون من أقصاه إلى أقصاه.. فتكت بالبشر و الحجر و القيم و المعتقدات و الأخلاق، و حتى بمن اعتقدوا أنهم في مستودعهم تحت التراب في حرز أمين.
منذ بدأت الأزمة السورية، طمأننا أنفسنا بأننا شعب له حضارة و تاريخ عريق و أن ما يجمعنا يفوق بمراحل زمنية ما يمكن أن يفرقنا، و كنا في كل يوم من باب إستيلاد الأمل نقول " خلصت" ، على عجل و في غفلة من عين الرقيب المنشغل بأمور أهم، قطع المزارعون الشجر المزهر في ذلك الربيع، و غرسوا في منابته أوتادا إسمنتية عشوائية غير نظامية لتعلو الأبنية كنبتات خرافية لم تراقبها يد الزارع، و كانت دلالة على ربيع يزهر دمارا و دماء لوثت الجدران بكتابات لا تحمل شعارات، بل شتائم من ذلك النوع الخادش للحياء و المغرق في حيوانيته، و كأن هذا السباب كفيل بتحقيق هدف الحراك، و لم تسلم من هذه الحملة التشكيلية حتى حاويات القمامة و أبواب الحمامات العامة، و اعتقدوا أنهم بهذه السخرية الصبيانية يسخرون من دولة بأكملها، و يقضون مضجع أركانها، و ظهرت شخصية يسمونها الرجل البخاخ، يمتطي دراجة كهربائية و ينتقل بين الأحياء ليلوث جدرانها بأخلاقه القذرة و تربيته المتعفنة، لينتهي فيما بعد قتيلا غير مأسوف على غباءه ذات ليلة قارصة البرد و هو يعد لجولته التوسيخية " إن صح التعبير".
اعتاد شعب كان يحسد فيما قبل لنسبة الأمان التي يتمتع بها، أن ينهض فزعا في منتصف الليل على قرع الأواني المعدنية مترافقا مع التكبير و لعن أرواح الراحلين و الأحياء على حد سواء، و اعتاد هذا الشعب الآمن " سابقا" أن يرى أن قادة هذا الحراك هم ممن كانوا في الأصل شذاذ آفاق، و قاطعي طرق و معتدين على الحرمات العامة و الخاصة، و الفاشلين ممن لا عمل لهم، حتى تلك المرأة المقهورة في بيتها و التي تتوزع كل نشاطاتها ما بين مهمات بيتها و النميمة اليومية بين الجارات، و إن تسنى لها وقت تربية أولادها، نفس هذه المرأة ارتدت الأسود من رأسها حتى أخمص قدميها لتطالب بالحرية وبإسقاط النظام، و هي التي لا تجرؤ أن ترفع عينها في وجه زوجها، دون أن تطالها عاقبة ذلك ضربا مبرحا، أو طردا لبيت ذويها، فبدأت الانشقاقات على مستوى الأصدقاء، ثم امتدت إلى العائلات و الأسر لتصنع شروخا جديدة غير قابلة للرأب، و كأن هذه البيوت ينقصها أسباب التفرقة و التداعي، و تعودت الذاكرة السمعية أصوات الانفجاريات و الرصاص الحي و المقذوفات و الصواريخ و المفخخات، و تعودت الذاكرة البصرية منظر الجثث، مابين قتيل برصاص و ما بين أشلاء تجمعها حقيبة، يعرف صاحبها من حذاءه، و ضاعت من الموت رهبته وقدسيته، و صار ضيفا أثيرا في كل بيت، يحتفي بقرابينه غير المقدسة مجهولة الاسم، كل يوم في طقوس من الألعاب النارية غير الودودة،تحولت حيطان مواقع التواصل الاجتماعي التي وجدت أصلا للتواصل و التقارب، إلى لوحات إعلانية للسباب و تبادل الشتائم و وضع قوائم العار و قوائم الشرف و فبركة الأحداث و الأخبار الكاذبة و بث الفرقة و الطائفية و نشر غسيل تخلفنا الوسخ على شاشات الانترنت، لتعرف جميع الأمم أن خير امة أخرجت للناس ما زالت في مستنقعها الوسخ، تتخبط فيه كامرأة ثملة، من ينتشلها يضاجعها، و احتفى الكثيرون بإسقاط صورة المثقف و المحلل السياسي و العارف ببواطن الأمور و الإعلامي على ذواتهم المريضة، مع بعض المحسنات المطلوبة، مثل انفتاح الفكر و قبول الآخر و نبذ الطائفية، و التي كانت في الحقيقة عبارة عن كذبة كبرى سعرها مرتفع في أيام الثورات، و بدلا من أن تصبح النخبة القائدة لحراك المجتمع السياسي و الاجتماعي، انجرفت لتتأثر بأخلاق و فكر من يقودون الحراك، أولئك الذين لا يعون لماذا تحركوا،و انتشر التخوين و إصدار الحكم القاطع بالقتل بفتوى أعدت مسبقا لهذا الغرض، وبلا أي رادع أو وازع تلقى الجثث في الأماكن المهجورة و النائية تنهشها الكلاب و الجرذان قبل أن يجرؤ احدهم على ستر عوراتها تحت التراب، وبنفس الذهنية دمرت المنشآت و البني التحتية للدولة، و كأنها ليست من مقدرات نفس الشعب الذي يطلبون له الحرية، و ترافقت كل عملية تخريب أو قتل مع التكبير و التهليل و التحميد،و شهدنا انتقال الكثيرين من ضفة اليسار المتطرف نحو اليمين المتطرف، ليثبتوا دوما أن اليسار و اليمين وجهان لعملة واحدة.
قطعوا رأس تمثال أبي العلاء المعري في معرة النعمان، لأن التمثال وثن و هم يقيمون دين الله الحق و يجب القضاء على الأوثان، و ذكرونا بطالبان التي هدمت الأصنام البوذية لذات السبب .. في تلك اللحظة قلنا: نعم ... لربما توجع المعري في قبره لقطع رأس تمثاله! لكن هل يستطيعون المساس بفكر المعري المضيء و المهم في تاريخ الفلسفة الإنسانية ؟ و في حركة غير مستغربة من رجال الدين بدأوا واحد تلو الآخر بالانضمام إلى جوقة المطبلين و المزمرين للثورة، و نسوا أنفسهم عندما كانوا يلتمسون منحة من الدولة، أو دعوة لحضور مؤتمر، أو حلقة تلفزيونية، و باعوا شرفهم بالدولارات، فبعد أن كان شيخ محدثي بلاد الشام، صار شيخ محدثي قطر، و بعد أن كان أحدهم، و على مدى سنوات طويلة يقدم حلقة يومية في إذاعة سورية، عن ضرورة محاسبة النفس و تهذيبها و تقويمها، خرج إلى تركيا تلك البلد التي تجاهر بضلوعها في تخريب البلد، ليدعي انه ضد القتل و التخريب! و تمالئوا مع سادتهم في قطر و إسرائيل و أميركا، فدبروا استشهاد الدكتور العلامة محمد سعيد رمضان البوطي، في حادثة غير مسبوقة، لم يقم بها حتى حاخامات اليهود في تاريخهم المظلم،و لم يكتفوا بتحطيم التماثيل، و إنما تعدت شهوتهم المفرطة للتخريب و الانتقام من الأحياء، إلى الجثث الوادعة في قبورها، فقاموا بنبش قبر الصحاب الجليل حجر بن عدي لاستخراج جثمانه ، و لكنهم لم يستطيعوا هذا بفعل عمق القبر وتراكم الطبقات الأرضية على مرور الزمن، و حين فشلوا، قاموا باتهام الدولة و حزب المقاومة بسرقة رفات الصحابي، و نقلها إلى مكان مجهول، و بثوا عبر الشابكة صورة جثة لم تتحلل، و صاروا من المدافعين المنافحين عن الصحابي، بعد أن ملؤوا الصفحات سبابا، ليتبين فيما بعد أن الصورة تعود للشهيد عمر المختار، و في سابقة تسجل لهم وحشية و قذارة قاموا بأشد أفعال التمثيل بالجثث، ببشاعة لم تخطر حتى في بال كتاب أدب ما بعد الكارثة، و رأيناهم يشوون الرؤوس و ينتزعون القلوب من أمكنتها، لتلوكها ألسنتهم و هم يسبقون هذا و يتبعونه بالتكبير و الشكر لله.. و فقد الكثير من أبناء بلدي الكبير بيوتهم و أماكن سكناهم، و استقبلتهم الحدائق و المنتزهات و بيوت الله، لكن هذا لا يمكن أن يقارن بمن غادروا نحو مخيمات اللجوء في دول الطوق، حيث سامهم أبناء و حكومات تلك البلاد أقسى أنواع الإهانة، و اعتبروهم صيدا ثمينا يتسولون باسمه في المحافل العالمية، و رافق هذا نقص حاد في الخدمات و المتطلبات الأساسية، و تفشي الأمراض و الانتحار و الاغتصاب،و لم يشهد العالم في تاريخه إهانة لكيان المرأة السورية، إلا في هذا الربيع العاقر، فانتهكت كرامتها اغتصبت و بيعت و تجرأ عليها كل من كان يعتبر المرأة السورية حلما بعيد المنال، و هناك الكثير مما يمكن أن نرويه عن هذا الربيع الأعمى الذي أصاب حتى اللغة في مقتلها، و لم تعد الكلمات تشير إلى دلالتها الحقيقة، فبعد أن كانت الثورة تغييرا في حياة الشعوب، صارت تخريبا، و بعد أن كان الربيع بداية صار نهاية .. و بشعة أيضا.