في الثقافة التقليدية الشائعة، يعتبر رجال الدّين (في كل الأديان تقريبا) مالكين لما يمكن أن يوصف بـ«الحقيقة المقدسة» التي لا يطولها شك، ولا يشوبها خلل، وهي بالتالي غير قابلة للنقد، أو أي نوع من أنواع الإخضاع للمراجعة العلمية، باعتبارهم لا يقدمون وجهات نظر، بل تعاليم لاهوتية صارمة.
وتعد هذه التعاليم في الغالب تعاليم متأبّية على فهم المتلقي العادي، نظرا لاحتوائها جملة من الرموز، أو نظرا لخطابها الشمولي، الذي يحتاج لتفصيل وشرح وتقريب؛ ما مكّن رجال الدّين من الوقوف موقف الوسيط المبسّط والشّارح لتلك التعاليم المعقّدة والغامضة.
هذه الجهة المنظور منها إلى الدّرس الدّيني بشكل عام، أسهمت في تضخم الأنا «المعرفية» عند رجال الدّين، وهي حالة أسهمت بشكل كبير في تخلف الدراسات الدّينية عن بقية العلوم الإنسانية الأخرى.
تبدو الحاجة الآن أكثر إلحاحا إلى وجود دراسات «علمية» للدّين، في موازاة الدراسات الدّينية التقليدية القائمة في الغالب على مبادئ بيداغوجية/ تربوية.
وقد وفّر التّقدم المهم الذي حقّقته العلوم الإنسانية الوقت والجهد لبناء هذا المنحى في الدراسات الدّينية، حيث بالإمكان الاستفادة من المنجز العلمي في مجالات العلوم الإنسانية الأخرى، وبخاصة اللّسانيات التي قطعت شوطا مهما في البحث العلمي، وحققت جملة من المنجزات العلميّة اعتبرت ثورة في الفكر الإنساني برمته.
وفي هذا الإطار يمكن الزّعم بإمكانية تحقيق التكامل، والانسجام بين فروع العلوم الإنسانيّة، عبر بناء جسر للتواصل بين اللسانيات الوظيفية، وتحديدا النظرية اللسانية التي عرفت بـ«نظرية النحو الوظيفي»، وبين أطروحة نظرية مفادها أن ثمة «دوافع براغماتية»، أو وظيفية مسؤولة عن صوغ البنية (الخارجية/السطحية) للدّين ممثلا في مجموعة المعتقدات والتصورات والطّقوس والأشكال والممارسات الدّينية. وتفترض هذه الأطروحة أن للدّين وظيفة، أو مجموعة وظائف، تدور حول وظيفة مركزية، يمكن تسميتها مؤقتا وظيفة «دعم المصالح»، ويمكن تنميط هذه الوظيفة الأصل إلى وظائف فرعية عديدة كدعم المصالح الاجتماعية، أو النفسانية، أو الاقتصادية، أو السياسية.
تعتمد هذه الأطروحة جملة من المبادئ المنهجيّة العامة، من أهمها أن وصف الظاهرة الدّينية وتفسيرها الوصف والتفسير العلميّين، يعتمد مبدأ ربط البنية الظاهريّة للدّين بوظيفتها (دعم المصالح)، وهو المبدأ الذي يسمح لهذه الأطروحة بالانخراط ضمن اتجاه وظيفي عام للعلوم، يربط بين الوظيفة والتمظهرات للبنى الخارجية الشكلية، يجمع كل الاتجاهات الوظيفيّة اللغوية والاجتماعية والاقتصادية والدّينية والسياسية.. تحكمها أسس ومبادئ منهجيّة وظيفيّة عامّة.
ومن مظاهر هذا التكامل بين العلوم، أن هذه الأطروحة تقترح أنموذجا صوريا مستفيدة مما حقّقته اللسانيات في مجال بناء الأنحاء يشرح كيفية اشتغالها، يتكون من بنيتين أساسيتين: بنية تحتية تتضمن قائمة مفتوحة من الوظائف التي تسعى الأديان لتحقيقها، وبنية سطحية تتضمن كل الأشكال التعبيرية والاعتقادية الموصوفة بأنها دين.
وتعنى هذه الأطروحة «الوظيفية» بدراسة ما يمكن أن يطلق عليه «الدّين الطبيعي» الممارس بشريّاً في الواقع، في مقابل «الدّين النظري» المتضمن جملة القيم والمبادئ والطقوس التعبدية في شكلها المثالي الأنموذجي النظري.
وتجدر الإشارة إلى أن جميع الأديان (في هذه الأطروحة) متساوية من حيث وظائفها، ولا مجال لاعتبار التنميط التقليدي للأديان القائم على أساس أديان سماوية، وأخرى أرضية، أو وضعية (غير سماوية)، ما يعني أنه في الإمكان تحليل ظاهرة دّينية إسلامية، وأخرى يهودية، وثالثة بوذية، ورابعة وثنية، وخامسة إلحادية (باعتبار الإلحاد دّينا أيضا) بالمعادلة المقترحة نفسها، باعتبارها ظاهرة دّينية، وإن تعددت صورها الشكلية المتحققة على مستوى البنية السطحية، فإنها محكومة جميعها بالوظيفة المرصودة في البنية التحتية داخل الأنموذج.
تروم هذه الأطروحة وصف الظواهر الدّينية وتفسيرها، الوصف والتفسير العلميين عن طريق صوغ نظرية علمية قائمة على فرضية «وظيفية الدّين»، تسعى لإثباتها، وتصمم لهذه الغاية أنموذجا صوريا يخضع في استمرار للتقويم والتصحيح، متوفرة في الوقت ذاته على القدرة على التكهن بنتائج مستقبلية، والتنبؤ بالتطورات، متميزة بإمكانية نقدها، وفق اشتراطات أبستمولوجية تمكّنها من تحقيق جملة من الكفايات، ويمكن الزعم بأنها تتمتع بمرونة تسمح لها بأن تدمج من ضمن نظرية عامة أكثر شمولا.

ــــــــــــــــــــــــــــ
المصدر:
http://www.awan.com/pages/oped/292757