محمد جبّار الربيعي
العين تبقي على دهشتها عندما تبث الصور رائحتها
هل بالامكان الحصول علي حب الاخرين وامتلاك قلوبهم واهتمامهم بواسطة ما... إن فقدها شخص؟ سؤال طالما حيّر الجميع وربما أثار هذا الأمر إهتمام كاتب رواية (العطر: قصة القاتل) التي كانت الاكثر مبيعاً في العالم (ترجمت الي عشرين لغة ) والتي تحولت الي فلم بنفس الاسم.... الرواية لمؤلفها الكاتب الالماني باتريك زوسكند الذي كتبها عام 1985 بعد ان بدأ حياته موسيقياً فاشلاً ثم تحول الي الكتابة فأصبح صحفياً مشهورا وفاز بعد سنتين من كتابة هذه الرواية بجائزة كوتنبرغ لصالون الكتاب الفرانكوفوني وهو متفرغ الان لكتابة السيناريوهات السينمائية في باريس. حوّل هذه الرواية مواطنه المخرج ( توم تايكوير) الي فلم بعد ان دفع الممثل داستن هوفمان مبلغ 10 ملايين يورو للمؤلف ليوافق علي لتحويلها الي السينما وبعد ان رُفضت من قبل مخرجين كبار مثل ستنلي كوبريلي ,ريدلي سكوت ومارتن سكوسيزي بسبب صعوبة بل استحالة تحويلها الي السينما (كما قالوا) وقد شاهدنا للمخرج (توم تايكور ) افلاماً مهمة منها (باريس احبك )و (حقيقة) والفلم الشهير (اركضي لولا اركضي) وللحقيقة ان المشاهد عند مشاهدته لفلم العطر يتخيل ان الرواية كتبت لكي يخرجها هذا المخرج الحساس الذي صنع الفلم بشاعرية تحاكي الشاعرية التي طغت علي الرواية مع ملاحظة ان هذا المخرج الملهم ساهم في كتابة السيناريو وحتي في الموسيقي التصويرية للفلم .
الواقع الممزوج بالخيال
قصة الفلم مشبعة بالاجواء الخرافية وكأنك تشاهد اسطورة قديمة استوحت سرديتها من الواقع الممزوج بالخيال بخلطة فريدة وغريبة .... تتحدث عن جان بابتيس غرونوي(قام بدوره الممثل البريطاني بين شاو الذي شاهدناه في فلم تاجر البندقية مع النجم ال باتشينو) و غرونوي المهووس بالروائح يري العالم من خلال انفه وكأن حواسّه الأخري معطلة او متروكة ....وهو مأسور بالروائح بكل اشكالها .... ليست العطور والروائح الجميلة فحسب بل وحتي النتنة منها فالروائح عند غرونوي عالم ليس له حدود...... عالم من الأمواج الروائحية المتلاطمة والمتحاربة فيما بينها و الغلبة طبعاً للأقوي و الجديد علي ذاكرته الشميّة فهو يخزن هذا الكمّ المتناقض من الروائح في البوم الروائح الذي يحفظه بنهم..... ولد في اقذر بقعة علي وجه الأرض وأنتنها رائحةً.... ففي مدينة باريس القرن الثامن عشر وفي سوق سمك ولدته امه واستخدمت سكين تقطيع السمك لقطع حبله السري وحاولت التخلص منه كما فعلت مع اخوته الاربعة الذين سبقوه فرمته بين احشاء الاسماك النتنة فهو عبارة عن قطعة لحم صغيرة لايمكن تمييرزها بين الفضلات والاحشاء واللحوم الفاسدة وهكذا تخلصت من اخوته لكنه لم يكن مثلهم فقاوم الموت بشراسة بصراخه صراخا مدويا كشف الام وبعثها للمشنقة بسبب محاولتها لقتله كما فعلت مع إخوته.... (ويستمر يحمل النحس لكل من يرعاه فهم يموتون او يقتلون بعد تركه لهم او تركهم له ).... ومنذ طفولته تأسر غرونوي الروائح بشكل ملفت فيتبعها الي مسافات بعيدة وهو يتحسس الاشياء بانفه فيحس بالبرودة والحرارة واللزوجة والرطوبة وحتي تغوص حاسته الشمية الي المياه العميقة وتتجول فيها بكل حرية وهو مستلقٍ علي ظهره وقد ترك العنان لأنفه المسافر ..... وعندما يكبر ويذهب الي المدينة (بعد ان كان في ملجأ للايتام ثم مدبغة ) يسحبه انفه نحو امواج الروائح المتلاطمة ويظل يتبعها حتي تجره نحو فتاة يتعقبها مأسوراً برائحتها ليحاول التقرب اليها طمعاً في اشباع انفه المتعطش لتلك الرائحة لكنها تفزع منه و تصرخ فيحاول إسكاتها بالقوة فتختنق وتكون هذه الجريمة الاولي التي يرتكبها........
لكنه يثير استغراب المشاهد في عدم إكتراثه بموت الفتاة فكان كل ما يهمه اشباع هذا الانف الجائع علي الدوام ليمزق ملابسها ويبقي ينهل من رائحتها !! ويبقي بعد ذلك يتبع انفه ليقوده هذه المرة الي محل صانع العطور الايطالي بالديني(داستن هوفمان) الذي يكون مستعدا لتعليمه كيفية تثبيت العطور علي ان يبتكرها له وهو العمل الذي يكون بارعاً فيه.... ثم يسافر الي غراس ليقوم بقتل الفتيات ليستخلص روائحهن ليصنع العطر الذي يعتقد انه يحقق له الكمال ليلقي القبض عليه بعد قتله لابنة تاجر العطور الكبير السيد ريتشير(الان ريكمان ) ليُقدّم للاعدام في ساحة المدينة لكنه يستخدم العطر وهنا تحصل المعجزة فيتحول صياح الجماهير المطالبة بقتله الي طلب الرحمة له لانه (تقي وقِدّيس ) ويتركونه ليهرب ليعود الي باريس وفي سوق السمك محل ولادته يدلق زجاجة العطر كلها علي راسه ليتجمع عليه الناس وينهشوا جسمه ولا يتركوا منه سوي ملابسه ..... ولايتبقي سوي زجاجة العطر الفارغة التي تملأ الشاشة في اخر لقطة من الفلم وهي فارغة الا من قطرة واحدة .....غرونوي قاتل لكنه ليس ككل القتلة لا اعرف لماذا يقفز الي ذهني شخصية (اكاكي) الشهيرة في قصة (المعطف لغوغول) فتلك الشخصية سلبت معطفها فماتت من شدة الالم والخوف من الاخرين ثم تبقي روحه تسلب معاطف الاخرين، أما غرونوي فقد رائحته الخاصة فراح يسلبها من الفتيات الجميلات ويسلب معها ارواحهن ... هو قاتل لا تستطيع ان تكرهه كما لا تستطيع ان تحبه انت تشفق عليه وهو تركيبة عجيبة من المشاعر فلا يهمه حياة انسانة قدر مايهمه رائحتها فيطلب من احدي ضحاياه ان لا تتعصب حتي لا تتأثر رائحتها وبعد ان يعجز من جعلها تهدأ يقتلها ويستخلص رائحتها بهدوء وكأنه قام بشيء كان من الواجب فعله مع إنه لم يكن يريد قتلها هذه المرة.... وبرود الاعصاب الذي يقتلها به مذهل حقا اجاده الممثل بشكل كبير وليبقي المشاهد متحيرا في نوع مشاعره تجاه هذا القاتل العجيب الذي يحاول تخليد ضحاياه بأخذ رائحتهن وتجميعها في قارورة واحدة لتصنع هذه القارورة المعجزات ولنعود الي اهم محطة من محطات حياته والتي شكلت بداية دخوله الي عالم العطور وطريقة تصنيعها و الاحتفاظ بها عندما يلتقي بالديني المعتد بنفسه وبقدرته علي انتاج العطور والذي ابتعد عنه الناس بسبب فقدانه القدرة علي التنافس مع الخبراء الاخرين الذين ينتجون عطوراً جميلة كعطر (الحب والروح) الذي حصل علي شهرة واسعة ويحاول بالديني معرفة مكونات هذا العطر لكن انفه يخذله فيأتي غرونوي ليعطيه المكونات بفطرته وبأستخدام انفه وقدرته الشمية الخارقة ويعيد له الامل في عودته بقوة الي عالم العطور بأبتكاره عطورا رائعة له مقابل ان يعلمه فن حفظ العطور فيخبره ان العطر كالنغمة الموسيقية الذي يحتوي علي اربع روائح او النوتات المختارة بعناية لعذوبتها المتناغمة وكل عطر يحتوي علي ثلاث نغمات ( الراس- القلب والقاعدة) ممايتطلب 12 نغمة والتي تمثل بمجموعها العطر اما النوتة 13 فهي الرائحة الحيوية والتي تدوم الي الابد وهذه اسطورية لايمكن تحديدها ولا الحصول عليها.... وتبقي تلك الرائحة الحيوية هي مبتغاه والتفكير بها ياسره ويحاول الحصول عليها بأي ثمن..... ويتعلم طريقة تقطير رائحة الزهوراو( روح الزهرة ) فكما يسلب الرائحة يسلب الروح لذلك فهو يجهد علي استلاب روائح الفتيات وبالتالي ارواحهن....... ويتعلم طريقة تقطير تلك الروائح العابقة ليجمعها في قنينة واحدة لان الروح لايمكن ان تفني فهو بهذا يمتلك (كما يعتقد) طريقة لحفظ الرائحة الي الابد وعندما تتلكأ عنده عملية حفظ الروائح يمرض الي درجة ان الطبيب يخبر (بالديني) انه علي وشك الموت لانه كرس كل حياته لهذا الامر وفقدانه يعني ان لامعني لحياته وتعود اليه الحياة بعد ان يخبره بالديني أن هناك طريقة تُمكِّنه من حفظ الروائح وهو لايعرفها ويستطيع ان يتعلمها في غراس (بلد العطور) .... فيسارع الخطو الي غراس التي تستقبله بجمال (لورا ) وبرائحتها الأخاذة ويحبها (علي طريقته الشمية طبعا) فغرائزه كلها تتحول الي انفه وكأنه تحول كله الي انف ..... ويعرف منذ البداية ان رائحة تلك الفتاة هي العنصر(13) او الرائحة الحيوية التي يريدها والتي يتحتم عليه الحصول عليها .
سلب حياة الاخرين
ولو حاولنا معرفة السبب الحقيقي والدافع الذي يدفع غرونوي لقتل ضحاياه لراينا انه ببساطة يحاول الحصول علي شيء فقده و حرمه منه الناس فحاول استرداده بالقوة وهو مستعد لسلب حياة الاخرين للحصول عليه وهو ببساطة التقدير والاحترام والحب من قبل الاخرين والإعتراف بوجوده علي الاقل وبآدميته ... الإعتراف به كائناً بشرياً حياً يحِب ويحَب .... فقد عذّبته فِكرة أنهُ لايمتلك رائحة خاصة به والرائحة بالنسبة له تعني كل شيء وهو بأفتقاده لرائحة خاصة به فقَد وجوده اصلاً...(عبر عن عدم وجوده بمشهد الحلم الذي رآه لاول فتاة قتلها عندما أراد أن يظهر لها فتلفتت فلم تجد شيئاً علي الرغم من وجوده بقربها لكنها لم تحس بوجوده فهو غير مرئي بالنسبة لها ) لذلك فقد كرّس كل حياته لهذا الهدف الكبير بالنسبة له وهو استنباط رائحة خاصة به من روائح الجميلات ليحصل علي الكمال والاحترام الذي كان يتحرق اليه ... لذلك لم يكن يكترث لضحاياه ويقتلهن بدم بارد لانه يؤمن بسمو هدفه ..اولا ولأن الفتيات كنّ لايحترمنه (لايرينه)..... ثانياً , لذلك بكي في نهاية مشهد ساحة الاعدام عندما تخيل الفتاة الأولي وقد عانقتهُ بحب ولو ان ذلك حصل (لو انها اظهرت له بعض الحب او الود ) لما تجشم كل هذا العناء ولما ازهق تلك الارواح..... بكي بحرقة لانه احس بذلك الحب الذي فقده ......وافتقده ....لذلك يدلق قارورة العطر كلها علي نفسه في احتفالية خاصة به وتعمد ان تكون في مكان ولادته لتكون ولادة جديدة بالنسبة له وليمسح كل الماضي المرّ الذي عاني منه ويحصل علي احترام الآخرين والكمال .... لكنه بدلا من ذلك حصل علي الفناء .... الفناء التام بحيث لم يتبق منه سوي ملابسه التي وجدها الاطفال في الشارع ....
والحقيقة ان العطر الذي كرّس كل حياته لصناعته وعاش لأجله ومات وقتل الكثيرات بسببه لم يكن يحقق تقدير الاخرين واحترامهم بل كان يوقظ الغرائز الدفينة ويخرجها الي الخارج ويمارس من يشم ذلك العطر الغرائز بلا وعي منه ... ففي ساحة الإعدام كانت الغرائز النائمة عندهم الغريزة الجنسية وكانوا يكبتونها بقوة وجاء العطر ليفجرها وليمارسوه في الساحة وبلا وعي ... حتي رئيس الاساقفة ... فقد السيد( ريتشير) والد لورا الذي كانت غريزة الانتقام تسيطر عليه تماما فأستل سيفه وتقدم نحو غرونوي ليقول له انك لن تستطيع خداعي ويقترب اليه لكنه عند اقترابه منه .... من العطر تظهر عنده غريزة الابوة التي فقدها بفقدانه ابنته لورا ليعانقه باكيا ويسميه ولدي ... يتبناه بسبب العطر ولأن احد أهم مكونات العطر كانت رائحة ابنته وكأنه تذكرها ... اما في باريس وعندما اوحي له غروره أنه وبعد الذي حدث في ساحة الاعدام ومشاهدته لتأثير العطر علي الناس يعتقد إنه العطر الذي يحقق له ما يريد وإن العطر سيبقي يصاحبه للأبد إن هو دلقه علي نفسه في مكان ولادته ... ولسوء حظه ان المتسكعين الذين كانوا في الشارع عند دلقة للعطر كانت غرائزهم الاستحواذ وسلب الاخرين أشياءهم لأن معظمهم كانوا لصوصاً وشحاذين ومعدمين وجياعاً فنهشوا جسمه بالكامل ....فكانت نهايته وفنائه......
وكما تحدث الفلم عن خلطات ونوعيات وطرق صناعة العطور فقد كان مزيجاً عبقاً وخلطة رائعة من الخبرات والجهود والحس العالي فالرواية وخليطها الرائع من الافكار والصراعات المتلاطمة والتي عبر عنها المؤلف بدقة متناهية وهي تشكل العنصر الاول والمهم ثم عنصر الاخراج الذي كان أميناً في نقل الرواية الي السينما وتعامل معها بأحساس مرهف وتفانٍ واضح الي درجة انه جسّد الروائح وتأثيرها بحيث إستشعرها المشاهد وتنفسها ساعدهُ علي ذلك السيناريو( المستفز) من قبل الرواية لفريق العمل المتكون بالاضافة الي مخرج الفلم توم تايكوير من اندرو بيركن وبيرند اشنسر .. ثم عنصر التمثيل المتفاني للممثل بن شاو والذي احسسنا بتأثير الروائح الي درجة التعذيب والألم من شدة طغيانها وسحرها وطبعا الاداء المحترف للممثل المرهف الحس داستن هوفمان... يشاطره الاداء الواثق للممثل الكبير الان ريكمان وعنصر الموسيقي التصويرية لفريق اخر متكون من رينهولد هيل وجوهن كليمر بالإضافة الي المخرج توم تاكوير الذي عبرّ وارتقي بالصورة بشكل كبير وبتجانس مع ملاحظة غلبة الاصوات الاوبرالية البشرية فيها والتي اعطت احساسا مضاعفا بالتوحد لعكس الحالة النفسية للبطل والمقاطع الاوبرالية اعطت حيوية وانسانية في التصعيد الدرامي بالاضافة الي الموسيقي الحالمة المصاحبة للأحداث وكذلك عناصر الفلم الاخري كالمونتاج والتصوير والديكور......كلها شكلت مجموعة متناسقة وخليطا متناسقا بقوة ... ثم هناك خلطة من الجنسيات المختلفة التي شكلت ايضا تلك الخلطة الفريدة فالرواية والاخراج كانا المانيي الجنسية والممثل بن شاو اعطي النكهة البريطانية وداستن هوفمان والاخرون اعطوا النكهة الامريكية كما انه مثل دور (بالديني) صانع العطور الايطالي ومكان الاحداث اعطي نكهة فرنسية ... فشكل فلم العطر تجانس كل تلك العناصر التي ملئت رئاتنا بالاحاسيس الجميلة التي لايمكن نسيانها بسهولة وقد تبقي في ذاكرة المشاهد لفترة طويلة جدا ... وربما هي الخلطة التي كان علي غرونوي أن يبحث عنها.
عن (ألف ياء العراقية)