حسين حمزة و"العين الثالثة"
د. نـبـيـه القــاسم
"الناقد كيان ثقافي مهم للمبدع ذاته وللحركة الثقافية وللقارئ، خاصة في مجتمعنا حيث لم تصبح القراءة بعد عادة اجتماعية، وما زالت الثقافة الشفاهية هي سيدة الموقف لدينا."
هذه الكلمات قالها الناقد المصري الدكتور حلمي النمنم في معرض تناولة لبؤس وفقر الحركة النقدية في مصر (مجلة المصور، عدد 4237، 23 ديسمبر 2005 ص 50).
وفي حركتنا الأدبية المحلية تعلو بشكل دائم الشكوى من قلة النقاد ومستوى النقد، وتُوَجّه أصابع الاتهام إلى كلّ الاتجاهات. وقد تكون في هذه الشكوى بعضُ الحقيقة ، وفي هذه الأصابع المتهمة قليل من الصدق. وبالمقابل نجدُ مَن يكتبون النقد يُبخسون الحركة الأدبية المحلية حقّها ويؤكدون على المُراوحة والعَجز، وفَقر الابداع المُتميّز بين جيل التسعينات.
وكوني أحد المُمارسين لكتابة النقد، ومَن اهتم، على مَدار عقدين من الزمن، بمُتابعة الحركة الأدبية وتناول معظم الأعمال التي صدرت، فقد كنت من المُشيرين إلى فََقر جيل التسعينات، خاصة في الشعر، إلى هذا التفرّد والتميّز الابداعي الذي عَرفناه في الأجيال التي سبقت لهم.
لكن إلى جانب هذا الفقر في العطاء الابداعي، فقد حظيت ساحتنا الثقافية بالعديد من الدراسات والبحوث الجديّة في مختلف التخصصات، منها الأكاديمية ومنها الذاتية، لكن هذه الدراسات لم تحظ إلاّ بخبر عابر في الصحيفة يُعلن صدورها. كما أننا شهدنا ونشهد في السنوات الأخيرة زَخم العطاء المسرحي الذي يُخرج الانسان من ركوده، ويضعه أمام حقائق الوجود، ويدفعه ليُعاودَ رسمَ الأحلام والآمال ويسعى نحو آتٍ أفضل. ونُراقب بحذر هذا التسابق في الكتابة للأطفال لما يضمن من عائدات ماديّة سخيّة في نهاية كل عام، الأمر الذي يستدعي المراقبة والتقييم والمُحاسبة.
أعرف وأتفهم سببَ عزوف النُقاد عن التعرّض لما يصدر من كتابات شعرية أو نثرية في ساحتنا الأدبية المحلية، حيث أنّ الرغبة في الابتعاد عن المواجهة غير المُتفهمة وغير المُتساحمة مع الشعراء والكتاب هي طريق السلامة. ثم أنّ هذا الاتهام المستمر غير الصادق للكتابات النقدية بأنها تتمحور ما بين المَدح والقدح، وتتركز حول شلل الأصدقاء والأقرباء، وتفتقر للمنهجيّة العلمية، هو سبب آخر لتباعد النقد وحتى تَوجّهه نحو ساحات بعيدة عن المحلية.
كنت ولا أزال من الذين يرون أنّ لكل جيل مُبدعيه وكُتابَه وشعراءَه، ولهذا يجب أن يستنهض هذا الجيل من بين أبنائه نقّادَه أيضا. وأبناء جيل التسعينات الأوفر حظا بامتلاك المعرفة والثقافة بما توفره وسائل الاتصالات المختلفة والمعاهد العليا المفتوحة والمتيسرة.
وحسين حمزة واحد من المتميزين من جيل التسعينات، فاضافة إلى دراسته الجامعية المتواصلة فهو فعّال في الحياة الثقافية المحلية. واهتماماته الأدبية، خاصة في مجال الدراسات الأكاديمية والنقدية، تؤكد أنّ لدينا صاحبَ موهبة نقدية وباحثة تشدّ الانتباه وتبشر بالكثير.
وثبّتت اقتناعاتي هذه بحسين حمزة دراساتُه النقدية الأخيرة التي جمَعها في كتابه الأخير (العين الثالثة- دراسات في الأدب. منشورات مواقف 2005).
ففي دراساته السابقة التي نشرها وأصدرها في كتابين هما:" صور المرايا عام 1999 و مراوغة النص عام 2001" كان يهتم أن يبرز معرفته ويُدَللَ على موسوعيّته ويؤكد أكاديميته، فيكثر من الاستشهادات مشيرا إلى أصحابها ومصادرها، ويُبهر القارئ بمصطلحات جديدة لم يعهدها من قبل. واللافت للانتباه أكثر كانت رغبته في تطبيق المنهج الذي يتبعه على النص الذي اختاره بالقوّة. ولم يكن حسين وحدَه الذي اتّبع مثل هذا النهج فغيره فعلوا ذلك في بداية مشوارهم النقدي خاصة خلال دراستهم الجامعية.
فأن يتّبع الناقد الأدبي مَنهجا متكاملا في دراسته لعمل ابداعي هذا هو المطلوب، شرط أن يتوفّر النص وأن يتوافق والمنهج الملائم. المناهج الأدبية مُتوفّرة ومُتكاملة ومُترسّخة ولكن افتقارَنا للنصوص الابداعية المتميّزة وغربة مَنبتها بكلّ ما يتميّز به هذا المنبتُ من تراث ومفاهيم وتطوّر فكري واجتماعي وديني وفلسفي واقتصادي يجعلها قاصرة عند اخضاعها للمنهج الذي كانت له منابته المختلفة والمتنوعة. لهذا يكون التنافر والتضاد بين النص مهما تميّز وتفرّد والمَنهج المُختار لدراسته.
ناقدنا العربي، والمحلي في كثير من الحالات أيضا، يأخذ من المنهج شكلانياته فيتوسّع في أحصاء عدد الأفعال وزمنها، ونسبة الجمل الفعلية للجمل الاسمية ودلالاتها، وتقدّم الفاعل على الفعل أو الخبر على المبتدأ، وفي استخراج الاستعارات وتنوعاتها وفي رسم الخطوط البيانية، وفي استحضار العديد من أسماء المصطلحات وشرحها وما قالوا فيها، وأحيانا يُسَوّد الصفحات العديدة ليشرح أو يُحلل أو يُراوغ كلمة أو جملة، فيجتهد في استخراج أقوال كلّ مَن كانت له كلمة أو قول ليَستشهد به. وأحيانا تكون المقالة المُطوّلة مجموعة اقتباسات مُتراصة إذا ما أعَدنا كلاً منها إلى مصدرها وصاحبها عاد للصفحات بياضُها ولم يبق مُسوَدّا فوقها غيرُ اسم الناقد المحترم.
بقايا هذه البدايات النقدية المهتمة بابراز سَعَة المعرفة والاطلاع نجدها في مقالة حسين حمزة حول رواية نجيب محفوظ "أولاد حارتنا" (ص131-150) حيث يُحيلنا في الهوامش إلى ثلاث وسبعين إشارة تدلنا على المصدر المستقاة منه الجملة المقتبسة أو الفكرة.
يُصَدّرُ حسين حمزة كتابَه بعَرض جَمرات النقد -كما رغب في تسميتها- التي أراد أن يحدّد من خلالها منهجَه النقدي الذي يتّبعه، وموقفَه من الآراء المختلفة في الساحة الأدبية المحليّة على وجه التحديد. لكنه كان حذرا في حسم موقفه وظلّ يُراوح فيما بينها لتتبلور رؤيته أكثر كما أعتقد. لكن حسين كما يبدو يميل أكثر إلى موقف الناقد الفرنسي رولان بارت المُهمّش لدَور وأهميّة المؤلف ساعة تناول النص الأدبي. وذلك في قوله: "ترصد الكثير من المقالات النقديّة ظلال الشخص من منظور لانسوني مبالغ فيه فيما أعتقد. وأجرؤ على القول إنّ أسماء معيّنة سطع نجمها ثم أفل بناء على ذلك" (ص3). ورغم موافقتي على انتقاد هذا الموقف الخطر في عملية النقد المُبْرِز والمُضَخِم صاحب النّص على حساب النص الابداعي، إلاّ أنني أحذر من تجاهل المواقف والآراء والممارسات اليومية لصاحب النص المناقضة لكل ما يتضمنه نصّه، فنغفر له سلوكه ونُبَوّئه مكانة لا يستحقها. فأن نعتمدَ النصّ وحدَه ونتجاهلَ صاحبَه أو نهتم بصاحب النص ونتغافل عن النص هو ما يُبقي عملية النقد ناقصة وقاصرة. لأن مسؤوليّة الناقد لا تتحدّد فقط في دراسة النص من النواحي الجماليّة وإنّما على الناقد مسؤولية تنبيه الكاتب وأيضا القارئ، واختراق مَسارب المعرفة وآفاق الفكر، والسّعي لتأمين تحقّق واقع أفضل وأكثر إسعادا. كما أنّ حسين حمزة ينتبه إلى خطورة اعتماد الناقد على نقاط مُعيّنة لابرازها في النص، وهدف الناقد يكون صاحب النص، وذلك بإعلاء قيمة النص أو تسخيفه وإلغائه. ويُنبّه حسين وبحق، ومن خلال تجربته في كتابة النقد، إلى خطورة "إسقاط النظرية النقدية الغربية في مرجعيتها على النص المحلي المُنغمس في ظروفه وشروطه المكانية والتاريخية. أو تجاهل وجود هذه النظريّة".(ص4).
يتناول حسين حمزة في دراسته الأولى قصص الدكتور نجيب نبواني التي كتبها للأطفال ويقسمها إلى قسمين:
أ- القصص المعربة، وهي القصص التي ترجمها من اللغة العبرية.
ب- القصص المؤلفة التي كتبها للأطفال.
ويتركز في تناوله على القصص المؤلفة فيتوقف عند ملامح مميّزة فيها تتمحور في: البدايات والشخوص والنهايات والعناوين. وفي تناوله للبدايات يتحدّث عن الزمن كعنصر مهم في تكوين البدايات ويميّز بين نوعين من الزمن: النمطي والواقعي. ثم يتناول عنصر المكان وتمركزه في القرية مع وجود بعض الأماكن التي تخرج إلى عالمها المختلف والبعيد عن القرية. كما ويتناول عنصر الحَدث ويعتبره عصَبَ النص ولحمته، ويعرضه بأشكاله المتنوعة. ويبرز أهمية العنوان على اعتباره مفتاح النص وعتبتة، وأن ترتيب العنوان يعطي دلالة تُسهم في تشكيل وإنتاج معنى النص، كما يقول (ص28). والعنوان هو المَدخل الأساسي لقصص الأطفال وبنيته تتعلق بمعايير أساسية هي: الشخصية والحدَث والفكرة المركزية (ص30).
ويتناول في دراسته ل" موتيف الموت في شعر محمود درويش" مفعوم الموت وأهميته في حياة كلّ انسان وكيف أنّ الانسان وظّفَ اللغة لتكون وسيلته في مُواجهة الموت لأنّ اللغة كما يراها "كيان مجرّد تملك خواص التحوّل وتستطيع التساوق مع الموت لاعتبارهما كيانين يحتوي فيهما الموت على اللغة، وتحاول اللغة أن تتمرد على الموت بالشعر أو بأيّ لون فنيّ آخر".(ص69) ويُوزّع حسين حمزة موتيف الموت عند الشاعر محمود درويش الى أربعة أقسام ، يحمل كل قسم مفهوما متشابكا مع المفهوم الذي سبقه وهي:
أ- مغناة الموت 1964-1974 وتمتد من مجموعة أوراق الزيتون عام 1964 الى مجموعة أعراس سنة 1977، ويتجلى فيها موتيف الموت لكونه ماديّا وخارجيّا يطغى فيه المجموع كواقع خارجي على أنا الشاعر. ومعجم الشاعر قريب من المفهوم المعياري للغة. وكانت النظرة التفاؤلية تبدو واضحة في نصوص هذه المرحلة.
ب- مأساة الموت 1977- 1983 وتحمل هذه المرحلة الشعور بمرارة المصير وتصوير الموت بوقائعية مشهديّة حرَكيّة، دون أن يكون فيها تمجيد بالمعنى المُبتذل أو مسحة تفاؤلية لفعل الموت. ويظهر نوع من التوازن بين حضور الأنا في القصيدة واللحن المُتمظهر جماعيّا. وكذلك يأخذ الإيقاع الشعري للأسطر في التباطؤ والانتقال من لغة المباشرة الى لغة التوشيح الاستعاري.
ج- مساءلة الموت 1983- 1995 في هذه المرحلة يرى حسين حمزة أنّ الشاعر محمود درويش بدأ بالحضور أكثر في مساحة النص الشعري وانتقل من محاولة التوازن السلبي ورثاء الذات والوحدة إلى محاولة سؤال الذات والمجموع.
د- مواجهة الموت 2000. وتبدو في هذه المرحلة التي واجه فيها محمود درويش الموت الفعلي حيث وصل إلى حالة من المصالحة مع الذات لأن الموت كما قال هيجل يعني " تصالح الروح مع ذاتها". لكن الشاعر يصل إلى يقين أنّ الموت قد ينتصر على جسده الماديّ الواهن، لكنّه هو يستطيع أن ينتصر على الموت باللغة، بحروفها الغامضة التي تملك قوة فواتح السور في القرآن الكريم وتملك خاصيّة الحياة.(ص92)
أمّا في دراسته لرثاء الذات في سربية سميح القاسم " كلمة الفقيد في مهرجان تأبينه" فيبدأها بتأكيدة على نَدرة قصائد رثاء الذات في الشعر العربي، ثم يقف على أهم ميّزات قصيدة الذات في:
1- أنّ لا مَنطقيّة رثاء الذات تُفضي إلى تخيّل عالمَي الموت والحياة.
2- يُعَرّي الشاعر ذاته فتصبح القصيدة مرآة للذات لا مديحا لها.
3- تبتعد عن الحكمة وتكون قصيدة بَوح تُفصح عن أحلام وواقع الشاعر.
4- علاقة الشاعر بالزمان والمكان تُصبح هامشيّة ولا قيمة لها ويكون صوت القصيدة وجوهرُها هو البوح والموقف من الحياة.
5- تحمل قصيدة رثاء الذات ثنائيات أساسيّة يفرضها الموقف ولكنها ثنائيات جَدليّة من العلاقات المُتصادمة فيما بينها أو المُتجاورة.
ِويتوقف حسين حمزة في تناوله لسربية سميح القاسم عند محورة التضاد فيشرح مفهومَه للتضاد ومن ثم يبيّن المحاور المتضادة في السربية من خلال توقفه عند العناوين المهمة التالية:
أ- العنوان بين الصوت والصمت. ب- البداية - النهاية. ت- الذاكرة - المحو. ث-الذات – القناع أو هاملت العربي. ج- العَمى والبَصيرة. ح-الولادة – العُقم. خ- الذكورة – الأنوثة.
ويصل إلى نتيجة أنّ الشاعر سميح القاسم "قد وظف تقنية التضاد بكل تجلياتها من طباق ومقابلة وإثبات ونَفي، في نسيج نصّه الشعري، ولم يتوسّله أداة تعبيريّة بمفهومها البلاغي القديم، وإنما منحها تضاد الموقف وبذلك فقد نجح في توظيف تقنيات التضاد متجاوزا دلالاتها الجزئية إلى الكليّة، حيث تشابكت دلالاتُ التوظيف وتفرّعت بناء على السّياق الشعري في سربية القاسم ممّا يمنحه سمَة التحديث في هذا المجال".(ص 130).
ويتحرّر حسين حمزة من إحالة القارئ إلى الإشارات والمصادر كليّة في تناوله لرواية محمد علي طه " سيرة بني بلوط" التي يُوضح من البداية أنّها سَرد للوجع الفلسطيني المُتوزع على موتيفات أساسيّة ومركزيّة ذوّتتها الذاكرة الجماعيّة للانسان الفلسطيني. وأنّ الكاتب لم يسرد الواقعَ التاريخي في قالب روائي بل أنّه حكى التاريخ في قالب روائي، ولهذا تنتفي صفة التوثيقية من فعل الكتابة لتصبح الحكاية مُحاورة ومُساءلة لفعل التاريخ في الزمان والمكان والذات على المستوى الخاص والعام سواء بسواء.(ص152-153). ويتوقف عند الموتيفات التي حدّدها وهي: أ- وجع الذات. ب- وجع المكان. ج- وجع الحكاية. ويصل إلى النتيجة أنّ الوجعَ الذاتي يمتزج بالوجع العام فتنهض الحكايةَ/الأسطورة لتشكل وعيا جديدا في الذاكرة وفي تعريف الذات وتحديد الأسئلة.(ص166).
أكتفي بتناول هذه الدراسات التي تؤكد على التطوّر النقديّ البارز والقُدرة التي تتأصّل عند حسين حمزة حيث لم يعد يهتم باظهار مَعرفته الموسوعيّة واستعراض عضلاته في الوقوف عند مختلف المصطلحات ليشرحها ويُفسرها ويُقدمها للقارئ ويُحيله إلى عشرات المصادر التي اعتمد عليها. وإنما هو يُقنعنا بهضمه لهذه المصطلحات واستيعابه للكثير من مفاهيم النظريات النقديّة.
المرجع
موقع الكاتب نبيه القاسم
http://www.nabih-alkasem.com/hamza1.htm