مركزية القدس والأقصى: فلسفة الإحساس بالمنطق (الحلقة الثانية)
كما أوضحت في الحلقة الماضية أن حديثنا عن مركزية القدس والأقصى في العقيدة والفكر الإسلامي وعلاقتها بـ"فلسفة الإحساس بالمنطق" سنضعه في سياق سنن التدافع والصراع بين بيني البشر، دفع الباطل بالحق والكفر بالإيمان والشر بالخير ... كما أن حديثنا سيتناول بُعدين رئيسيين، الأول: البعد العقائدي الديني. والثاني: البُعد الفكري والإستراتيجي، أي أهمية موقع فلسطين الجغرافي والإستراتيجي، في تاريخ السياسات والصراعات الدولية. هناك قضية مهمة وجوهرية حاضرة بقوة في الفكر والشعور واللاشعور في المجتمعات الغربية النصرانية، حاضرة في تفكير وحياة الغربيين سواء على صعيد الفرد أو المجتمع، وتتردد على ألسنة الخاصة والعامة، الجاهل والعالم، رجل الدين ورجل السياسة، وخاصة أتباع المذهب البروتستانتي، كما أنها حاضرة في وسائل الإعلام الغربية وخاصة الأمريكية منها بشدة، وكثير منا قد يكون لفت انتباهه في الأفلام الأمريكية كلمات مثل: الأخيار والأشرار، الطيبون والأشقياء أو السيئون أو ما شابه، وذلك على صعيد المجتمع الغربي نفسه، ويزداد ذلك المفهوم العقائدي عند الغربي وضوحاً عندما يتعلق الأمر بالعلاقة بينهم أو بموقفهم من الإسلام والمسلمين، فتصبح عقيدتهم وقيمهم الاجتماعية الغربية وكل ما هو غربي هو الخير المطلق والإسلام والمسلمين هم الشر المطلق، وتتجسد تلك العقيدة في أجلى صورها في عقيدة الهر مجدون التي يؤمن بها معظم الغربيين وخاصة النصارى البروتستانت، والتي في عقيدتهم الدينية النصرانية ستكون المعركة الفاصلة بين الخير المطلق الذي يمثله الغرب النصراني وبين الشر المطلق الذي يمثله الشرق الإسلامي، وأنه سيتم فيها القضاء على الشر قضاءً مبرماً وإبادة المسلمين إبادة نهائية، وينتصر الخير المتمثل في النصرانية وقيم المجتمع الغربي انتصاراً ساحقاً!.
تلك العقيدة لدى الغربيين تعود في أصلها إلى تصورهم العقائدي الديني لعلاقتهم بغيرهم من بني البشر، وعلى أساس ذلك التصور والمعتقد الديني ينقسم البشر في نظرهم إلى قسمين، أخيار وأشرار، طيبون وأشقياء سيئون، لا تبتعد كثيراً في مفهومها عن ما قدمناه في الحلقة الماضية عن أن سنن التدافع والصراع بين الخلق جعلها الله تعالى أحد النواميس الإلهية التي تحافظ على التوازن واستمرار الحياة البشرية على الأرض، وأن الله تعالى يدفع الباطل بالحق والشر بالخير والكفر بالإيمان ... وذلك هو حقيقة تاريخ بني الإنسان منذ أن خلق الله تعالى أبينا آدم في الجنة، لغاية إلهية لجعله خليفة له سبحانه في الأرض. قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة:30). وقد تمثل الشر والتحدي الأكبر لأبينا آدم في الجنة في إبليس الذي عزم على الانتقام منه ومن ذريته من بعده، لأن معصيته - الشيطان - واستكباره ورفضه تنفيذ أمر الله تعالى بالسجود لآدم كان سبباً في طرده من الجنة وحرمانه من رحمة الله تعالى. قال تعالى:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة:30)
وقد كان إباء واستكبار إبليس عن السجود لآدم سببه الأنا وحب الذات والتعصب للأصل. قال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} (الأعراف:12).
فكان أول أنواع الشر وأعظمها الاستكبار، وسيكون ذلك هو أصل كل الشرور على الأرض بين بني آدم بعد هبوطهم إليها، وهو الأصل في شقاء بني الإنسان وسبب حروبهم وعدائهم. وقد أسكن الله تعالى أبينا آدم وزوجه حواء الجنة وأمرهما أن يأكلا مما فيها إلا شجرة واحدة. قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ} (البقرة:35). وفي الوقت نفسه حذرهما من الشيطان بأنه عدو لهما فلا يخرجهما من الجنة، أي ألا يوسوس لهما ليأكلا من تلكم الشجرة. قال تعالى: {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} (طه:117).
ولكن الشيطان الذي طُرد من الجنة وحُرم من رحمة الله بسبب استكباره عن السجود لآدم، وتوعدهما بأن يغويهم ويخرجهم من الجنة، ويدخل أكبر عدد من ذرية آدم النار، كان لهما بالمرصاد. قال تعالى: {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ. وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ. قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ. قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ. إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ. قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} {ص:77 ـ 83}. وعند أول فرصة له للانتقام وسوس لهما وأغراهما وأوقعهما في ما حذرهما الله منه؛ وأكلا من الشجرة التي نهاهما الله عن الأكل منها. قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ. وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ. فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (الأعراف:20 ـ22).
وإن كان سبب طرد إبليس من الجنة هو أنانيته واعتزازه بأصله واستعلائه على آدم لشعوره بأنه خير وأفضل منه فاستكبر عن السجود له فعصى أمر الله تعالى؛ فإن سبب هبوط آدم وزوجه من الجنة كان أولاً الغفلة والنسيان. قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} (طه:115). ثم الطمع في الملك والسيطرة والهيمنة والخلود، وذلك هو سبب بلاء وشقاء الإنسانية. قال تعالى: {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَى} (طه:12). تلك الغفلة وذلك الطمع في الخلد كانا السبب في هبوط أبينا آدم إلى الأرض، وشقاء ذريته فيها بسبب ما ينشأ عنهما من عداوة بين بني آدم. قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} (البقرةـ:36).
ولم يتركً الله تعالى بني آدم بعد هبوط أبيهم آدم إلى الأرض من دون توجيه أو إرشاد لِما يمكن أن يصلح به حالهم، ودون أن يزودهم بالمنهج الذي يمكنهم به تحقيق الاستخلاف في الأرض، قال تعالى:{قُلْنَا اهْبِطُواْ مِنْهَا جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة:38). وفي الوقت نفسه حذرهم الله تعالى من الشيطان وعداوته لهم، وحذرهم من أن يفتنهم ويوقعهم في الفحشاء والمنكر، ويوقع بينهم العداوة والبغضاء وغير ذلك مما يخالف منهج الاستخلاف لبني آدم في الأرض، فيكون سبباً في دخولهم النار كما كان سبباً في فتن أبويهم وإخراجهما من الجنة. قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} (الأعراف:27).
وعلى الرغم من معرفة بني آدم بسبب هبوط أبويهم من الجنة إلى الأرض، ومن معرفتهم أن الشيطان عدو لهم، إلا أنهم لم يتعظوا ولم يتعلموا! ولذلك استحكمت بينهم العداوة التي قررها الله تعالى: {اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}، تلك العداوة التي علمها وأدركها الملائكة من خلال ما علموه من الله تعالى عن طبيعة آدم البشرية، وأن تلك الطبيعة من القوة والضعف والهوى والرغبة ستكون سبباً في العداوة والقتل والإفساد بين بني آدم في الأرض. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة:30). وقد كان أول جرائم بني آدم وعداوتهم؛ القتل، قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ. لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ. فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (المائدة: 27 ـ 30). وسوف تتالى بعد ذلك جرائم بني آدم فيما بينهم وتتنوع، وسينقسمون إلى قسمان رئيسيان، هما: أهل الإيمان والخير والصلاح من أتباع المنهج الإلهي والعقيدة الصحيحة. وأهل الكفر والشر والفساد والاستكبار الذين أغواهم الشيطان وهيمن عليهم وجعل منهم جنوده ضد إخوانهم من بني آدم، وسيحكم الصراع والعداوة العلاقة بين الطرفين إلى أن يرث الله الأرض ومَنْ عليها.
وقد آثرت الحديث عن عداوة إبليس لآدم في الجنة وسبب تلك العداوة، وعن سبب هبوط أبوينا من الجنة،؛ لعلاقتهما بواقع الصراع والحروب والعداوة بين بني آدم في هذا العصر وكل عصر، فالعالم اليوم منقسم إلى فريقين، دول الشمال الغني، الدول الغربية النصرانية ومن لف لفها، التي يجمع بينها وبين اليهود عقيدة الاستكبار والاستعلاء العرقي، ونظرية سيادة الرجل الأبيض على الأرض وهيمنته على كل شعوب الأرض ومقدراتها، ويسعون لفرض هيمنتهم السياسية والاقتصادية والثقافية على الشعوب المستضعفة بشتى الوسائل والأساليب، وحملها على تبني قيمهم الغربية المادية، ويمارسون أبشع عمليات الإبادة ضد كل مَنْ يرفض ويقاوم تلك الهيمنة، سواء الحروب العسكرية السافرة، وما يرتكبونه من قتل وحملات إبادة واستئصال جماعية، أو الحروب الاقتصادية وتدمير اقتصادات الشعوب الضعيفة وصناعاتهم الوطنية، بفرض أجنداتها عليهم وإغراقهم في الديون التي يعجزون عن الوفاء بسدادها، وإكراهها على فتح مصارع دولهم أمام سلعهم ومستثمريهم، أو من خلال تدمير مقومات قوتهم ووجودهم العقائدي والثقافي، وتفكيك مجتمعاتهم وبناها وأنساقها الاجتماعية القائمة واستبدالها بقيمهم الثقافية والاجتماعية الغربية، وذلك ليسهل عليهم إفساد شبابهم وإلغاء عقولهم واختراقها بثقافتهم وإلحاقهم بها.
وبين قوى الخير والصلاح في تلك الشعوب التي تدفع بكل ما أُتيت من قوة ووسيلة مشروعة ذلك الطوفان المادي الشيطاني الجارف والماحق القادم من قوى الشر الغربية للقضاء عليهم، تلك القوى التي تتهمها قوى الشر والاستكبار العالمي بـ(التطرف والإرهاب)، أو التخلف والعداء للتقدم والمدنية والحضارة ... وغير ذلك، وتُعِد العُدة للقضاء عليها في المواجهة المحتومة التي لا مفر من وقوعها، ليتم القضاء عليها واستئصالها عن وجه الأرض، وتسود بعدها قيم الغرب المادية، تلك المواجهة هي معركة الهر مجدون. ... يُتبع
( تم تصحيح الآية الكريمة في الحلقة الثانية ) ,,,,,, بواسطة رهام