مـــــــــن أجــــــــل لغتنـــــــا؟!
د. محمد مكي الحسني
في سنة 1939 صدر كتاب (أخطاؤنا في الصحف والدواوين) لمؤلفه صلاح الدين الزعبلاوي، الذي كان مضى من عمره 27 سنة فقط! وقد قرظ هذا الكتاب فريق من الأدباء وعلماء اللغة في الوطن العربي، ذكرهم نجل المؤلف في كلمته.
وبعد ذلك بمدةغير قصيرة، توسع خلالها الأستاذ الزعبلاوي - رحمه الله- في الاطلاع على كثير من كتبالنحو واللغة والأدب العربي وكتب النقد، بدأ في سنة 1978 ينشر مقالات في مجلة مجمعاللغة العربية بدمشق، وهي دراسات عميقة تعالج موضوعات عظيمة الشأن، وتنم على اطلاعواسع جداً، وعلم غزير، ونظرات ثاقبة، وقد خالف فيها آراء بعض النقاد اللغويينوالمجمعيين بالدليل المنطقي كان يصدر في رأيه عن تأمل وروية، وفي حكمه عن تدبروبصيرة، ومع ذلك لم يكن ينكر لنفسه أن تخطئ أو تزل، ولعقله أن يهفو أو يضل: «وليسامرؤ يفوق أن يضل أو يزل» كماقال في مقدمة أحد كتبه.
وقد أورد المؤلففي عدة مواضع من هذا المعجم كلاماً يبين بوضوح منهجه في معالجة مسائل الخطأ اللغويومما قاله:
«الأصل في النقدبيان علة الخطأ، فإذا كان بعض القراء لايبالون هذه العلة، فإن في ذكرها مايقنعالقارىء بسداد النقد، ويعلمه كيف يتجنب الخطأ في أشباهه، ثم يحمل الناقد على التثبتفيمايقول فيكون منه على بينة».
«ليس يحسن أننسلك نهجاً نحظر به جائزاً وننكر مستقيماً، وإلا حار الكتاب في أمرهم ماذا يأخذونوماذا يدعون بل التبست عليهم وجوه القول واختلطت طرائقه».
«لايزال النقاديعيبون كثيراً من الكلام الصحيح، بغير دليل وفي ذلك مجلبة لارتياب الكتاب وترددهمواختلاط الأمر عليهم، لايدرون أي قول يأخذون به».
«لايكفي للحكمبصحة اختيار حرف الجر لمعنى من معاني الفعل، أن تعود إلى المعاجم وحدها، كما يفعلبعضهم فيخطئون، بل لايغني في هذا أن تطلع على ما في كتب النحو لتعرف مايطرد فيهاستعمال كل حرف، إذا لابدمن المشاركة في تحصيل مافي كتب الأدب وعلوم اللغة للتبصربكيفية تصريف حروف الجر وتحديد معانيها».
«ليس ثمة مايدعوإلى الدربة والدراية كاختيار حرف الجر لتصريف الفعل في مواقعه المختلفة، إذا لايكفي في ذلك أن تستعين بالمعجم أو تسترشد بكتب النحو، بل لابد لك من متابعة تقلبالأفعال في كلام الفصحاء شعراً ونثراً واختلاف صلاتها من حروف الجر باختلافمواقعها».
«لايحسن الناقدأن يقتصر في التخطئة والتصويب على اعتماد نصوص المعاجم، بل ينبغي أن يأخذ بنصيب ماجاء في كتب اللغة والتفسير والأدب، وحظ ماجاء في دواوين الشعر وصحف الرسائل ومصنفاتالقوم.. إذ لاوجه لجمود المعنى في اللفظ، كما يبدو ذلك حيناً في كثير من النصوصالمعجمية، ومن ثم كان تعويل كثير من المحدثين على ظاهر النص، والاستغناء به عماسواه، مخالفاً لأصول ارتقاء اللغة، وتحول معانيها، وتدرج دلالاتها، واختلاف طرائقتعبيرها بتحول العصور وتعاقب الأجيال».
جمع المؤلفالمقالات المنشورة في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق في كتاب صدر سنة 1984 عنالشركة المتحدة للتوزيع والنشر، عنوانه: «مسالك القول في النقد اللغوي» وعدد صفحاته 408.
وكانت جريدة (الثورة) الدمشقية قد بدأت تنشر للأستاذ - بعد أن أحيل إلى التقاعد- كلمات لغوية فيركن عنوانه- (أخطاء شائعة) تارة، و(لغة العرب) تارة أخرى، ثم جمع عدد من هذهالكلمات في كتاب (لغة العرب) الذي صدر سنة 1983 عن جريدة الثورة، ويقع في 128 صفحة،واستمر نشر كلمات الأستاذ الزعبلاوي في ذلك الركن اللغوي.
بعد ذلك نشرت (دار المجد) سنة 1989 كتاب (مذاهب وآراء في نشوء اللغة وتدرج معانيها)، للأستاذالزعبلاوي، وهو كتاب يتصل معظمه بفقه اللغة وصرفها، ويزيد عدد صفحاته على 300 وكانتمجلة (التراث العربي) التي يصدرها (اتحاد الكتاب العرب) بدمشق قد بدأت سنة 1988بنشر سلسلة مقالات للأستاذ وكلها تتسم بالعمق والشمول، وهذه أيضاً جمعها مؤلفاهافيما بعد في كتاب أصدره (اتحاد الكتاب العرب) سنة 1992 تحت عنوان (مع النحاة) أماصفحاته فعددها 450 تقريباً.
قرأت الكثير منمقالات الأستاذ في مجلة مجمع دمشق ومجلة التراث العربي قبل أن أتعرف به شخصياًوسرعان ما نشأت بيننا صداقة أساسها حبنا المشترك للعربية سألته مرة: لم لاتعيد نشركتابك القديم (أخطاؤنا في الصحف والدواوين) الذي مضى على صدوره أزيد من نصف قرن،وتضيف إليه الكلمات المنشورة في جريدة (الثورة) إنها ثروة لغوية ضخمة، وعظيمةالفائدة فأجابني بأنه فكر في ذلك، وبدأ ينسق الكلمات المنشورة في الجريدة على حروفالهجاء وينقحها، ويضيف إليها كلمات جديدة غير منشورة، وإن المشكلة التي تواجهه هيأن يجد داراً للنشر تحفظ له حقوقه..
وقد أتاهاليقين- رحمه الله- في 13/10/2001 قبل أن تتحقق رغبته وأمنيتي!.
ومضى وقت طويلقبل أن أبحث مع أنجاله الأفاضل ضرورة إنقاذ هذا التراث اللغوي، وأبدي استعداديبالتعاون مع الأخ الأستاذ مروان البواب، إعداد هذه التركة النفيسة للنشر، فوافقواشاكرين، وحملوا إليّ كيساً فيه قصاصات الزاوية اللغوية من الجريدة، والكلماتالجديدة غير المنشورة، التي مازالت بخط المؤلف، منسوقة على حروف المعجم كما تركهاالفقيد.
ولابد لي هنا منأن أشير إلى الجهد الكبير الذي بذله الصديق العزيز الأستاذ مروان في قراءة القصاصاتقراءة متأنية وتضمنت خطة الإعداد:
1- تخليص النصمما اعتراه من تصحيف، وتحريف، وأخطاء مطبعية، وضبط الكلمات التي تحتاج إلى ضبطتفادياً من خطأ القراءة الذي قد يشوه المعنى.
2-مقابلةالمقتبسات بالكتب والمعاجم المقتبس منها.
3- تخريج الآياتالقرآنية وضبطها بالشكل.
4- وضع أرقاممسلسلة لفقرات المعجم، والعزو إليها في الفهارس.
5- إضافةالفقرات التي وردت في كتاب (أخطاؤنا في الصحف والدواوين) وكتاب (لغة العرب)، والتيلم ترد في أصول هذا المعجم، (بلغ عددها 80 فقرة، أي نحو 7٪ من العدد الكلي لفقراتالمعجم).
6- الإشارة تحتعنوان الفقرة إلى تاريخ نشرها في الجريدة، إنها مأخوذة من كتاب (أخطاؤنا في الصحفوالدواوين) أو كتاب (لغة العرب)، أما الفقرات غير المنشورة في الجريدة (وهي قليلة) فقد خلت من تلك الإشارة.
7- وضع أسماءالكتب بين قوسين، ذلك أن المؤلف أورد معظم هذه الكتب بأسماء مختصرة،نحو: (اللسان) بدلاً من (لسان العرب)، و(الأساس) بدلاً من (أساس البلاغة) و(المصباح) عوضاًعن(المصباح المنير)، و(المفردات) بدلاً من (معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم).. ووضعنا في الصفحة التي تلي هذا التقديم قائمة بأسماء أكثر الكتب وروداً فيهذاالمعجم، وإلى جانب كل منها: الاسم المختصر للكتاب، واسم مؤلفه.
8- وضع فهرسللآيات القرآنية، وآخر للمفردات اللغوية، وثالث لمباحث النحو والصرف واللغةوالأدوات ورابع للأخطاء الشائعة، وخامس لفهرس فقرات المعجم.
وكان الأستاذمروان يحمل إليّ مشكوراً حيناً بعد حين، الحرف الذي نضدت فقراته فأراجعها بعناية،وأقابلها بأصولها، وأدقق النظر فيها لأستبعد أخطاء التنضيد، ولأذيلها بملاحظات أوحواش أرى أنها تفيد القارىء وتزيد الانتفاع بالكتاب.
وبعد أن يشرفالأستاذ مروان على تصحيح مانضد وإضافة الملاحظات والحواشي إليه، كنت أراجع الفقراتكلهامرة ثانية لأستيقن خلوها من أي خطأ أو عيب طباعي، فإذا ظهرلي مايجب تصحيحه،ترتب عليّ تكرار المراجعة مرة ثالثة..
وهكذا لم ندخر- الأستاذ مروان وأنا- وسعاً، ولم نبخل بالوقت في خدمة هذا المعجم الذي صنعه مؤلفهخدمة للغتنا الشريفة.
ونرجو أن ينتفعالقراء- خصوصاً المشتغلين بالكتابة- بماجاء فيه، وأن يتجلى في ذلك اختفاء الأخطاءاللغوية والنحوية من كتاباتهم.
تغمد اللهالأستاذ الزعبلاوي برحمته، وجزاه خير الجزاء عما قدم لأمته.
عضو مجمع اللغةالعربية
جريدة الثورة 26/9/2009م العدد 14027
--------------------------