هناك سؤال يطرح نفسه؛ ولو اعتبر تساوقا مع نظرية المؤامرة:هل التسريبات التي تلطم دولا ومؤسسات وشخصيات بوتيرة متسارعة خلال السنوات الأخيرة هي محض عمل صحافي استقصائي يهمه البحث عن الحقيقة واطلاع الناس عليها فقط، أم أن أجهزة مخابرات دولية تقف وراءها، أم هي صراعات بين محاور وأركان رجال الأمن والسياسة والمال في دولة أو دول؟بقلم:سري سمّور
إن الإجابة على هذا السؤال ليست مطلقة ومحددة بنعم أو لا، بل متداخلة وتختلف ما بين كل حالة وأخرى؛ فمثلا حين يتم تسريب تسجيل لمكالمة بين أحد الإعلاميين المصريين وامرأة يستشف أن بينه وبينها علاقة غير بريئة وتحوي المكالمة ألفاظا خارجة، فإن التوقيت والظرف يشي بأن الأمر نوع من الابتزاز والفضيحة لهذا الإعلامي، ورسالة له ولغيره لالتزام خط سياسي معين، وإلا فإن هناك المزيد من التسجيلات والفضائح وربما تكون صوت وصورة، ولكننا نبتعد عن الدقة إذا اعتبرنا أن كل تسريب لوثائق أو تسجيلات لمكالمات أو محاضر اجتماعات أو أخبار أو معلومات سرّية تندرج تحت هذا العنوان، فالمسألة تتداخل وتتفاعل فيها الصراعات الداخلية مع المصالح المالية مع التحالفات أو الصراعات السياسية، مع البحث عن الأمجاد الشخصية أو حب المغامرة.
والتقنيات الحديثة في الإعلام والاتصالات يقال بأنها تؤثر سلبا على خصوصيات الأفراد والجماعات التي تستخدمها، كما أن السعي بل الركض السريع نحو السبق الصحفي تزامنا معها لم يبق للأسرار والملفات المغلقة مكانا آمنا موثوقا، فصار التسريب سيد الموقف، وإذا كانت الخطط أو المؤامرات فيما مضى تنشر بعد ذهاب تأثيرها تماما، فإن الوضع الآن على العكس،فما أن يجتمع زعيم بنظيره إلا ويتم تسريب كواليس وفحوى ذاك الاجتماع، وهذا التسريب والنشر كان حكرا على أمثال محمد حسنين هيكل عربيا وبيار سالينجر وأريك لوران غربيا،فانكسر الاحتكار بوضوح، مع الأخذ بعين الاعتبار أن التسريبات ليست بالضرورة صحيحة وقد تكون تأليفا وتلفيقا كاملا أو جزئيا، وقد تكون متعمدة من جهة ما، ولكن الشيء المؤكد أن الصحافة الاستقصائية انتعشت وازدهرت في السنوات الماضية وتسلح صحافيوها المحترفون أو الهواة ومن يتعاون معهم لأي سبب كان، بالتقنيات الحديثة وشبكة الإنترنت، حيث لن يعجز أي إنسان عن نشر ما يريد على الملأ، لأن زمن الصحف المطبوعة الخاضعة للرقابة، أو محطات التلفزة العامة أو الخاصة محدودة العدد والخاضعة هي أيضا لمعايير صارمة فيما تبثه من أخبار وتقارير، قد انتهى بحكم التطور في تكنولوجيا الاتصالات والمعلومات.
وبغض النظر عن الصحة والدقة فيما يتم تسريبه ونشره على الملأ، فإن الهيبة والغموض لم تعد حاضرة في هذا العصر،حتى وإن ظلت بعض الأماكن والملفات تحظى بالسرية والحراسة فكشفها مسألة وقت قصير،وصار هناك ما يشبه (بزنس) بيع وكشف الأسرار والخفايا، ولن أستغرب أن يقوم رئيس أمريكي سابق أو مدير سي آي إيه متقاعد أو رئيس موساد خائب ببيع ملفات بالنسخة الأصلية لنشرها على الملأ على المدى المنظور، دون أن يخاف القتل الواضح أو (الموت الغامض) لأن اللعب-إن صح التعبير- أصبح على المكشوف كما يقال!
وربما بعض من اتصفوا بالغموض والسرية والتكتم أدركوا تغير الزمن فسارعوا للهجوم والقفز إلى الأمام فقبل بضع سنين عرض تلفزيون الجديد اللبناني صورا قال بأنه يسمح بها لأول مرة لمقر(محفل) ماسوني من الداخل، وليس هذا فحسب بل إن أحد المسئولين فيه وافق على إجراء مقابلة يشرح ويدافع فيها عن الماسونية بطريقة لبقة لا غموض فيها ولا تهرب من الأسئلة التي شغلت طويلا بال المهتمين بهذه الحركة.
ولعل ذاك التصوير واللقاء هو من تداعيات برنامج (سرّي للغاية) الذي بثته قناة الجزيرة سنة 1999م والذي وضع تحت المجهر أمام الملايين أهم ما تم ويتم تداوله حول الماسونية؛ وكان لا بد للماسونية أن تتحدث للإعلام عن نفسها مباشرة عبر هذه النافذة ولو بعد سنوات، والحكم هو المشاهد والمتابع.
ثم جاء جوليان أسانج الأسترالي الذي ارتبط اسمه بوثائق ويكيليكس الذي أغرق العالم الافتراضي بوثائق أحرجت العديد من الساسة والبلدان، وبعده إدوارد سنودن عميل المخابرات المركزية الأمريكية، الذي فضح أسرار وكالة الأمن القومي الأمريكية...وبالطبع لم تحتمل بريطانيا ولا أمريكا ولا الغرب عموما هذا الكم من الفضائح المدعومة بالوثائق؛ فكان مصير أسانج اللجوء إلى سفارة الإكوادور في لندن، وسنودن اضطرته الملاحقة إلى أن يطير إلى روسيا، وكل منهما ملاحق قضائيا...ولكن كلاهما صارا نجمان بارزان يستبعد تصفيتهما بالطرق التي نقرأ عنها أو نشاهدها في الروايات والأفلام البوليسية.
أسانج وسنودن من جيل الشباب وهذا له دلالاته؛ فكبار السن من الجيل السابق نشأوا في بيئة خاصة تقوم على ضرورة الحفاظ على السرية لبعض الأمور باعتبار ذلك واجبا قوميا ووطنيا، كما أن الشباب وجدوا أمامهم انفتاحا إعلاميا وسهولة للتواصل والنشر لم تتح لآبائهم وأجدادهم، مع حب الشباب عموما للمغامرة والمجازفة والسرعة.
وقبل أشهر قليلة جاءت قضية ما يعرف بـ(وثائق بنما) وعددها بالملايين والتي تكشف الأنشطة المالية السرية لشخصيات بارزة وسياسيين كبار من مختلف الدول في ما يعرف بمنطقة الملاذات الضريبية، وتعتبر تلك الوثائق قفزة مهولة في عالم الصحافة الاستقصائية من عدة جوانب فمصدرها شخص واحد ما زال مجهولا، ولكن مئات الصحافيين وكثير من المؤسسات الإعلامية عملت على فرز ومراجعة تلك الوثائق والتي تقريبا لم تسلم منها أي دولة حول العالم ومن بينهم 12 رئيس دولة.
فهل انتهاء خصوصية الأفراد الذين صارت مكالماتهم الهاتفية وتحركاتهم داخل منازلهم أو أماكن عملهم أو غيرها من الأماكن تحت الرقابة بمشيئتهم أو رغما عنهم، تعني ضمنا نهاية عهد السرية عن الزعماء وأجهزة المخابرات ووثائقها، أو الشركات السرية وتعاملاتها، أو الدول وتحالفاتها والصراعات فيما بينها أو فيما بين أركان الحكم فيها، ولم يعد هناك غموض أو سرية على المدى المنظور، لأن ما لم يكشف أمس سيكشف اليوم وما لم يكشف اليوم سيكشف غدا وبتسارع لم يسبق له مثيل، حيث كان على العالم أن ينتظر عشرات السنين أي جيلا كاملا حتى يتم الكشف ورفع السرية عن جزء من الوثائق والأسرار حول حرب أو قضية أو جريمة أو غير ذلك؟ ربما تكون الإجابة:نعم، وربما يرى آخرون أن فضح وكشف الأسرار وتسريب الوثائق وراءه مخطط(سرّي) لأهداف(سرّية) تخص دولا عظمى...وفي خضم هذا الجدل سنظل نشاهد أحببنا أم كرهنا مسلسل كشف الأسرار ونتابع التسريبات، بغض النظر عمن يقف وراءها، وعن طبيعة أهدافه، وإن كان سينجح في تحقيقها أم لا.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الخميس 9 شوال 1437هـ ، 14/7/2016م
من قلم:سري عبد الفتاح سمّور(أبو نصر الدين)-جنين-أم