في كلّ زمان وآن ، وفي كلّ صوب ومكان ، تستقرئ فيه الواقع ، تُبصر أنّه قد جرت بين الناس سنّة التدافع ، سنّة كائنة حاصلة ما لها من دافِع {ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض }( البقرة251)( أحداث سيناء )
وخزة في الخاصِرَة لمصرَ المُناصِرة وغزّةَ المُحَاصَرة !
بموجب سنة التدافع هذه يخوض الحقّ مع الباطل المُعاركة ، فليس بوسع الحقّ وأنصاره أن يلوذوا بالمتاركة ، بل سيظل ينشب الصراع ضدّهم بين فينة وأخرى بصور متنوّعة وطرائق شتى !تأمّل في ذلك قوله تعالى على لسان شعيب – عليه السلام – إذ قال لقومه : {وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وطائفة لم يؤمنوا فاصبروا حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين } ( الأعراف 87)
فقد دعاهم نبيّ الله شعيب إلى أعدل خطة ، ولقد وقف من القوم عند آخر نقطة ، لا يملك أن يتراجع وراءها خطوة ، نقطة المتاركة والتريّث والتعايش بغير أذى ، وترْك كلّ ووجهته التي هو مولّيها ، وبرنامجه الذي يدين به ويمارسه في أرض الواقع وينفّذه ، ثمّ في النهاية { لكلّ نبأ مستقر} (الأنعام 67) أي ( موضعٌ ووقتُ قرارٍ من صدق أو كذب ) (تفسير البقاعي 2/652) فبماذا ردّ القوم ؟ وعلى ماذا انعقدت كلمتهم ؟ { قال الملأ الذين استكبروا من قومه لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملّتنا } ( الأعراف 88) فالطواغيت لا يرضيهم أن يكون للإيمان في الأرض وجود شاخص في جماعة لا تدين للطاغوت ! ذلك أنّ وجود جماعة مؤمنة في الأرض ، لا تدين إلا لله ، ولا تصرف ولاءها لأحد سواه ، من شأنه أن يهدّد سلطان الطواغيت وأشياعهم ، حتى لو انعزلت عنه وتركته وشأنه ، وأسلمته لمصيره المرتقب ! فوجود الحقّ في ذاته يشوّش على الباطل ويزعجه ، ويحرجه فيزهقه ، لذا لا بدّ أن تُفرض عليه المعركة !
فلا الباطل يسأم من منازلة أهل الحق ، ولا أهل الحق بوسعهم أن ينأوا بأنفسهم عن مناوشات قادمة من صراع مفروض عليهم !
وتلك حكاية أهل الكنانة وخيارهم الذي اختاروه ، وتوجّههم الذي ارتضوه ، فهو خيار سترعد ضدّه أنوف ، وتحاول أن تكيد لأنصاره لتجرّ عليهم ما تجرّه من الحتوف ، وتُلحق بهم ما بوسعها أن تلحق من الصّروف !
ومن هنا : فليس من ردّ فاعل إلا أنْ يُجازى القوم الآثمون المترّبصون بنقيض المقصود ، فتُفتحُ على الشعب المحاصَر الأبواب والمعابر والحدود ، وتُقمعُ صناديد ، وتُعزلُ رَعاديد ، وتُكبَتُ أنفسٌ خؤونة ، وتُصفّد أيادي عابثة يحرّكها شرّ العبيد ! فهذه هي الترجمة الحقيقية للسيادة !
وفي الوقت نفسه : يطبق إجماع العقلاء على أن السيادة الحقيقية تقتضي أنّ كلّ رِجْل دخيلة تطأ أرض المسلمين لتعيث فيها فسادا هي الإرهاب بعينه فحقها أن تُقطع ، وكلّ يدٍ أثيمة تجترئ على دماء الشعوب وممتلكاتهم فجزاؤها أن تُشلّ لتردع ، وكلّ مروّع لليتامى مرمّل للحرائر مُعتدٍ على الأيامى فمصيره أن يُقتصّ منه فيُقمَع ! ليشرَّد بهم مَنْ خلفهم ممّن رضي لنفسه أن يكون فتّاناً ذا ضلالة أو خوّاناً ذا غرض !
هذا وقد جرت النواميس الربانيّة أنّه لمّا كان لكلّ من الفريقين مآرب مُتوخّاة ، فمِنْ كلّ ضريبة مستوفاة ؛ فمَنْ كانت مآربه من شرعة ربّه مستوحاة ، فيدور مع الدّين حيث دارت رَحاه ، فنعمّا ما انعقد عليه قلبُه من مآرب ! ولن يفتّ في عضده ما يحزبه في سبيلها من نصَب ومتاعب ، ولن تهزّه مكائد يحيكها له العدى ، فيكفيه أنّه منحاز إلى سنن الهدى ، التي ما انحاز إليها مخلص إلا آواه الله تعالى وكفاه ، وكافأه بتسديد خُطاه ! ودارت دائرة السّوْء على مَنْ تآمر عليه وعاداه ! ذلك أنه { ولا يحيق المكر السيّء إلا بأهله } (فاطر43)
وعليه : فنعمّا الضريبة التي تنخرط في سلك استحقاقات الحق ، فتلك ضريبة تُفضي بأصحابها إلى عاقبة خير ، إذ هي استحقاقات لنيل مَغنم ، ودرء مَأثم ، في حين الضرائب التي يُكبَّدُها أصحابُها في خضمّ صدّهم عن سبيل الله تعالى ، ومشاقّتهم الحق وحيدتهم عن سبيله تُسلِم أربابَها إلى عاقبة شرّ ، ومآل ضرّ وخاتمة مَغرَم ! فهل يستويان مثلا ؟!