مقام علوم التجويد
بين
علوم اللسان العربي
كتبها: فيصل الملوحيّ
مقدمة
( فإنه ظهر علماً مستقلاً في تراثنا العربي الإسلامي في القرن الخامس الهجري ، حين تمكن علماء قراءة القرآن من استخلاص المباحث الصوتية من كتب علماء العربية ووضعها في نطاق علم جديد، أُطْلِقَ عليه هذا الاسم منذ ظهور المؤلفات الأولى فيه ، مثل كتاب(الرعاية لتجويد القراءة)لمكي بن أبي طالب القيسي المتوفى سنة 437 هـ ، وكتاب(التحديد في الإتقان والتجويد) لأبي عمرو عثمان بن سعيد الداني المتوفى سنة 444 هـ .
وتتابع التصانيف في هذا العلم في الحقب اللاحقة لظهور مصنفاته الأولى ولم ينقطع التصنيف فيه حتى وقتنا الحاضر، وتنوعت مناهج التصنيف فيه وأساليبه بين النظم و النثر، و الإيجاز والتفصيل ، والابتكار والتقليد وكانت يغلب على تلك المصنفات المحافظة على صورته الأولى ، مع إضافات متميزة لبعض علماء التجويد في بعض العصور ، لكن ذلك لم يغير من صورته التي استقر عليها .)
وقع التباس لدى عدد ممن تلّقَّوْا شيئاً من اللغة العربيّة وشيئاً من علم التجويد، ففصلوا التجويد عن علوم العربيّة والتزموا به في قراءة القرآن الكريم، وتساهلوا في بعض أحكامه في غير القرآن الكريم، لما يجدونه من صعوبة في الالتزام به.
وربما كان هناك سبب آخر ساعد على هذا الفصل أن كثيرين ممن تعلموا الشرع الإسلامي تعلماً غير مكين لم يجدوا في أنفسهم إلحاحاً لتعلّم اللغة العربية، فالأمر ميسّر لهم في قراءة الكتب، وتساهل كثيرون منهم في الاجتهاد وتفسير القرآن الكريم فلم يلتزموا بأصوله الفقهيّة وبمصطلح الحديث الشريف ( سنداً ومتنا ) وباللغة العربيّة التي بها أوحى الله – تعالى – قرآنه ونطق بها رسول الإنسانيّة محمّد - صلّى الله عليه وسلّم-، وماكان منهم إلا أن التزموا التجويد لارتباط اسم هذا العلم بالقرآن الكريم، فكانت التقوى تجعلهم حريصين على تعلّمه واعتماده في التلاوة، أمّا في غير القرآن الكريم فما أحسّوا بحاجة إلى الالتزام باللغة العربيّة الفصحى لأنّهم وجدوا العاميّة أقرب إلى نفوسهم ونفوس الناس، ونسوا أنّهم يجنون على الدين لإهمالهم اللغة التي صارت- منذ أن أوحي به الله بها قرآنه – لغته التي لا يفهم إلا بها، ولاخلود لها إلا بخلود كتابه الخالد.
مضى زمان تدهورت فيه العلوم بعامّة، ومنها اللغة العربية– ولا نقول عصور الانحطاط بل عصور الدول المتتابعة- ، ثمّ جرى العرف منذ عقود على دراسة اللغة العربيّة وآدابها في مادّة منعزلة عن علوم القرآن الكريم، بل وقع التصادم بين كثيرين من المتخصصين في الشرع و كثيرين من المتخصصين في اللغة، كان من أسبابه أن أهل الدين وقفوا من كثير مما يدرس من أدب وشعر موقفاً مجافياً، وتناسَوْا كثيراً من النصوص الجاهلية وغير الجاهليّة التي يعتمدونها في أصول اللغة العربيّة وهي تتناقض مع العقيدة الإسلاميّة، وفي بعضها من الفحش ما لم يصل إليه شعرنا الحديث كقول زهير( رأيت المنايا خبط عشواء من تصب تمته ) و قول الآخر ( ولولا ثلاث هنّ من عيشة الفتى ..) و ( إذا ما بكى من خلفها انحرفت له بشقّ.... وشقّ تحتنا – وفي رواية عندنا – لم يتحوّل )، وأن كثيراً من أهل اللغة وقفوا من الدين إمّا موقفاً محايداً أو معاديا واضحا، نتيجة هذا الفهم الخاطئ لمكانة الأدب والشعر في الدين. فالتزموا بعموم اللغة دون علم التجويد لأنهم يحسّون أنّهم يدخلون به منطقة محرّمة على أمثالهم-أرجو ألا نبالغ وندّعي أن هذا ديدن كل دارسي اللغة، إنّما أريد أن أشير إلى سبب دفين يفصل بين الطرفين.
ومن غير المنطق أن يُفصل بين القرآن الكريم واللغة العربيّة لسبب يخصّها، إنّي أسأل: ما اللغة العربية التي نريد الحفاظ عليها؟ أهي لغة اليمن القديم التي ذكر بعض نصوصها (طه حسين) في كتابيــــــــــه: (الشعر الجاهليّ والأدب الجاهليّ)، أم لغة عاد وثمود، أم لغات (سمّها لهجات إن أحببت) نرطن اليوم -نحن العرب -بها في الشام والعراق ومصر والجزائر...؟ تتطور اللغة زماناً ومكانا، فلكل عصر لغته، ولكل منطقة لهجتها المتميّزة، قد يكون الاختلاف بينها قليلاً أو كثيرا. الحل هو ما جرينا عليه الالتزام باللغة التي كانت في وقت نزول القرآن الكريم، وبعلم الاحتجاج الذي حدّد آخر زمان له بالنصف الثاني من القرن الهجريّ، ومكانه بسكان الصحراء الذين لم يخالطوا الأعاجم في معيشتهم.
ولكني نشأت على التمكن من كليهما وآمنت بضرورة هذه الصلة التي لا يمكن فصلها، ثم رسّخ اطلاعي على علوم اللسان في اللغات الأوربيّة هذا اليقين.
في اللسانيّات صوتيّات وعلم ألفاظ، نجد مثيلها في علم التجويد في بحوث مخارج الحروف وصفاتها، وقد كنت مضطراً أن أعود إلى مصطلحات التجويد لتعريب أصولها الفرنسيّة. بل انظروا إلى التحوّلات الصوتيّة في اللغة الفرنسيّة حرف السين يُقلب زيناً بين حرفين صوتيين، ترى ماذا يفعل علم التجويد؟ ألا يقول لنا: النون الساكنة التي تليها الباء تُقلب ميما، -من الذاكرة: ارجعوا – إن أحببتم - إلى كتاب قواعد اللغة العربيّة لسعيد الأفغاني تجدوا هذا الحكم إضافة لوجوده في علم التجويد، منبر تُقرأ ممبر – بل في الفرنسيّة ما في التجويد من أحكام الفصل والوصل,, فلماذا حرصوا عليها عند استعمال لغتهم، وحاصرناها فانزوت عندنا في قراءة الكريم الكريم وحده؟!
وآسف لما نحن فيه، نقع في أخطاء لغوية في كتابتنا وقراءتنا وخطابنا، أوضحها في القراءة والخطاب، ليس التجويد فقط مدوداً، بل أموراً أخرى نلتزم بها في القرآن الكريم ولا نلتزم بها في غيره كهمزة الوصل، بل وصل بأحدهم أن يقول إذا كانت عندنا همزة وصل وتلتها همزة متوسطة توالى لدينا ساكنان، ولما صوّبت هذا الخطأ جاءني التأييد رابطاً رأيي بالجنوح إلى علم التجويد كأن أحكام اللغة تختلف في القرآن الكريم عن غيرها من النصوص، وكأنه يمكن أن ننطق ساكنين معا ( إلا في حالة السكون المصاحب للشدّة بعد حرف مدّ ( الطّامّة – الحاقّة .. وأرى أن السكون في حرف المدّ ليس كالسكون العاديّ)، وقد أيدتنا الأجهزة الحديثة التي تُسجل النطق لتذكر أن أيّ كلمة تبدأ بساكن في لغات الأفرنج تحوّر في النطق قليلاً للتخلّص لا شعورياً من البدء بالسكون، فلا يمكن إطباق الشفتين بدون أن يسبقه حركة فتحهما التي تصاحبها حركة (كسرة مثلا.Brother= ibrother تقريبا).
والغريب أن يؤسّسوا قواعد للتفريق بين المدود الشعرية والمدود التجويدية، كأن الاستثناء في مدّ الحركة الأخيرة في الشطر قاعدة خاصّة بالشعر! (وخذي بحظّك من كريمٍ واصلِ = واصلي ). انظر إلى قوله تعالى: وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِـظ”َانِيَةٍغ¢ مِّن فِضَّةٍغ¢ وَأَكْوَابٍغ¢ كَانَتْ قَوَارِيرَاغ* ظ،ظ¦ قَوَارِيرَاغں مِن فِضَّةٍغ¢ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًغ*ا ظ،ظ§ -سورة الدهر) كلمة قوارير ممنوعة من الصرف، وعند الوقف تقرأ الراء ساكنة. لكنْ قالوا يجوز صرفها للضرورة الشعرية، فماذا حدث عندنا في الآية الكريمة لقد صرفت الكلمة، وتحوّل التنوين بالفتح إلى إطلاق ألف ممدودة لأننا نريد الوقف على ساكن كما يحدث في كلّ كلمة منونة بالفتح وأردنا الوقف عليها. النتيجة أن فتحة الراء في قوارير مُدّت ألفا، أليس هذا استثناء من القاعدة سواء أكان في ختام الجملة أم ختام الشطر الشعريّ؟
نعم! إننا نفرّق تفريقا واضحاً بين الشعر والنثر، ولكن هل عدم النثر الموسيقا، ألم نتعلم في الأدب شيئاً سميناه موسيقا النص (طبعا لا نعني بهذا الإنشاد والغناء، وإن أمكن أن تُنشد بعض النصوص أوتُغنّى)، والقرآن الكريم في أعلى مرتبة من هذا الأمر، من أبرزها فواصل الآيات (قل هو الله أحد، الله الصمد – ماذا يفيدنا تكرار حرف الدال الساكنة؟ طبعا لا نسميها سجعاً سُمُوّاً بالقرآن الكريم عن تشبيهه بسجع الكهّان). ليست هذه المعلومات جديدة، إنّ أهل العلوم الشرعيّة واللفويين العرب يعرفونها، ولكنّي أسوقها هنا لأدلل على ألا قيمة لهذا التفريق بين الشعر والنثر في قضيّة المدود.
يذكرون أن الشاعر يطيل الحركة إذا اعترضته غنّة تماما كما يطيل مجوّد القرآن الكريم الحركة مع النون المشدّدة مثلا. بل لماذا يتغنّى المقرئون بالقرآن الكريم على نغمات الرصد والبيات والنهاوند، بل قد يقع لعبد الباسط عبد الصمد مخالفات أحياناً لقواعد اللغة مراعاة للنغمة الموسيقيّة ( لن أدخل هنا في بحث حلّ هذه الطريقة في القراءة أوحرمتها )، أليس هذا دليلا على اقتراب النثر من الشعر رغم الفروق الأكيدة بينهما!!
خلاصة الموضوع:
أولاً: قواعد اللغة هي ذاتها في الشعر والنثر، وإذا كان للشعرعلم عروض خاَصّ تصنّف له الكتب الخاصّة، فلن يكون له قواعد لغوية تفرد في كتاب وحدها ولو وقع له بعض الاستثناءات اللغويّة المعدودة.
ثانيا: ليس التساهل في مراعاة بعض قواعد التجويد – لا كلها –حين نتكلم أو نقرأ في غير المصحف الشريف دليلاً على أنّها قواعد خاصّة بالقرآن الكريم، بل هي قواعد لغوية عربيّة، المفروض أن نحاول مراعاتها في النطق اللغويّ.
وعلى الله التكلان.