أدب الاختلاف وفقهه
عن الاستاذ/محمد جابري
* مـدخـل :
أ- مفهوم التوحيد :
" في اصطلاح أهل الحقيقة : التوحيد تجريد الذات الإلهية عن كل ما يتصور في الأفهام، ويتخيل في الأوهام والأذهان، وهو ثلاثة أشياء معرفة الله تعالى بالربوبية، والإقرار بالوحدانية، ونفي الأنداد عنه جملة".
ويتسع مفهوم التوحيد ليشمل إضافة إلى تنزيه الله عن الند والشريك كل ما يكفل للأمة الإنسانية الألفة والتعاون والوحدة : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات:13)
ب- فضل التوحيد :
دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى توحيد الإنسانية، ونبذ خلافاتها العصبية والقبلية، وقتل النعرة الجنسية، وجعل التقديم والتكريم بالتقوى، وبذلك زالت الفوارق الاجتماعية بين البابلي والقرشي، وأضحى الفارسي والحبشي من آل البيت، ولم تبق ميزة بين الفقير والغني، وبين الأسود والأحمر.
وبمبدأ التوحيد وتحت رايته، رفع الله العرب الضعاف والقلائل، وجعلهم أئمة هداة وأعلاماً، وورثوا كسرى وقيصر.
ج- وجوب التوحيد :
يقول الحق سبحانه وتعالى : { وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَات}ُ( آل عمران: من الآية105)
والاختلاف بين الناس في الآراء والمعتقدات: أمر طبيعي، لا مفر منه، لكن الآية تتوعد الذين اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم، وجاءتهم الأدلة القاطعة، ساطعة لا مراء فيها ولا جدل.
I- دواعي الاختلاف وأسبابه :
وينقسم قسمين:
أ- -اختلاف سائغ بين جميع بني البشر:
ب- اختلاف التضاد.
أ- الاختلاف سائغ بين جميع بني البشر:
1- اختلاف المدارك والعقول :
إن من المدارك والعقول ما ينفذ إلى صميم الأشياء، ويصل إلى حقيقتها، ومنها ما يظل طافيا على السطح، لا يدرك من الأشياء إلا ظواهرها، ومنها ما ينشغل عن الحقيقة، بالخيال والأوهام فيصده ذلك عن إدراك حقيقة الأشياء أو جزءا منها.
2- العصبيات : ويرجع ذلك إلى الرغبة في السلطة وحب الرئاسة والعصبيات القومية أو الإقليمية أو العنصرية، فإن الآراء حينئذ تكون منبعثة من الرغبات الخاصة التي لا تتفق مع الحق والعدل، وهذه الأمور تفسد الآراء وتبعد أصحابها عن الحق.
3- غموض الأمر وصعوبته : قد يكون الأمر الذي هو محل نظر صعب المنال, والكل ينظر إليه من زاويته أو حسب ما يهديه إليه تفكيره أو ما تقتضيه مصلحته.
4- الشهوات : وينبعث الاختلاف في الرأي أيضا من اختلاف الرغبات والشهوات، إذ الرغبة في الشيء تعمي وتصم وتزين الأشياء على غير حقيقتها، وهذه حال الممكور بهم، نسأل الله جلت قدرته اللطف والعفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة.
5- اختلاف المناهج العلمية :باختلاف المناهج العلمية تختلف النتائج، وهذا مما يترك بصماته فتحدث الانشقاقات والتباينات.
6- التقليد والتعصب الأعمى : من ذلك التعصب لآراء الأقدمين وتقديسها، واتخاذها ركنا ركينا لا يمكن المحيد عنه، ولعله من أكبر أسباب الاختلاف.
ب- أسباب الاختلاف عند الفقهاء
السبب الأول: أن يكون الدليل بلغه على وجه لم يطمئن إليه.
ـ إما لأنه لم يثق بناقله.
ـ وإما لكون الدليل يخالف ما هو أوثق منه وأقوى منه، فيأخذ بالأقوى.
السبب الثاني : نسيان الدليل؛ وجَلّ من لا ينسى، ولا ينام.
السبب الثالث : الاختلاف في الفهم والاستنباط من الحديث أو الآية.
السبب الرابع : أن يعتقد بأن الحديث معارض بما هو أقوى منه من نص أو إجماع.
السبب الخامس : أن يأخذ العالم بالحديث الضعيف أو يستدل باستدلال ضعيف. الخ ....
II- أدب الاختلاف وفقهه
نخلص مما سلف أن الاختلاف نوعين، اختلاف تنوع واختلاف تضاد، ومن أجل تحقيق وحدة الهدف ومراعاة المصلحة العليا، وجب فتح حوار مع المخالف يهدف إلى تحقيق تقارب في وجهات النظر.
أ- ميادين الاختلاف :
الجانب العقدي والجانب السياسي ثم الجانب الفقهي، فالخلاف الدائر في ميدان العقدي والسياسي ينتج عنه ضرر فادح بالأمة بما يحدثه من تمزيق وشرخ بين فصائلها، أما الخلاف الفقهي فقد كان دائما محط أخذ ورد واجتهاد تنوع، مما استنار به الفقه ووسِعَ صدره كل الخلافات المقبولة.
وتكفي الإشارة عن العبارة بإبراز نموذج من الاختلاف السائغ انطلاقا من القواعد اللغوية الأصولية في فهم دلالة منطوق الحكم، فضلا عن دلالة المفهوم وما يشمله من تقسيم وتنوع :
*الخلاف الأول : يأتي من اشتراك اللفظ والمعاني؛
*الخلاف الثاني : يأتي من أخذ معنى النص بين الحقيقة والمجاز؛
*الخلاف الثالث : يتعلق بالإفراد والتركيب؛
*الخلاف الرابع : يختص بالخصوص والعموم؛
*الخلاف الخامس: يكمن في الرواية وطرق نقلها؛
*الخلاف السادس: ينبعث من الاجتهاد فيما لا نص فيه؛
*الخلاف السابع : يشمل الناسخ والمنسوخ؛
*الخلاف الثامن : يجري في مجال الإباحة والتوسع؛
*الخلاف التاسع: يندرج من كون الأصل في النصوص التأسيس لا التأكيد؛
*الخلاف العاشر: يتسرب من اعتبار الترتيب في مقابلة التقديم والتأخير؛
*الخلاف الحادي عشر: ينساق في أخذ معنى من النص لما جاء في منطوقه بينما ينساق آخر لتقدير الإضمار في النص؛
*الخلاف الثاني عشر: يكمن في عدم اعتبار التباين في مقابلة الترادف؛
الخ ....
ب- اختلاف التنوع :
ومما ينشرح له الصدر، الاختلاف الذي تعتمد فيه الأدلة ويكون دافعا لاجتهاد المجتهدين بحثا واستنباطا لاستخلاص دلالة الأحكام القرآنية والأحاديث النبوية.
ومما يثري البحث والفقه، سعة الأحكام الشرعية، إذ لم تأت كلها على نمط واحد يخضع له كل الناس، بل فتحت الشريعة ذراع أحكامها لتعانق كل فرد وما تمليه عليه ظروفه ومقتضيات صحته ووسْعَ طاقته وفي هذا الصدد نجد :
1- اختلاف القراءات القرآنية :
إن من دواعي اختلاف القراءات القرآنية كما حددها العلماء ما يلي:
التكامل الفكري؛
التكامل في الأداء البياني؛
التنوع في الأداء الفني الجمالي؛
ومن دواعي الاختلاف فهم النص القرآني:
1- إ ثبات وجوه عربية متكافئة؛
2- اختلاف اختيار أفضل صور الحج من التمتع والإفراد والقران.
3- اختلاف في استنباط الحكم من منطوق النص ومفهومه وقد سبقت الإشارة إلى استخلاص منطوق الحكم ونكتفي بالإشارة أيضا إلى مفهوم النص
* مفهوم الموافقة وينقسم إلى :
مفهوم العبارة، مفهوم الدلالة، مفهوم الإشارة، مفهوم الاقتضاء.
* مفهوم المخالفة ويشمل أيضا:
مفهوم الصفة، مفهوم الشرط، مفهوم العدد، مفهوم الغاية، مفهوم المكان، مفهوم الزمان ومفهوم اللقب.
4- اختلاف في الكفارات وسبل قضائها.
ج- أدب الاختلاف
ومهما ساغ الاختلاف وتنوع فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن ينقلب اختلاف التنوع إلى أسباب شقاق ومفاصلة وتباعد بين القلوب أو بين الأقطار.
ومن أجل المحافظة على سلامة الصدر نحو الآخر ومراعاة أدب الشرع، هذه جملة آداب تؤخذ بعين الاعتبار تحقيقا لوحدة الصف - والله الهادي إلى سواء السبيل- :
1- لا يجوز أن يكون الانشغال بالأولويات الفردية أو الجماعية سببا لترك الواجبات الأخر، فمن الجماعات من ترى أن أهم المهام وأسماها الدعوة إلى الله، ومنها من ترى العناية بالجانب التربوي أولى أولوياتها، ومنها من ترى المفاصلة مع الظالمين، ومنها من ترى الجهاد.
2- لا يجوز تحقير أعمال الآخرين : مهما بلغ الاختلاف بين الجماعات الإسلامية فإنه لا يحق لأحد أن يسخر من أخيه أو يحتقره إذ بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، وشعب الإيمان على اختلافها قد تكون إحداها سببا لفوز العبد المذنب كما فازت بغي بني إسرائيل في كلب سقته ماء.
3- والإيمان بالكتاب كله واجب الأمة، فمن ترك بعضه وعمل بالبعض الآخر كان من مقتضيات السنن الإلهية أن يذيقه الله ذلة الخزي في الحياة الدنيا والرد إلى أشد العذاب يوم القيامة.
4 - الولاء والبراء يرتبطان أساسا بالحب في الله والبغض فيه ولا يجوز بحال من الأحوال أن يكونا لغير دين الله أو ربطه بما تقتضيه مصلحة ظرفية لهذا أو ذاك.
ب- اختلاف التضاد
ينقسم بدوره إلى قسمين كبيرين :
- اختلاف سائغ غير مذموم؛
- اختلاف سائغ مذموم.
1- ضوابط الخلاف السائغ :
1- خفاء الدليل الراجح مع قصد الحق : معلوم عند علماء الشريعة التوقف في الأدلة التي تتعارض في مضمونها من حيث لا يستطاع جمع الدليلين ولا ترجيح أحدهما، وقد لا يتيسر لكل واحد إدراك وجه الترجيح فيكون التوقف في النصوص المتعارضة عند الاختلاف.
2- ما كان من المسائل الدقيقة : الأمور الدقيقة لا يفقه كنهها إلا جهابذة العصر، والقلة هم أولئك الذين يرفعون الملام عن الأئمة وينزهون الشريعة عن النقص، ويقدمونها في صورة من التمام والكمال بما تتطلبه مستجدات العصر، وما تقتضيه ملابسات ظرفي الزمان والمكان.
3- عدم مخالفة النص الشرعي والإجماع : معلوم أن الشريعة المحمدية انبنت على أساس المصلحة المرسلة وكم من مجتهد يفتى بجواز كذا أو بحرمة كذا دون أن يلتفت إلى ضابط من ضوابط الشرع، مثال ذلك: أفتى بعض علماء الشريعة بوجوب الإذعان لحاكم استولى بالسيف على رقاب الأمة وهذا مخالف تماما لقوله سبحانه: { وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ} (هود:113)
وقوله سبحانه] فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ} (الزخرف:54)
وقوله تعالى : ] إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}(البقرة:150)
2- ضوابط الخلاف غير السائغ :
أ- لا يكون الاجتهاد سائغا إلا من طرف أهل العلم والاجتهاد، وكم من مسائل تخفى خفاء تاما على أهل العلم لا يدرك كنهها إلا الجهابذة الربانيون مصداقا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : [ إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله ]( أخرجه الغزالي في إحيائه، ج1/25 وقال عنه العراقي رواه أبو عبد الرحمن السلمي في الأربعين له في التصوف من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف).والحديث وإن ضعف بسب الإسناد فتهشد له الآية: {فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }[البقرة : 213] فبالأحرى أن يكون في متناول الخاص والعام فكيف بكل من هب ودب.
ب- لا يكون الخلاف سائغا مع البغي : يقول سبحانه وتعالى في مضار هذا الخلاف : {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} (آل عمران:19)
ت- لا يكون الخلاف سائغا مع ظهور الأدلة : فالتعامي عن الدليل يذكي الخلاف ويوسع الشقة بين المسلمين، مثلا شهادة الزور تثبت الأدلة إدراجها في مصاف الكبائر بل من أكبر الكبائر فكيف بمن يستبيحون الركون إلى الحكام الظالمين ويشهدون لهم بألقاب زور إرضاء لنزواتهم؟
III - فقه محاورة المخالف:
يحتاج فقه الحوار إلى ضوابط وآداب تحكمه عن الزيغ والانحراف والانجراف وراء الدوافع النفسية وحب الاستعلاء والانتصار: ] تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} (القصص:83)
أ-ضوابط محاورة المخالف:
1- الهدف من الحوار:
أ- إظهار الحق ورحمة الخلق : لا يكون الرد عملا صالحا متقبلا إلا إذا أريدَ به وجه الله أساسا وبيان الحق للمخالف ورحمة الخلق وهدايتهم، فالرد من أجل الرد وإفحام الخصم من دواعي النفس وحب التباهي والاستعلاء، وصفة القهر من الخصوصيات التي لا ينبغي الاتصاف بها لبني البشر وإلا كان الذل والخذلان والقهر من نصيب العبد جزاء وفاقا من رب العالمين.
ب- مراعاة قاعدة الحب في الله والبغض في الله، لقول الله سبحانه وتعالى : { وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} (الحج:18)
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أهل الذمة : " لا أُكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أقصاهم الله ".( أحكام أهل الذمة لابن القيم صبحي الصالح، ج 1/211.)
وأوصى رضي الله عنه: " أَهينوهم ولا تظلموهم ". وقد ورد خبر أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها:[ أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم] ( صحيح مسلم بشرح النووي، المقدمة، ص55) .
لما يدخل المحاور حوارا مع كافر ينبغي له أن يستشعر العزة لانتمائه لدين العزيز الحكيم، دون أن يعطي الدنية في دينه، ولمّا يُخالف مؤمنا مسلما ينبغي إظهار الذلة عليه.
أما الاعتزاز بالكافر والتقرب إليه والتزلف إليه والتكلم بلغته فهذا يشعره بالهيمنة والرفعة ويدفعه إلى عدم الإذعان للحق والخضوع له، يشهد لذلك قول قوم فرعون:
{َقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} (المؤمنون:47)
فكيف إذا كان المحاور من عبيدهم؟
ت-الشمولية والاعتدال في الرد : لا تأخذنا نخوة الجاهلية فنخرج عن القول اللين والأسلوب الهادئ الرزين، واعتقاد الشمولية التي هي أحد دعائم الشريعة السمحة سواء من حيث الجسد أو الفكر أو الروح، أو من حيث مناحي الحياة الدنيا والآخرة، أو من حيث سعة النظر وعمق التفكير واختلاف الأساليب والاستدلالات العلمية.
ث- فالنية الحسنة وإرادة الخير لا تكفيان وحدهما، ولابد من التسلح بعلم المنطق ودقة الفهم لنصوص الكتاب والسنة باعتبار ما أصله الأصوليون وفن المناظرة والجدل بجد والإذعان للرأي الثاقب والصائب.
ج- العلم بتلازم مخالفة الحق ووقوع العداوة والبغضاء، لقوله عز من قائل :{ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ [ (المائدة:14)
ح- إن إدراك جانب الناموس الإلهي في الكون من سنن قرآنية وكونية، لأمر ذو أهمية قصوى في إنجاح الحوار والبعد عن مواطن الردى والخسف والخسران، فكم ممن يعتز بالخلق لا بالحق يكون نصيبه الذل والخذلان.] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزّا كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً}(مريم:81)
خ- المعرفة الدقيقة بالمحاور وبمخططاته وبخاصة الجوانب المسكوت عنها، لقول إخوة يوسف ليوسف في مواطن مختلفة : { قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ} (يوسف:77)
ولم تكن هذه المؤشرات كافية للكشف عن بواطن الأمور إذ في موطن آخر خاطبوه : { فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} (يوسف:88)
اعتقاداً منهم بأنه الملك- العزيز-وهاهو يصارحهم : { قال : قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ} (يوسف:89)
- {قالوا : أَأَنتَ يُوسُف؟
- قال : أَنَا يُوسُف وَهَذَا أَخي قَد مَنَّ الَله عَلَينَا... [.[ يوسف : 89]
ولما أخذ أخاهم في شأن صُواع الملك جريا على قانون يعقوب، لم يناقشوه القضاء لعدم إدراكهم حكم وقانون بلد العزيز.
{ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } [ يوسف : 76]؛
د- وفي هذا الصدد قد نغتر بدعوى الديموقراطية عند الغربيين وتنوع الآراء وتعدد وسائل الإعلام، قال هربرت أستيلار :" تنوع الآراء فيما يتعلق بالأخبار الخارجية والداخلية، أو بالنسبة لشؤون المجتمعات المحلية لا وجود له في المادة الإعلامية رغم زخم وسائل الإعلام؛ 6700 محطة إذاعية تجارية؛ 700 محطة تلفازية؛ 1500 صحيفة يومية".( المتلاعبون بالعقول ترجمة عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة، رقم 106، ص 2.)
ب- أدب محاورة المخالف :
- مواصفات الحوار الدعوي أو السمت الخطابي :
1- الرفق واللين : سبق القول بأن المحاور ينبغي له محاورة الكافر, من موطن العزة بدين الله ولا يعني ذلك إغلاظ القول وتخشينه لما في ذلك من ظلم له واستفزاز يؤجج الغضب, بل يجب أخذ الكافر مما يمتاز به من إيجابيات لتحفيز دواعي الخير وإبراز جوانبه المشرقة وفضل ذلك عند الله دنيا وأخرى, لينتقل به المحاور من هناك إلى ما ينبغي توجيهه وإرشاده إليه, إذ من شأن دغدغة العواطف والثناء الجميل فتح القلوب لتستوعب النقاش والحوار، وأوجب هذا الرفق تجنب الكلمات الجارحة والألفاظ القاسية, حتى لا تتأزم المواقف وتتشنج الأعصاب، تأسيا برسول الله r عندما قال لمعاذ رضي الله عنه : [ يا معاذ إني أحبك، يا معاذ إني أحبك, يا معاذ إني أحبك, لا تَدَعَنَّ دبر كل صلاة أن تقول اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك].(الحديث أخرجه الإمام أحمد، مسند الأنصار عن معاذ بن جبل حديث، رقم 21614).
2- خفض الصوت : نطقا أو نبرة الكتابة خطا لوصية لقمان عليه السلام لابنه :] وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (لقمان:19)
ولا ريب أن رفع الصوت من التعالي المذموم فالكبر كما عرفه الرسول صلى الله عليه وسلم : [بطر الحق وغمط الناس ]( صحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الإيمان، باب تحريم الكبر وبيانه، ج2، ص77، رقم الحديث 91).
والرافع لصوته يفقد الصواب والتوازن مما يؤجج في ذهن المحاور نار الفتنة ويستوقدها عليه الشيطان حمية جاهلية: { أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً}(مريم:83)
3- الإيجاز في الكلام : لقوله عليه السلام:[ وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني في الآخرة مساوبكم أخلاقا : الثرثارون, المتفيهقون, المتشدقون ].( الحديث أخرجه الإمام أحمد مسند الشاميين، حديث رقم 17278، وأخرجه الترمذي في كتاب البر والصلة، حديث رقم 2018.) وينبغي للداعية أن ينشغل عن فضول القول، بما هو أولى وأفيد من : ذكر لله وقراءة قرآن الخ...
4- الكلام الطيب : لقوله عزوجل : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيما}ً (الأحزاب:70)
5- التريث والرزانة في القول : ينبغي ضبط رنات الكلام حتى يعقله السامع ويفهم القصد والمراد واستنانا بسنة المصطفى r لما روته عائشة رضي الله عنها : [ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدث حديثا لوعده العاد لأحصاه ](.متفق عليه أخرجه البخاري في صحيحه كتاب المناقب، حديث رقم 3303 ، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة وكتاب الزهد والرقائق، حديث رقم 4548 و 5325.)
6- تجنب الفحش في القول : لقوله r : p ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش ولا البذيِّ i.( أخرجه الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ماجا في اللعنة، حديث رقم 1977.)
7-الإعراض عن الجهل واللغو : { وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ}( القصص:55)
8-القول الصادق المشروع : { وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ}(النحل:116) .
10- مطابقة القول للعمل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} (الصف:2)
11-القول البين الواضح : ] وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (ابراهيم:4)