العدو
مقالي الجديد في مجلة تواصل.....
تحظى كلمة العدو في ثقافة النظام السوري بنصيب الأسد في التوجيه حيث يتم
حشد كل الطاقات للمعركة ويتم تكريس ثقافة المؤامرة على كل المستويات،
ومع أن العدو يبدأ عادة بمصطلح الصهيونية ولكن لا نحتاج لكثير ذكاء أن
ندرك أن العدو يبدأ من إسرائيل وحليفتها أمريكا والدول الدائرة في فلكها مثل
كندا واستراليا، ثم فرنسا الاستعمارية وبريطانيا الاستكبارية، وأعوانهم في الاتحاد
الأوروبي الذين يتعين شطبهم جميعا من الخارطة وفق وزير الخارجية المعلم، ويمتد
العدو بالطبع إلى تركيا العثمانية الإخوانية، وجامعة الدول العربية بدولها الاثنتين
والعشرين التي أصبحت أداة استعمارية بمخالب قومية، لتجد نفسك محاطاً في
وطنك من الجهات الأربع بالأعداء الذين لا ينفع معهم إلا المواجهة الماحقة.
ولكن أسوأ ما في مشهد العدو أنه امتد في الداخل، وانتشر
بشكل مريع في المحافظات السورية الأربعة عشر، وامتد في
صحراء سوريا وغاباتها وجبالها وسهولها وبراريها، ومساحدها
وكنائسها، وجامعاتها ومدارسها وأفرانها وأسواقها ومشافيها
الميدانية، وصار من الطبيعي أن يستمع المواطن لانتصارات جيشه
الباسل في القصير وخناصر، واليوم سمعت الإعلام السوري
يتحدث بمجد وبطولة عن الانتصارات )التاريخية( للجيش العربي
السوري في السبينة وتقدمه العظيم نحو الحجر الأسود وكأنه
يتحدث عن معارك ليننينغراد أو العلمين أو الدفرسوار.
ويعيش الإنسان السوري رعاب الخوف من العدو، وهو رعاب يسمح
لمكتب الأمن القومي بالتغول في حياة الناس وضبط حركاتهم
وأنفاسهم فالعدو في كل اتجاه والمؤامرة تسري في الجسم
العربي مسرى الدم، حتى أولئك الذين يعملون في النظام والدولة
وبمناصب قيادية رفيعة فإنهم ما إن يتخذون موقفاً أخلاقياً
معارضاً حتى يتحولوا إلى أداة مؤامراتية عميقة تم التخطيط
لها منذ الخمسينات وفق فلاسفة الصمود والممانعة وبشكل
خاص ذوي اللكنة اللبنانية.
وفي التوجيه الذي مارسه نظام الاسد تاريخياً هناك ثقافة
العدو، وبالطبع فقد شاركنا جميعاً في دعم سياسات مواجهة
هذا العدو وهنا المقصود بالطبع العدو الاسرائيلي، وكان المطلوب
أن يتخلى المواطن عن كثير من حقوقه وواجباته وأن يتم تبرير
كثير من خسارات الدولة وفشلها في التنمية على أساس أننا
دولة مواجهة، وأن المؤامرات لا تفتؤ تحاك ضدنا في الليل والنهار،
ولا صوت يعلو صوت المعركة.
بعد أربعين عاماً لم تطلق فيها طلقة رصاص واحدة تجاه اسرائيل
ولم نتقدم بالتالي خطوة حقيقية باتجاه السلام يستفيق
السوري اليوم على مشهد مؤلم فقد تم استنزاف الخزينة
الوطنية نحو نصف قرن من أجل معركة موهومة، ولتعلم بعد
رحيل العمر بأنك كنت تطارد خيط دخان.
وربما كان مشهد السلام النووي الأخير أبشع صورة هذا الاستنزاف
الأعمى لمقدرات الوطن، فقد ظلت القيادة )الحكيمة( لسنوات
طويلة تقوم بإعداد السلاح الكيماوي المحرم دوليا وتم تبرير ذلك
بأنه قنبلة الفقراء، وأنه سلاح فعال لمواجهة العدو الإسرائيلي
وأنه طريقتنا الوحيدة في المواجهة مع العدو الذي لا نستطيع
أن نتفوق عليه استراتيجيا ولكننا نملك سلاحا نوعياُ رادعاً فعلاً
في المشهد اللامتوازن مع القوى الدولية المتآمرة، يمكنه أن يغير
مشهد المواجهة.
لا يعلم أحد في سوريا لا حكومة ولا برلمان ولا حزب ولا جبهة
وطنية تقدمية ولا حتى وزارة الدفاع كم أنفق على إعداد هذا
السلاح النوعي الفتاك الخطير المقاوم، والمحرم دولياً وأخلاقياً
ودينياً، ولم يملك اي سوري حق السؤال عن نفقات هذا السلاح
الهائلة، وكم هو الحجم المقتطع من الموازنة لتمويل صناعة
هذا السلاح ولكن الشيء الوحيد الذي عرفه الشعب أن نفقات
تدميره تبلغ مليار دولار وفق ما ورد على لسان الرئيس العجيب
نفسه!!
كان أمراً مؤلماً أن هذا النظام ومع أول كف، تخلى عن كل
دعاويه في المقاومة، وقام بحماس وشطارة بتسليم كل سلاحه
الكيماوي وبحماس منقطع النظير أدهش الأمريكيين أنفسهم
وراحوا يكيلون الثناء عليه على الرغم من مواقفهم المعلنة
في وجوب رحيله وأنه فاقد بالمطلق لاي شرعية، ليتم دفن
هذا السلاح في البحر عبر بارجة أمريكية لا نملك عليها أدنى
سلطان، ولا نملك حتى تذاكر الفرجة على تدمير هذا السلاح
الكيماوي الذي تم تسويقه على أنه سلاح المعركة وسلاح
المقاومة والممانعة والسلاح الشريف والسلاح النبيل والسلاح
العادل والسلاح المتوازن…. وهكذا تم تسليم السلاح بالكامل إلى
العدو التاريخي للسوريين أو الشيطان الأكبر بالتعبير الإيراني،
ليقوم منفرداً بمهمة نبيلة وهي تدمير السلاح الكيماوي في
البحر، وإغراق مليارات الدولارات التي اقتطعت من دماء السوريين
وعرقهم وفقرهم على مدى عقود، من دون أن تعود على أي سوري
بأدنى فائدة.
بكل بساطة يدرك السوريون أن العدو الاستراتيجي للأمة
العربية لم يكن في الواقع إلا الاستبداد المتوحش الذي مارس
بمكر تكريس ثقافة العدو التاريخي ليبرر سياساته في تغييب
الحرية والكرامة والمساواة في الوطن الجريح.
قناعتي أن الذي جمع الخطاب البعثي والإيراني ثقافياً هو فكرة
المؤامرة ومواجهة العدو الذي يتربص بنا الدوائر، وهي ثقافة
امتزج فيها هنا الديني بالسياسي، ولكنها في الحالتين تقدم
للاستبداد مزيداً من الصلاحيات فوق القانون للمواجهة المريرة
مع هذا العدو المنتظر.
لا يهم هنا من هو العدو، ففي الحالة الإيرانية مثلاً التهبت شوارع
ايران بالغضب من العدو التاريخي اللئيم الذي يجب أن تكرس
كل الطاقات لقتاله وهو سلمان رشدي الذي كتب كتابا مس
الذات النبوية، والتهب العالم كله بالغضب ولم يفهم العالم
سبب غضب امبراطورية شيراز الموغلة في التاريخ العريق ضد
أوراق تافهة لكاتب مغمور أصبح بسرعة البرق أشهر كاتب في
العالم، في حين لم يكن هذا العدو الديني يعني شيئاً بالنسبة
للنظام السوري، واختار بدلاً منه العداوة المريرة مع تنظيم
الإخوان المسلمين الذي يحمل تقريبا نفس افكار الخميني من
سلمان رشدي، ونفس أفكار النظام من إسرائيل.
فكرة العدو الذي يتربص بنا لم تعد فكرة واقعية في البلاد
المتحضرة، ومنذ قيام الأمم المتحدة فإن العالم المتحضر اختار
أن يحل مشاكله بالدبلوماسية، ومنذ ماستريخت فإن الدول
الأوروبية لا تستخدم على الإطلاق مصطلح العدو، على الرغم
من سنوات الحروب الطويلة التي طبعت القارة العجوز، حرب
الثلاثين عاما وحرب المائة عام والحرب العالمية الأولى والثانية،
ودمار أوروبا المريع خلالها، ولكنها اليوم تتجاور وتتحاور وتتفاوض
وتتصالح وتتخاصم، ولا تستخدم في خصامها أو صلحها ثقافة
العدو المتربص الذي يجب أن تحشد له الجيوش.
وليست هذه الثقافة شأن الدول المتقدمة، بل إن العالم برمته
يدخل في واحة السلام الإنساني، متجاوزاً ثقافة الحروب والدماء
والمؤامرة، باستثناء الأنظمة الشمولية في كوريا الشمالية
وكوبا وإيران وهي تتحالف تلقائياً مع نظامنا التعيس.
ويمكنني ان أقول ببساطة على سبيل المثال بعد أن مارست
التعليم الجامعي سنتين في الامارات أن العدو المتربص بالأمة
لا وجود له في ذهن الإماراتي الذي يستطيع ببساطة أن يقول
وطني العالم، وديني أن أفعل ما هو خير، والخلق كلهم عيال الله،
على الرغم من أن الخطاب الديني لا يزال في معتكفه البائس
يتحدث عن كفر البشرية وتراكم حطب جهنم في كل مكان،
ولكنه خطاب تم تطويقه بعناية بحيث لا يخرج من دائرة اللاهوت
إلى ساحة الناسوت.
ومع أن إيران على سبيل المثال تحتل عدداً من الجزر الإماراتية، ولا
تمر مناسبة من دون أن يطالب الاماراتيون حكاما وشعبا بوجوب
عودة الجزر الإماراتية، وانسحاب الإيرانيين منها، ولكن الخطاب
السياسي لا يستخدم مصطلح العدو، ولا يزال المسؤول الإيراني
يستقبل ويودع بالمراسم المعتادة، من دون أن يقول الشباب
المتحمس إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس
أو تمطر الدما، ومن دون أن يعقد الألوية الحمراء لاستعادة الحق
المهدور بالدم والحديد والنار.
إنها رسالة تربوية في المقام الأول توجب على رجال التربية أن
تعيد صياغة علاقة الجيل بمحيطه المحلي والإنساني، وأن نؤسس
لجيل متصالح مع الناس، يعيش في عالم حيوي متفاعل، تحركه
المصالح المتبادلة، وحين لا تكون هذه المصالح متوازنة فإن
المطلوب فعل ما هو أجود حتى نحصل على المواقع المتقدمة.
هناك طريقتان لبناء أعلى برج في المدينة: الأولى أن نبني برجاً
أعلى من الأبراح الموجودة، والثانية أن نهدم جميع الأبراج التي
تزيد في ارتفاعها عن برجنا، وللأسف فقد اختار نظامنا البائس
أن يسلك السبيل الهمجي الثاني وهذا ما تدل له صور الوطن
المدمر من القنيطرة إلى عين ديوار.