الحوار لغة العصر,وهو الطريق الأمثل الّذي يمضي فيه العقلاء لكسب الآخر واحتوائه والاستفادة من معارفه وخبراته,والتواصل معه ثقافياً من أجل فهم منهجه الفكري والوقوف على مبادئه, والتعرف على عقيدته,وساحة الحوار واسعة وقضاياه متشعبة,فالحوار في الفكر والسياسة والاجتماع,وقضايا الأمة التي تتطلب حلولاً لها,وقضايا الدين والقانون, ومستجدات الحياة الوافدة كل وقت ما بين حين وآخر كل هذا وغيره مجال للحوار.والحوار له أدبه, والمحاور والمتحاور معه ينبغي أن تتوفر فيهما شروط لابد منها حتى يبلغ الحوار غايته وتجتنى ثماره.أما عن أدب الحوار فلا بد من معرفة ما يلي :
1- تحديد موضوع الحوار ( القضية ).
2- التحلي بالهدوء والرصانة.
3- طلب الحق من خلال الحوار.
4- الإحاطة بأطراف القضية ومتعلقاتها .
تلك ببساطة عناصر أدب الحوار,فالواجب على كل من يدخل ساحة الحوار أن لا يبرح هذه العناصر ضماناً لسلامة الحوار.
وماذا عن طرفي الحوار؟ لابد من الآتي :
1- التقيد بأدب الحوار .
2- عدم الخروج عن القضية موضوع الحوار إلى قضية أخرى.
3- الابتعاد عن المساجلات.
4- التحدث بهدوء وعدم رفع الصوت.
5- الحرص على الغايات الكبرى التي تخدم مصالح الدين والأمة.
6- البعد عن الأنانية والانتصار للذات .
نماذج من الحوار: أرقى أنواع الحوار, الحوارات القرآنية, ونختار منها هذا النموذج لحوار دار بين الله وإبليس:" وإذ قال ربّك للملائكة إني خالق بشراً من صلصال من حمإ مسنون . فإذا سوّيته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. فسجد الملائكة كلّهم أجمعون.إلاّ إبليس أبى أن يكون مع الساجدين . قال يا إبليس مالك ألاّ تكون مع السّاجدين.قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون.قال فاخرج منها فإنك رجيم.وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين.قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون . قال إنك من المنظرين.إلى يوم الوقت المعلوم .قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين.إلاّ عبادك منهم المخلصين.قال هذا صراط عليّ مستقيم.إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلاّ من اتبعك من الغاوين.وإن جنهم لموعدهم أجمعين.) هذا الحوار بين الله عز وجل وبين الشيطان,سمة الندية فيه واضحة, وقد انتهى إلى هلاك الطرف الخاسر وهو إبليس, وتأمل كيف أعطي كل ما طلبه علماً أنه لا يغني عنه شيئاً. لم ينفعه كبره ولا تمرده, بل قذفه في أودية الشقاء الأبدي.
وإليك أيضاً هذا الحوار النبوي الراقي في دائرة تصحيح المفاهيم الخاطئة من أجل الارتقاء العقلي والفكري نهوضاً بالمجتمع نحو الخير والصلاح. عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أتدرون من المفلس ؟ قالوا:المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: المفلس من أمّتي من جاء يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة,يأتي وقد شتم هذا , وقذف هذا,واكل مال هذا , وسفك دم هذا, فيعطى هذا من حسناته ,وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار .) الحوار هنا هادئ متزن وصل فيه الفريقان إلى الغاية المطلوبة وهي تصحيح فكرة الإفلاس.وتوسيع دائرته ليتجاوز المفهوم الدنيوي الضيق إلى المفهوم الأخروي الأوسع مدى.
وهذا أنموذج لحوار جرى في قاعة المحكمة قاضيها من أشهر القضاة قي تاريخ القضاء في الإسلام.( شهد رجل عند القاضي سوار بن عبد الله , فقال له : ما صناعتك ؟ قال : معلم صبيان.قال: إنّا لا نجيز شهادة مؤدب الصبيان.قال المعلم: لماذا؟ قال : لأنك تأخذ على تعليم القرآن أجرة.قال المعلم : وأنت تأخذ على القضاء بين المسلمين أجرة . قال سوار : إني أكرهت على القضاء.فقال المعلم : يا هذا هب أنك أكرهت على القضاء, فهل أكرهت على أخذ المال؟ فسكت سوار,وقال : هات شهادتك, وأجازها. ) حوار يمتاز بالرصانة والجرأة والتمكن من الحديث إلى جانب الثقة بالنفس.أقول: هل في قضاة عصرنا اليوم مثل هذا النموذج من القضاة يتحلى بالصبر والهدوء ويحاور الشاهد هذا الحوار المطوّل ليقبل شهادته في القضية التي جاء ليشهد فيها حفظاً للحق وردعاً للظلم.أم يشعر بالإحباط إن انتهى حواره إلى قبول شهادة الشاهد فيرفض شهادته ويأمر بسجنه ؟ .......هذه نماذج أرى أنها نافعة في قضية الحوار, لعلي قدّمت مفيداً في موضوع الحوار الّذي اعشقه وأطمح إلى الجلوس على موائده من أجل الوصول إلى ما ينفع الأمة في أمر الدين والدنيا والآخرة.