مجتمع النقيفات بقلم آرا سوفاليان
في العام 1966 كنت في الصف الخامس الابتدائي في مدرسة آليشان وكان أخي فريج أصغر مني بصفين وتقول عنا جدتي أننا كنا (شاقّين الأرض وطالعين) لا أعرف السبب ولكن كنا أشقياء بالفعل...كان أخي فريج يحب الحيوانات على مختلف انواعها، وكنت بدوري أحب الكلاب فقط، كان بيت أهلي في ساحة التحرير وتفصل بين بنايتنا وبناية كليّة الفنون الجميلة بناية واحدة لا غير...ولم نكن نجد أي حرج في ضرب اولاد حارتنا الكبار منهم والصغار عند أقل خطأ يرتكبه أحد في حقنا وسبب ذلك ان مشاجرة حدثت بين أخي فريج وبين ولد في الحارة اسمه بشار شيخ الارض، واستطاع بشار هذا ضرب أخي فريج وهدده بأنه سيطلب من شقيقه خلدون وهو اكبر مني أنا يضربني أنا وجاء فريج يشكو لي، وخرجت الى مدخل البناية وضربت بشار ضرباً مبرحاً فهرب الى بيته ورجع ومعه شقيقه خلدون فضربت كلاهما ضرباً مبرحاً أكثر وكانت خسائر بشار أكثر لأنه أكل القتلة مرتين...ومنذ ذلك اليوم لم يعد بشار ولا شقيقه خلدون يجرءان على الخروج من بيتهم حتى نجح الكبار في جهود الصلح...ومرة حدثت مشكلة بين أولاد الجيرودي وهم من جماعتنا وأولاد القولي وهم جيراننا في الحارة القريبة التي كنا نسميها أول دخلة...وجاء أولاد الجيرودي ليعلمونا بما حدث...فأرسلنا جاسوس ليستطلع الخبر فرجع ليخبرنا بأن عصابة القولي يجلسون على درج بنايتهم ويتشاورون ويحشدون ليأتوا الى حارتنا ويضربونا...فقلت لأولاد حارتنا، احضروا العصي والنقيفات والحقوني لنضربهم في حارتهم واثناء تشاورهم...وكانت معركة مفاجئة...لقد أكل أفراد عصابة القولي قتلاً لا تحتمله الحمير.
واعتقدنا ان الامر قد انتهى عند هذا الحد فذهبنا الى جادات الخطيب العليا وكانت كلها بساتين، ذهبنا لقطف المشمش والجانرك والقرعون، وعندما عدنا اكتشفنا ان عصابة القولي جاءت الى بنايتنا ومن بداية المدخل ضربوا بالنقيفات واجهة محل الحلاقة آمال وواجهة المنجد سليمان عميرة، الذي ذهب لإحضار الشرطة ففتحوا محضر وسجّلوا الأضرار، وذهب بهم الى بناية القولي حيث تم التحفظ على اولاد عصابة القولي ووصل أهلهم الى مخفر العمارة ليقبّلوا الأيادي...أما نحن فقد عدنا نحمل الجانرك والقرعون والمشمش ومسحة الطهر ظاهرة على وجوهنا البريئة.
كان أخي فريج يحب الحيوانات بكل انواعها وكنا قد انتقلنا في نفس البناية من الطابق الأول الى القبو...وجن جنون فريج لأن في القبو جنينة كبيرة وجميلة جداً فيها دالية عنب كبيرة وشجرة ليمون وشجرة كباد وشجرة مشمش وثلاثة مراجيح وبحرة ماء ونافورة وحوض زريعة.
فأسرع فريج لملئ البحرة بالماء واشترى لها نافورة وطابة بينغ بونغ وكان لوالدي صديق هو البير زاكاريان يهوى تربية الاسماك، وقد أهدى والدي أجمل الاسماك السويسرية التي كانت تأتيه من سويسرا على شكل هدايا، لأنه كان يعمل كمندوب علمي لشركة زيما السويسرية للأدوية.
وجن جنون فريج فلقد كان يضع يده في بحرة الماء يريد مداعبة الاسماك، وكنا قد أطلقنا على هذه الأسماك اسماء عربية كأم المناديل وسمكة الشاكوش الحمراء وسمكة الشاكوش الزرقاء وكانت كل واحدة تتمتع بعيون بارزة كالشاكوش، وكانت هناك سمكة اسمها ام الذهب، وسمكة اسمها المجلوقة، وأخرى اسمها أم الشوارب.
وتسلل قط ذكر من السور وشبط ظهر أم المنادليل فجرحها وهرب، واصيب فريج بصدمة نفسية لأن أم المناديل ماتت في اليوم التالي...ونقم فريج على الهارون الذكر وأقسم على الانتقام منه، وسميناه أبو النابين وكان أبو النابين يسخر منا ويسرح ويمرح في الخرابة وهي التي صارت البناية التي تفصل بين بنايتنا وبناية كلية الفنون الجميلة، وحزنت بقية الاسماك على ام المناديل فلحقتها تباعاً حتى فرغت البحرة من سكانها.
طلب فريج من ابي ان يصنع له بيت من الخشب والشبك له باب وشبابيك وأن يشتري له دزينة صيصان ليضعهم فيه...وكانت رغبات فريج بالنسبة لأبي أوامر فوصل البيت ومعه الصيصان وصار فريج يهتم بهم وكنا نذهب معاً الى العمارة نشتري لهم الطعام المخصص ويبدوا ان الظروف لم تكن ملائمة فحدث تناقص في عدد الصيصان فماتوا جميعاً عدى شقيقهم الأكبر وكنا نسمّيه الجوقجوق...والسبب في هذه التسمية أن هذا الصوص كبر وصار فروج وكان فريج يفتح له باب بيته فيخرج ويصدر أصوات هي جوق جوق....جوق جوق جوق جوق...فأطلقنا عيه أسم الجوق جوق...وكان فريج يأتي من المدرسة مسرعاً فيرمي الحقيبة ويسرع ليضع الطعام للجوق جوق ويبدّل له الماء...ومرة دخل فريج الى البيت وترك الجوق جوق في حوض الزريعة فنزل الهارون ابو النابين وعضّ الجوق جوق من رقبته وحاول حمله والهروب به ولكنه وقع ووقع معه الجوق جوق وسمع فريج الصوت وخرج الى الجنينه من جديد فتسلق ابو النابين جذع شجرة المشمش وصعد الى السور وقفز الى الخرابة مولياً الأدبار...ومات الجوق جوق بين يدي فريج وحزن عليه كثيراً وأدركت أنا الحالة الجديدة التي وصل اليها فريج حيث أنه: بلغ السيل الذبى بالنسبة لفريج وطلب مني مرافقته وانا لا أعرف الى أين...قطعنا الشارع ووصلنا الى العمارة وكان هناك بائع خرداوات وصحية، أشترى فريج من عنده متر مطاط مضلّع ابيض وذهبنا الى جادات الخطيب حيث انتقى فريج غصن خشب صلد متفرع وفي طريق العودة عرّجنا على ابو ابراهيم جريج الكندرجي وأخذنا من عنده قطعة جلد 10×5 سانتي وعدنا الى البيت وبعد ساعة من العمل انجز فريج نقيفته الأولى وجمعنا البحص المطلوب وبدأ فريج بالتدرب على النقيفة في الخرابة حيث كنا نضع تنكة ونضع فوقها علبة دهان صغيرة فارغة، ويتم التسديد على علبة الدهان الفارغة، ووصلت الدقة في التسديد لدى فريج الى مستوى اصابة علبة الكبريت.
وذهبنا لنبحث عن الهارون ابو النابين وكان فطناً نبيهاً وسريعاً ويعرفنا ويعرف أنه لنا ثأر عنده فيسلم ساقيه للريح بمجرد رؤيتنا، وكان فريج يصيبه بمعدل يتراوح من ضرب الى ثلاثة ضروب في كل مرة نصادفه فيها، وفي يوم من الأيام اختبأنا أنا وفريج خلف سيارة ابي التي كان يضعها على الرصيف تحت شجرة الدلّب الكبيرة، وجاء الهارون ابو النابين ليبحث في الزبالة عن قوت يومه فناداه فريج فنظر ليستطلع الخبر وكان متفاجئ فسدد فريج ووضع له حجر في وسط عينه اليمين وهرب ابو النابين ورأيناه في اليوم الثاني وعينه بقدر طابة البينغ بونغ...وكنا ننظر اليه ونضحك ونسخر منه فيهرب من جديد فنذهب من طريق آخر لملاقاته ونلاقيه ونضحك دون ان نضربه، واختفى ابو النابين ولم نعد نراه يبدوا انه انتحر من الغيظ.
طلبت من فريج ان يصنع لي نقيفة لأن المسألة قد أعجبتني ففعل وكانت دقتي لا تقارن بدقته فكنت افكحاً في أغلب التسديدات المصيرية، وكنا نخرج في جولات ليلية نسميها "صيد القطط" وكنا نقف امام القطط التي كانت تتناول وجبات عشائها فنسدد فيصدر صوت جاف (بوب) ويكون الحجر قد أصاب بطن القطة بالتمام والكمال وكنا نضحك ونضحك وكانت حدودنا حارتنا والحارة التي خلفنا وكنا نسمّيها أول دورة، وكنا نكتفي فنذهب الى الفيجة التي تم اقتلاعها من مكانها اليوم وكان موقعها بالقرب من درج عيادة الدكتور فؤاد أيوب وكنا نغسيل ايدينا ووجهنا ونرجع الى البيت أبرياء طاهرون...وفي احدى الجولات كان مستوى التفشيل عندي عالياً جداً ربما لأسباب نفسية وكان فريج يسخر مني...فقلت له: هذه النقيفة التي صنعتها لي هي السبب لأنك اشتغلتها (من ورا إيدك) وكنا نتناقش عندما نزل كهل وبيده قطرميز مونة من الحجم الكبير 70 سانتي والذي له فم مستدير بحافة مقلوبة وفيه خصرة من الوسط، ويبدو ان القطرميز هاذا مشعور ويريد الرجل ان يتخلص منه، فقلت لفريج انظر الى هذا القطرميز انه كبير ومع ذلك لن انجح في اصابته...وسددت فصدر صوت عظيم وبقيت حافة القطرميز في يد الكهل الذي اسلم ساقيه للريح وهو يقول بسم الله بسم الله دستور دستور ايها الأسياد...لقد ظن الكهل أن الذي حدث هو من فعل الجان...وضحكنا انا وفريج ولم نضطر للهروب لأن الرجل هرب قبلنا، قال لي فريج إذاً تعال لنبادل...قلت له: لا أريد يبدوا أنني كنت متعب وان الامور رجعت الى ما كانت عليه وقررنا ان ندور آخر دورة ورأينا قطة تتمشى تحت الدرابزين الذي يفصل بيت الجيران عن الرصيف في الحارة الخلفية فقال فريج هذه لك...وسددت ليتبين ان الفكحنة عادت من جديد وان الحجر طار من فوق ظهر القطة ودخل في زجاج النافذة في الخلف وحطمه وكانت العائلة مجتمعة على مائدة العشاء وأسلمنا سقينا للريح.
في اليوم التالي رأينا على الرصيف قطة صغيرة شقراء اللون تموء، واقتربنا منها فلم تهرب، كانت صغيرة جداً حملناها الى البيت ووضعنا لها الحليب فشربت، وجئنا في اليوم التالي وبعد المدرسة لنلاعبها فلم تلعب، ووضعنا لها الحليب فلم تشرب، وكان معي فرنك (خمسة قروش) ومع فريج فرنك وذهبنا لنشتري لها شخط وكان هناك لحّام عجوز محله في باب توما بعد النهر وبعد الجامع، وكان محله يقع تماماً قبالة محل الصوص بائع الفول، قلنا له نريد شخط للقطة واعطيناه الفرنكين فوضع لنا لحم رائحته منتنة، وذهبنا الى البيت ووضعناه للقطة فلم تقترب منه، وقالت لنا امنا، هذا اللحم منتن وفاسد والرجل قد غشكم...فعدنا لنعيد اللحم ونسترد نقودنا فضربنا الرجل بقطع اللحم وشتمنا... فوقفنا في مواجهة المحل وأخرجنا السلاح الفردي النقيفات وضربنا واجهة الرجل الزجاجية فاختلط اللحم بالزجاج وهربنا.
في البيت قلت لفريج هذه القطة مريضة وعلينا التخلص منها...ولعبة النقيفات هذه مؤذية...ونحن الآن نسبب الأذى للآخرين...قال لي: وما هو الحل؟ قلت له يجب ان نتخلص من هذه الأدوات قبل ان نتحول انا وانت الى مجرمين...وفي اليوم التالي كنا نعود الى المدرسة فنظهر امام المدير والمعلمات على شكل الملائكة وكان المدير يكرهني كرهاً ما بعده كره...يبدوا انه كان يعرف حقيقتي بقلبه المفعم بالقداسة والايمان وبخيزرانته التي كان يخبئها في كم معطفه الكهنوتي الأسود الطويل الذي كنت انسحر به لا لشيء غير الخمسمائة زر الموجودين في المقدمة بدئاً من الرقبة حتى القدمين وكنت في كل مرة أسأل نفسي كم من الوقت يهدره هاذا الخوري في لبس وخلع هذا الرداء الكهنوتي وكان الرجل شديد القسوة على الجميع وكان يكرهني بشكل خاص...وكانت ايام الاسبوع مقسمة بحيث الاثنين والثلاثاء يتم التحدث في الباحة قبل الظهر وبعد الظهر بالعربية، والاربعاء والخميس بالارمنية والجمعة والسبت بالفرنسية، وكان الهدف هو تدريب التلاميز على التحدث باللغات الثلاثة، ومرة امسكني في احدى الايام التي يتوجب عليّ أن أتحدث فيها بالارمنية أمسكني وانا اتكلم العربية فعاقبني بأن أكتب قصاص قصيدة ارمنية مئة مرة، وكتبت القصيدة عشرة مرات فقط وساعدني أخي فريج وتحملت معنا ساعة كاملة، وبحثنا عنه أنا وأخي لتسليمه القصاص فلم نجده كنا نريد تسليمه القصاص وعلينا بعد ذلك الذهاب الى بيتنا سيراً على الاقدام لأن الباص تركنا وأمنا سينشغل بالها وأخي معاقب بسببي دون أن يكون مذنب، وبحثنا عنه طويلاً بلا جدوى، الى ان سمعنا طرقاً بالشاكوش على الجدار في غرفة الروضة فذهبنا انا وأخي وكان الرجل متعمشقاً على السلّم يضع مسماراً في الجدار لزوم برداية صف الروضة، وقلت له بالارمنية ان القصاص جاهز، فلم يرد، قلت له الباص تركنا ويجب ان نذهب أنا وأخي سيراً على الاقدام فلم يرد، قلت له أن أمنا مشغول بالها علينا فلم يرد، قلت له ان أخي يخضع لنفس العقوبة وهو لم يفعل شيئاً وهذا ظلم، فصرخ الرجل بعد ان اصاب أصابع يديه بالشاكوش ووقع الشاكوش على الارض وظل هو متعمشقاً على السلّم ووقعت البرداية على الارض، وكاد أن يقع عن السلّم، فوضعت اوراق القصاص على اقرب مقعد واسلمت ساقي للريح وتبعني أخي فريج، وعندما استلمنا طريق باب توما ساحة التحرير سألني فريج ماذا سيفعل بنا في الغد...قلت له: هذا الرجل مؤذي وانا قد نفذ صبري، في الغد اذا جرب ان ينتقم مني فسأجمع طلاب المدرسة على صوته وفي اليوم التالي اعتبر هذا المدير الفظ والغبي والجلف اعتبر ان الامر منتهياً وكان هذا في صالحه.
آرا سوفاليان
كاتب انساني وباحث في الشأن الأرمني
دمشق 25 05 2013
arasouvalian@gmail.com