كفانا الله – وإياكَ – شر الاكتئاب
تفضل عليّ أخي الأستاذ محمد أحمد بابا بمقالته الموسومة بـ"اكتئب : فتاريخ الاكتئاب مشرف" – والمنشورة في صحيفة"مكة" الورقية – والمقالة كُتبت على هامش حوار مع ابن عم للأستاذ"محمد"متخصص في علم النفس.
مربط الفرس في المقالة،وقد عُطف عليه عنوانها،أن أنبياء الله – عليهم السلام – أصابهم الاكتئاب.
يقول أخي"محمد" :
(لا أظنّ بأن قول أنبياء ورسل لله تعالى عليهم السلام حيال حالة يأس من أقوامهم إلا شيءٌ من ذلك (الاكتئاب) لم يعصمهم الله منه كما لم يعصمهم من موتٍ ولا داء، فنوحٌ عليه السلام أوصله حال قومه إلى أن يقول (ربّ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّارا) لنجد بأن (اكتئابا) مستحقا وفق الطبيعة البشرية)
ممتع أن يقرأ الإنسان مثلا هذه المقالات التي تحفز على التفكير،ولعلي أختلف مع أخي الكريم فيما ذهب إليه .. وذلك لأن "الاكتئاب" أحد أمراض العصر الحديث،كما أن"تعريف"الاكتئاب،لا يمكننا من وضع أنبياء الله – عليهم السلام – تحته .. الاكتئاب : ( مرض نفسي يصاحبه اتجاه للعزلة وهبوط في الجسم وفي القدرات الذهنية،وحالة نفسية أو عصبية تتسم بعدم القدرة على التركيز،والأرق وشعور بالحزن الشديد واليأس يُعد الاكتئاب من أمراض العصر.
والاكتئاب الزائد : أحد الاضطرابات العصبية العاطفية التي تتصف بفقدان الاهتمام بأي شيء وضعف الشهية وقلة النوم أو كثرته والتعب .. والإحساس بالضيق والوهن){معجم المعاني}
ومن زاوية أخرى .. يقول "بيجوفيتش" :
(الإنسان يملك روحا ،ولكن علم النفس ليس علما معنيا بالروح،فلا يمكن أن يوجد علم عن الروح،يتعامل علم النفس مع بعض الأشكال الخارجية التي تبدو على أنها حياة جُوانية. ومن هنا أمكن التحدث عن علم النفس الفسيولوجي،والقياس النفسي،والصحة النفسية،والظواهر الفيزيائية للنفس. فإمكانية علم النفس الكمي تُطابق موضوعه البراني الآلي الكمي،أي الطبيعة اللاروحية للفكر والشعور. ومن هنا،يتكامل كل من علم نفس الإنسان وعلم نفس الحيوان لأن علم النفس ليس معنيا فقط بالظواهر النفسية. يقول جون واتسون : " علم نفس الإنسان كما يفهمه المذهب السلوكي،ينبغي إقامته على غرار علم نفس الحيوان الموضوعي التجريبي،مستعيرا منه طريقته في البحث ومناهجه وأهدافه.ولذلك،لا يوجد نوعان من علم النفس أحدهما إنساني والآخر حيواني منفصلان كل منهما عن الأخر بستار حديدي، (..) وإنما علم نفس واحد يحتل مكانه بين العلوم الطبيعية){ ص 99 – 100 ( الإسلام بين الشرق والغرب ) : علي عزت بيجوفيتش / ترجمة : محمد يوسف عدس / القاهرة / دار الشروق / الطبعة الخامسة 2014}
وسؤال صغير،يدور في فلك تعريف "الاكتئاب" هل الاكتئاب أشد أم "الحزن"؟
متذكرا دعاء الحبيب صلى الله عليه وسلم : اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن .. إلخ.
فنحن نستعيذ باله من "الحَزن" .. فكيف بالاكتئاب؟
أشار أخي "محمد"أيضا إلى قضية أخرى .. فقال :
(في ذات الوقت الذي يقتنع فيه الأغلب بأن تعرض المرأة لنوبة (اكتئاب) بعد الولادة أمرٌ محتمل في الأيام الأولى جاءت في شيء من ذلك ردة فعل مريم ابنة عمران حيث قالت "فلنْ أكلّم اليوم إنسيّا")
أعتقد أن الحديث عن اكتئاب النفساء،جزء مما استوردناه من الغرب .. فالمرأة الغربية،بل الرجل الغربي أيضا،الذي صنع قطيعة من الدين،حق لها أن تكتئب من الولادة!
بل يعيد "بيجوفيتش"اضطرابات الإنسان الغربي إلى تلك القطيعة،فيقول :
(لقد سُمح للإنسان الغربي أن يكون مسيحيا في حياته الخاصة،وأن يكون"ميكافيليا"في معاملاته العامة وأعماله. والذين لا يستطيعون أن يحلوا هذا الصراع أو يتحملوه يقعون فريسة للاضطرابات العصابية).
وعليه .. إن كانت المرأة المسلمة – مثل المرأة الغربية – تعني "اكتئابا بعد الولادة"فذلك إما تقليدا .. وإما جهلا .. أو هما معا!!
فالمسلة تعلم .. أو يفترض أنها تعلم أن من الشهداء (المرأة تموت بجمع) .. وقيل فيه تموت بسب الولادة.. والمرأة الغربية تعلم أن أبر أبنائها من يرسل باقة ورد ذات عيد من الأعياد .. أما المسلمة .. فـ" ويحك الزم رجلها فثم الجنة" .. وتغير الواقع،لا يلغي وجود "البر"ولا يلغي أصل الأمر.
بهذه النقطة أنهي وجهة نظري،أو تعليقي على المقال.
وبقيت زاوية أخرى للموضوع .. فقد قال أخي "محمد" :
(لست باحثا نفسيا)
وكاتب هذه الأسطر أيضا ليس مختصا في علم النفس.
إذا .. العتب على إخواننا الذين تخصصوا في علم النفس،ثم اكتفوا بدراسة ما تعلموه من علم النفس الغربي،مع تعدد و تضارب مدارسه .. ورغم وجود دعوات من بعض المختصين،للنظر إلى الشخصية العربية بعيدا عن الشخصية الغربية،وقبل أن نرى ذلك .. نأخذ هذه اللقطة .. يقول "إريك برن" – الذي أسس علم النفس التفاعلي – متحدثا عن الأطباء النفسيين ..( إنهم ينظرون إلى المريض كشيء يتم فحصه ثم إلصاق اسم معين على مجموعة الأعراض التي يشكو منها المريض،وكلما كان الاسم لاتينيا كلما كان ذلك مثيرا حتى يتلقفه زملاء المهنة الذين يحشرون مرضاهم في صناديق ضخمة،وعلى كل صندوق اسم لمرض نفسي،وتتلقفه شركات الدواء لتقدم صنفا من الدواء يزيل مجموعة الأعراض تلك،ويهلل العالم عن اكتشاف دواء جديد،مثلما هللوا منذ سنوات لدواء مضاد للاكتئاب اسمه"بروزاك"ثم تبين أن بعضا ممن يتناولنه يندفعون إلى القتل أو الانتحار) { مجلة روز اليوسف العدد 3402 في 5 / 3 / 1414هـ = 23 / 8 / 1993م}.
أما الذين ينادون بدراسة الشخصية العربية بمعزل عن الشخصية الغربية فإن (في طليعة هؤلاء نذكر الأستاذ الدكتور يحيى الرخاوي الذي طرح الشخصية العربية للنقاش مميزا بين حاجاتها وحاجات الآخرين وداعيا للاستجابة لهذه الحاجات وعدم الضياع في خضم عبثية دراسة مشاكل الآخرين وحاجاتهم. وكذلك الأستاذ الدكتور محمد فخر الإسلام الذي يدعو لإدراك أثر البيئة في ترسيخ بعض المعتقدات،متعددة الأصعدة،على تكوين الشخصية العربية. فيعارض التقسيم الدولي العاشر للأمراض لكونه ينظر إلى هذه المعتقدات وكأنها علائم فصامية. وهذا الموقف يستحق الإكبار والوقوف طويلا عند الفكر الكامن خلفه والذي يتطلب الترسيخ كمدرسة وليس كمجرد تيار فكري){ عن مقال"الشخصية العربية بين القرد والسمكة": افتتاحية العدد بقلم الأستاذ الدكتور محمد أحمد النابلسي : مجلة"الثقافة النفسية" العدد 15 مجلد 4 تموز 1993}.
ليس هذا فقط،بل نجد في أوربا مدرسة في الطب النفسي،منشقة على المدارس الأمريكية .. وترى أن ما يصح في أمريكا،لا يصح في أوربا .. مع انتمائهما إلى حضارة واحدة!!
جاء في مجلة "الثقافة النفسية" :
(إن لا أدرية المجتمع الأمريكي تطرح إشكاليات عديدة على صعيد العلاج النفسي وتنظيمه. وهذه الإشكاليات دفعت الاختصاصيين الأوربيين إلى اتخاذ المواقف الحاسمة من الإيديولوجية النفسية في أمريكا. ومن هذه المواقف :
1- البروفيسور الفرنسي"بورجوا"الذي يعتبر أن الأمريكيين يستخدمون تصنيفهم للأمراض ويحاولون فرضه على الشعوب الأخرى وكأنه حصان طروادة الذي يدخل من خلاله الفكر الأميركي إلى عقول الأطباء النفسانيين حول العالم .. إلخ
2 – رفض العديد من أساليب العلاج النفسي الأميركي. وهذا الرفض يصل أحيانا إلى حد الرفض المطلق مع الإدانة وأحيانا الاتهام بالإستباحة.
3 – إن المنظمة الدولية للتحليل النفسي ترفض الاعتراف بغالبية المدارس التحليلية الأميركية.
هذه الأسباب وغيرها"منها سياسية"هي التي أدت إلى قيام المدرسة المعادية للطب النفسي في أميركا. وفي تعليقها على هذه المدرسة تقول البروفسورة "موسون" : " قد يكون ذلك صحيحا في مجتمعهم أما في المجتمع الأوربي فإن ذلك غير صحيح. وما يصح في أميركا وفي ظروفها لا يصح في ظروفنا وفي المجتمعات الأخرى"){ مجلة الثقافة النفسية العدد 5 مجلد 2 كانون الثاني 1991م}.
وفي فرنسا .. (ولدى مراجعتنا لأعمال "لاكان" نلاحظ أنه تقولب هو ونظريته في قالب جاهز. مفاده إبعاد التحليل عن الجنسية إرضاء للطابع الكاثوليكي للقالب"المجتمع الفرنسي"وإرضاء لمعاصريه من الفلاسفة "خاصة فوكو".){ عن ملف"التحليل النفسي ومدارسه" : مجلة الثقافة النفسية العدد 7 مجلد 2 تموز 1991}.
أما إذا نظرنا إلى المدرسة الدينية في الطب النفسي – في الغرب – فإن عداءها،واختلافها مع بقية المدارس أشد وأعمق،يقول الدكتور مصطفى فهمي :
(إن الفرق كبير بين المذهب الفرويدي والمذهب الديني في العلاج ،ففي حين أن المذهب الثاني يهدف إلى تقوية الضمير،نرى المذهب الأول يحاول عن طريق التحليل النفسي،إلى التقليل أو إضعاف قوة "الأنا الأعلى" ذلك الجزء من الجهاز النفسي – حسب تصوير "فرويد" – والذي يمكن تشبيهه بالرقيب الداخلي،يقف حائلا دون اندفاع تلك الرغبات والنزعات غير المهذبة،المكبوتة في اللاشعور ){ ص 354 ( الصحة النفسية : دراسات في سيكلوجية التكيف) / د. مصطفى فهمي / القاهرة / مكتبة الخانجي}
وفي نفس الكتاب نجد قول "مورر" :
( إن التحليل النفسي ليس عملا ملائكيا ،بل أسلوبا من أساليب الشيطان،إنه ليس طريقا للخلاص بقدر ما هو وسيلة لعبودية والاسترقاق" : مورر {ص 9}
وختاما .. إن استيرادنا – وأقصد المختصين،ولا أقصد الأستاذ"محمد" – لنظريات علم النفس الغربية،خصوصا "الفرويدية"منها ... ليس أكثر من حلقة في مسلسل استيرادنا لكل شيء من حضارة الغالب،ودون تمحيص أحيانا!!
ورحم الله زمانا قيل فيه :
(ويذكر جيمس كولمان أن الإنصاف العلمي يقتضي الإشارة إلى أن من بين جميع حضارات العصور الوسطى لم يكن هناك غير العرب يستطيع تطوير بعض الأفكار العلمية عن الأمراض العقلية،فقد نشأت أو مصحة عقلية في بغداد سنة 792 هجرية){ عن مقال"الميتا بسيكولوجي عند ابن سينا" بقلم / د.محمد عبد الرحمن مرحبا : مجلة الثقافة النفسية العدد 6 مجلد 2 نسيان 1991}.
أرجو أن يكون"كولمان"قد قال :"غير العرب" .. ولم يقل "غير المسلمين"!!
أذكر أنني قرأت أن العنوان الأصلي لكتاب الألمانية "زغرد هونكه" هو : شمس الله تسطع على الغرب .. وفي خضم "هوجة"القومية العربية ،تُرجم الكتاب بـ"شمس العرب تسطع على الغرب"!!
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
أبو أشرف : محمود المختار الشنقيطي المدني