الكاتب والاديب الفلسطيني يعقوب خليل الاطرش في ذمه الله
غيب الموت اليوم، الكاتب والاديب الفلسطيني يعقوب خليل الاطرش عن عمر يناهز (76 عاما) بعد صراع طويل مع المرض.
وسيتم تشيع جثمان الفقيد الساعة الخامسة من مساء غد من كنيسة الاباء الاجداد للروم الارثوذكس في بيت ساحور .
وكان الكاتب والاديب النائب عيسى قراقع اشاد في مقال له نشر قبل يومين بالكاتب الراحل يعقوب الاطرش مستذكرا مواقفه الوطنية وسجاياه النبيلة.
وقال قراقع في مقاله تحت عنوان الكاتب يعقوب الأطرش: رائحة المدن والأسماء في قطار النكبة ان سيرة الاطرش تنطق باسم الهم الجمعي للفلسطينيين في مراحل مختلفة أمام محطات هامة تستدعي أن يتنبه لها المؤرخون والسياسيون والأجيال القادمة.
وفيما يلي اعادة للمقال:
الكاتب يعقوب الأطرش: رائحة المدن والأسماء في قطار النكبة
أصدر الكاتب و الصحفي القدير يعقوب الاطرش ابن مدينة بيت ساحور جزئين من سيرته الذاتية تناولتا رحلة 75 عاما من حياته الحافلة التي مرت في قطار لا زال مزدحما بالذكريات والأحداث و الشخوص والأمكنة ولم يصل بعد.
توقفت خلال قراءتي لهذه السيرة الناطقة باسم الهم الجمعي للفلسطينيين في مراحل مختلفة أمام محطات هامة تستدعي أن يتنبه لها المؤرخون والسياسيون والأجيال القادمة.
الكاتب الذي أراد أن ينسى حرب 1948 لا يزال خائفا وقلقا من الغد، لأن الحرب لم تنته، والنكبات لا تزال متواصلة على الرغم من محاولاته توقيف قطار الألم عند أي محطة للسلام والاستقرار، مستعينا بالفن والكتابة والسفر والخيال والانهماك كثيرا في العمل، ربما كي يستغني عن كتابة الجزء الثالث من سيرته، إذ يكفي أربعة عهود من حياته لم تشهد يوما هادئا.
ويبدأ الكاتب سيرته الممزوجة بين القصة والحكاية بنبش الحنين الى مدينة الرملة الفلسطينية بحدائقها وأسواقها وسكانها وطعامها، وقد عاش فيها 16 عاما الى حين النزوح والتشرد.
وفي حنينه المحروق يخاطب يعقوب الأطرش كل الأمكنة والأسماء، ويمسح عنها غبار النسيان، ويتذكر الجميع فيرتبهم في حديقة ذاكرته ابتداء من طلاب صفه ومعلميه، وصبا طفولته، وكأنه يحاول بذلك أن يحضر كل البراهين والدلائل ويحرك الظلال، ليكشف بصمات الحق على الجسد والأرض ، يرفعها في وجه سياسة التطهير العرقي والقوة الوحشية الإسرائيلية التي اقتلعت شعبا من وطن أحلامه.
في سيرته تسمع صرخات البيوت التي دفنت تحت المستعمرات، وأنين الأرض التي صودرت لصالح العصابات الصهيونية، تمهيدا لإقامة ما يسمى الوطن القومي لليهود.
وفي سيرته تسمع أصوات التفجيرات الإرهابية الإسرائيلية في سوق الرملة ومباني شركات القدس ويافا، ومحاولة نسف مدرسة الرملة، وسقوط القتلى والجرحى من السكان المدنيين.
وفي سيرته ترى كيف احتلت الأرض واحتل العمل، فطرد والده من عمله في مطار ومعسكر (عاقر) البريطاني الذي بيع فيما بعد لليهود وتحول الى معسكر اعتقال خلال النكبة زج فيه المئات من السكان الفلسطينيين.
وفي سيرته ترى أمواج الهجرة اليهودية وانسحاب الأرض من تحت سكانها وابتعاد البحر، أمام تقاعس الجيوش العربية في نجدة فلسطين خلال الحرب، والتواطؤ مع القوات البريطانية ، مما أسقط توقعات الكاتب في قصته التي قدمها للمربي الفاضل فتح الله السلوادي في مدرسة الرملة متحدثا فيها عن طائرات عربية ستملأ السماء لمناصرة الشعب الفلسطيني ، وتحققت نبوءة الشيخ السلوادي الذي ردّ عليه بعد قراءة القصة : أخشى يا بني أن تكون طائرات من ورق.
إن رائحة المدن الفلسطينية في سيرة يعقوب الأطرش تفوح من كل اتجاه، مسكونة بالسكان والحارات والمنازل والمفاتيح ومذاق القهوة وبساطة الحياة، لها خطوات على التراب وترانيم في السماء، وكأنه يحاول أن يرمم الجهة المكسورة في الوعي الإنساني جراء حرب الاقتلاع عام النكبة.
يطل القارئ في سيرة يعقوب الأطرش على الواقع التعليمي في فلسطين بعد النكبة، وعلى دور المؤسسات والجمعيات الأهلية في حماية وصون الهوية الثقافية والوطنية، وعلى مدى التحدي الأسطوري في إعادة التعليم وفتح المدارس بعد حرب الرابع من حزيران. وخلال الانتفاضة الأولى في أواخر الثمانينات .
انه ينصف دور الحركة الطلابية والمعلمين والصحفيين والمفكرين في الدفاع عن الوطن الذي تعرض للسلب على يد الاحتلال، ويحرك صور الشهداء والمبدعين عن جدار الصمت ليكون لهم مكانا لائقا في روايتنا الفلسطينية وصوتنا الجماعي.
تقرأ في السيرة العلاقات الاجتماعية البسيطة والدافئة لشعب عادي، يطلع صباحا مع الفجر ولا يعود إلا ببزوغ سنابل القمح، شعبا موحدا لا تمزقه النعرات والطائفيات الضيقة، الى درجة أن الكاتب كان الطالب المسيحي الوحيد والمبدع والمتفوق في التربية الإسلامية في مدارس الخليل.
إنك تقف أمام فلسطين الكنعانية بنجمتها الثمانية وهي تحلق من يافا حتى النقب مرورا بالبحر وخطى الأنبياء والرحالة وينابيع الماء ومواسم الزيتون، في جاذبية إنسانية تشدك الى القدس والصلاة.
يرتب الأطرش ذكرياته كما يرتب الأشجار في بستانه الصغير، يدل وجعه على الهواء النقي وعلى فرح قادم، وعلى استرجاع بداية الحكاية لشعب لا زال قادرا أن يشفى من جرح التاريخ.
الكاتب الذي عمل في سلك التعليم 30 عاما يبحث عن محطة للوصول مع ركاب قطار لا يعرفون الى أين يذهبون ومتى يصلون، في ظل استمرار الاحتلال وطمس الحقوق وغياب العدالة.
لقد وجد الكاتب في زحام قطار العمر أن يخلو الى الكتابة، لأن في الكتابة اقتراب بين الغائب والحاضر، يتبادلان الكلمات والصوت والضوء، لعله بذلك يحمي الذاكرة من الموت البطيء والضياع ويقرب المسافة.
انه يكتب ذاته، يذوب صبرا وألما على صفحات التاريخ، شاهدا على دمه وعذاباته، يفيض بالتفاصيل، مصرا على أن يقطن أرض قصته حتى يظل موجودا، مستجيبا لكل من التقاهم في المدرسة أو في الشارع أو في المكتب أو في الحديقة أحياء أم أمواتا.
وفي كلامه تجد رجلا متنوعا وقويا، ذو صوت ميكرفوني في إذاعة (هنا القدس من رام الله) في الخمسينيات، وقاصا أنذر نفسه لبلده ووطنه في أول قصة أصدرها بعنوان (النذر)، ومعلما ومديرا في مدارس التربية والتعليم، قارع خلالها ضباط وجنود الاحتلال كثيرا، ومن ثم صحفيا لا زال يكتب في جريدة « ے » مقالا أسبوعيا مطلا من شباك عمره على الحياة، ومترجما ينهل من المشترك الإنساني للشعوب ثقافة وفكرا وأدبا، فيكسر حصار اللغة ويحلق حرا في الفضاءات.
في قطار يعقوب الأطرش يجلس الكثير من الأصدقاء الذين تركوا بصمات جليلة على الحياة الفلسطينية في كل مراحلها: عبد القادر الجاعوني، عبد اللطيف عابدين، راضي عبد الهادي، موسى الدجاني، فهمي جبور، الشيخ فتح الله السلوادي، حسني الأشهب، رجب بيوض التميمي، جريس قمصية، أكرم دودين، أحمد العناني ، عبد العزيز الخياط، محمود أبو الزلف، أنور الخطيب، نزار أبو غزالة، لويس عبد ربه، محمد عودة، الأب إبراهيم عياد، فؤاد رزق، عيسى عطا الله ، قسطندي نيقولا، وعبد المجيد حمدان وغيرهم.
تلك الأسماء لم تنه عملها بعد، رحلتها مستمرة في الحياة وفي الموت، ما تزال تشير بأصابعها الى المكان المنكوب، والى المكان الذي بدأ يحتجب من المشهد لصالح المنفى والمذبحة.
ركاب القطار يمرون عن حدائق تحولت الى مستوطنات، وعن قرى دمرت وغيرت أسماءها الى العبرية، يمرون عن عرائس المدن وقد توشحت بالسواد وخلت من الجمال.
ركاب القطار يصابون بالخيبات منذ سنوات المدّ القومي الى سنوات الصلح غير المتكافئ الذي حول الأرض الى معازل وسجون ومعسكرات، حتى اختبأ الدمع تحت كلمات الكاتب ثم طفح.
من بيت ساحور يتسلل الكاتب الى حياته العامرة، يوقظها مرة واحدة، محتفلا تارة بندبة على جرحه تنبهه أن شجرة السنديانة لم تثمر هذا العالم، وتارة بأمنية تخفف من حمّى الليل وآلام المفاصل.
يعقوب الأطرش في سيرته الذاتية يحرك الرياح، قادر أن يبدأ من كل نقطة، ومن كل إيقاع يكتشف البحر والرملة، وهو لم ينس دور زوجته (أم نادر) التي ظلت معه في القطار لتملأ الغموض بما ينقص زوجها من وضوح، تضع النهاية في البداية، تهدئ اضطراب القلب، كلما اقترب الغروب.وكاله معا