غزة قدرُ الله .. وقدرُ اللهِ غالب
عيدُ الفطر ... وعيدُ النصر
الصراع بين الحق والباطل قديم قدم هذا الدين ، فمن لدن آدم عليه السلام مرورا بنبي الله نوح عليه السلام ، إمتدادا إلى نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم - وصولا إلى واقعنا المعاصر ، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها سيظلّ الصراع محتدماً بين الحق وأتباعه والباطل وأشياعه !
ومن نظر إلى هذا الصراع بعين البصر والبصيرة على السواء استشف أنّ المعركة في حقيقتها بين أهل الشرك والكفر والبغي والطغيان والإلحاد وبين الله ربّ العباد ؛ تأمّل في ذلك قول الحق تبارك وتعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) [ سورة الممتحنة 1] فقدّم عداوتهم لله على عداوتهم للمؤمنين لأنّ عداوتهم لله أصل وعداوتهم للمؤمنين تبع ؛ فقد أُقحِم المؤمنون في دائرة العداء هذه بسبب إيمانهم بالله تعالى ، وحسبك جملة من الآيات القرآنية التي تؤكد هذه الحقيقة ، فقد قال جل شأنه في شأن أصحاب الأخدود ( قتل أصحاب الأخدود ، النار ذات الوقود ، إذ هم عليها قعود ، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود ، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد) [ سورة البروج4-8 ] وها هو فرعون يتوعّد موسى بقوله ( لئن اتخذت إلهاً غيري لأجعلنك من المسجونين) [ سورة الشعراء29 ] وقوم شعيب يقولون له ( لنخرجنّك يا شعيب والذين آمنوا معك من قريتنا أو لتعودنّ في ملّتنا ) [ سورة الأعراف 88 ] وقوم لوط يلوّحون لنبيهم لوط (لئن لم تنته يا لوط لتكوننّ من المخرجين) [ سورة الشعراء 167 ] وقوم نوح يهدّدون ( لئن لم تنته يا نوح لتكوننّ من المرجومين ) [ سورة الشعراء 116] ، وصناديد قريش تخرج محمداً – صلى الله عليه وسلم - وصحبه من مكّة المكرّمة للعلّة ذاتها ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ، الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ) [ سورة الحج 39 ] فقولهم ( ربّنا الله ) بدل أن يكون موجباً للإكرام ، أضحى عند الكفرة اللئام موجباً للنفي والتشريد والتنكيل والإبعاد !
وعموماً فمقايضة وقف أعمال البطش والتنكيل والإبعاد بحق الموحدين بعودتهم إلى ملّة الكفر مسلك سلكه كل الطغاة ( وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودنّ في ملتنا)[ سورة إبراهيم13] وهكذا تنوّعت أساليب البطش والتنكيل من نقمة وسجن ورجم ونفي وإبعاد والسبب واحد ( أن يقولوا ربنا الله ) الأمر الذي يعطي دلالة واضحة على عقدية المعركة وأنّ العداوة بينهم وبين الله تعالى ابتداءً ، وإلا فلو شاركهم المؤمنون كفرهم بالله ، وترخّصوا في مبادئهم مداهنة لهم لانقطع دابر العداوة ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) [ سورة البقرة 217 ] .
فإذا كان ذلك كذلك : وأنّ العداوة بينهم وبين الله تعالى ابتداء وإنما زُج بالمؤمنين في أتون هذه المعركة بسبب إيمانهم بالله ، واتباعهم شرعه وهداه ، فهذا يقدح في الذهن سؤالا مفاده : إنّ الله تعالى لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض فلماذا لا يبادر بالانتصار لنفسه من القوم الكافرين فيعجّل باستئصال شأفتهم وتخضيد شوكتهم ؟ ليطلع علينا الجواب من قوله تعالى ( ذلك ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلوا بعضكم ببعض)[ سورة محمد 4 ] فمن اللطائف القرآنية أن هذا الجواب جاء في سورة محمد التي اشتهرت بسورة القتال ليفيد : أنّ رحمة الله تعالى بعباده المؤمنين ، وإكرامه لهم على مرّ السنين ، أنه لم يعجل باستئصال شأفة القوم الكافرين ، وذلك ( ليبلوا بعضكم ببعض) أي ليفتح لعباده المؤمنين سوقاً تجارياً يتاجرون فيه مع الله عز وجل عبر مجالدتهم لعدوه وعدوهم ، ومقارعتهم إياهم في ميادين الفدى وساحات الوغى ، لتسمو بذا عند الله تعالى مقاماتهم وتعلو درجاتهم ... والا فالمولى جل شأنه ليس بمعزل عن الصراع ، بل هو بالقوم المعتدين بصير ، وعما قريب ليوردنّهم سوء المنقلب والمصير ، قال تعالى ( وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون ، وكان ربك بصيراً) [ سورة الفرقان 20 ] فبعد أن بيّن أنّ هذا الابتلاء من باب تمحيص صبر المؤمنين عقّب بقوله ( وكان ربك بصيراً) إيحاءً بأنه يرقب الصراع ويضرب على عباده المؤمنين المجاهدين في خضمه عنايته وكلاءته وحمايته وحياطته وتسديده ومعيّته ، ولمّا كان جل شأنه بالصراع بصيراً فإنّ له فيه تدابيرَ تجري بها المقادير ، تأمّل في هذا قوله جل شأنـه ( ويمكرون ويمكر الله واللهُ خيرُ الماكرين )[ سورة الأنفال30 ] وقوله( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم ) [ سورة إبراهيم 46] وقوله ( ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون) [ سورة النمل50 ] وقـوله : ( إنهم يكيدون كيدا ، وأكيد كيداً) [ سورة الطارق 16، 15] .
فهي التجارة الرّبانيّة إذًن ! يتاجر فيها المسلمون مع الله تعالى ، وقد بيّن الكبير المتعال حقيقة هذه التجارة وما تتطلبه من رأس مال فقال :( يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب اليم ) [ سورة الصف10 ] ابتدأ الحديث عن التجارة بتوجيه الخطاب إلى المؤمنين ، فهم المرشحون لهذه التجارة دون غيرهم ، وميزة هذه التجارة أنها تنجي الأمة من عذاب أليم ، فهل يتحفظ على هذه التجارة من كان عنده مسكة من عقل في وقت مسّ الأمة فيه العذابُ الأليم ، في حين يتخاذل عنها غير المؤمنين ، أو من خلت قلوبهم من اليقين... ورأس مال هذه التجـارة إيمـانٌ بـالله ورسـوله ( تؤمنون بالله ورسوله) [ سورة الصف11] ، أمّا كنهها ( وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ) [ سورة الصف11] وكثيراً ما لفت النبي صلى الله عليه وسلم النظر إلى هذه التجارة ورأس مالها المطلوب ؛ فقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم أيّ العمل أفضل؟ قال :( إيمانٌ بالله وجهادٌ في سبيله ) [ متفق عليه ] وقال عليه الصلاة والسلام : ( عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة يذهب الله به الهمّ والغمّ ) [ مجمع الزوائد 5/497 ] إشارة إلى تخليصه للأمة من كل عذاب أليم يمسّها.
فإذا ما انخرط المؤمنون في سلك الجنديّة بجيش ربّ البريّة فلْيهنأوا إذن ولْتشرئبَّ أعناقهم لمعركةٍ الله بصير بها ، وهو بمعيته وتسديده يديرها ( إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا )[ سورة الأنفال12 ] وما دور المسلمين فيها إلا أنهم يغدون ستاراً لقدرة الله عز وجل توقع في الأعداء وتنال منهم دونما ملل أو كلل ، ولا وهن أو وجل ، وقد أكّد المولى لهم ذلك بقوله : ( وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى ) [ سورة الأنفال 17] فلئن كان رمي المجاهدين رميَ إيجاد للفعل فرميُ المولى عز وجل رمي تسديد في نحور العدو ، وقال تعالى ( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ) [ سورة التوبة 14] فالذي يذيقهم العذابَ هو ربّ الأرباب ، يجريه على أيدي المؤمنين المجاهدين تكرمة لهم بتعاطيهم الأسباب !
فإذا كان ذلك كذلك : فاعلم أنّ أعظم عقوبة عاقب بها الشارع الحكيم الذين في قلوبهم مرض والمرجفين : حرمانهم من الانخراط في صفوف المجاهدين كأولئك الذين حرمهم الله بسبب تخاذلهم وتثاقلهم وإرجافهم ( فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً ولن تقاتلوا معي عدواً إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرّة فاقعدوا مع الخالفين) [ سورة التوبة 83 ] فلم يوحِِ عز وجل لنبيه بأن يجعلهم في مقدمة الجيش وطليعة المعركة ليكونوا وقوداً لمعركة التوحيــد ! أو ليساهموا في صنع النصر المبين ، فذا شرف رفيع لم ولن يبلغوه ، إنما كان جزاؤهم ( فاقعدوا مع الخالفين) وأثبُتت زلتهم في الكتاب المبين، ليفتضح أمرهم الى يوم الدين، وفي ذلك عبرة للمعتبرين!!
وفي هذا الصدد : هنيئا لأهل فلسطين بعامّة ، ولأهل غزة بخاصّة ، إذ اجتباهم ربّ العالمين ، وخصهم بإبرام صفقة معه لمقارعة المعتدين الغاصبين ، ذَوداً عن مقدسات الإسلام وحِمى المسلمين ... فبذا غدا عيدُهم عيدَيْن ؛ عيد الفطر وعيد الاجتباء للنصر !