(14) قصة قصيرة :
قل وداعا ولا تقل إلى اللقـــــــاء !
بقلم: قحطان فؤاد الخطيب
اعتصر قلب (نبال) ألما ومرارة حينما بارح
فارس أحلامها منزلها دون ترديد عبارتــــه
المألوفة : (إلى اللقاء) ، تاركـا إياها فريسة
الهواجــــــــس وطعمـــــا للتأويـــــــــلات .
مجرد عبارة لم تطلقها شفتاه أحالتهــــا إلى
أسيرة للتشــاؤم ، في خضم الوساوس التي
احتوتها من الجهات الأربـــع بإحكـــــــام !
نعتت يومهــا بالأربعــاء المشئوم ، وكأنهـا
عرفت ثمة ما يخبأه لها الغـــــد من مصائب
سلفــــا بصورة دراماتيكية . ففي الصباح
نعت أصوات نحيب الجيـــران مصـرع فتـى
السبعة عشــر ربيعـــا برصاصـــــة طائشـة
عميـاء فقأت عينـه اليمنى بوحشية قاتلـة ،
واخترقت رأسـه الصغير المشبع بكــــــــل
الطموحات والآمــال الكبيرة ، محيلــــــة
إيــاه إلــى جثــة هامــدة في بحــر ثوان .
لقد كان وحيد أسرتـــه ، على رأس أربـــع
بنات ، والذي فيه وضعت أملها المنشود ،
كونه فتى اجتمعت فيه كل الخصال الحميدة،
المحببــة إلـى الله وعبـــاده : كله بر وورع
وتقوى ومثالية .......، تحلف نسوة الزقاق
برأسـه حين يختلفن في أمر ما . كان أشبه
بالقديس ، إذ راق لنبال ذات يوم ، خطيبا
لولا صغر سنه ! فيما شـــغل حيزا غير
محدود في مخيلتها ، كابن جار لا يمل ، لنقاء
سريرته. حقا ، لقد استشهد ، بيد أنــه لم يمت ،
تاركا خلفه شريطا لا ينتهـي من الآهـــات
والحســرات الممزوجة بلوعــة تفطــر
الفـؤاد وتحطــم الأعصاب وتدمع العيون .
والآن ، تفاقم انفعال نبال لغياب سـر
التواصل الحميم بينهمـــا عن لسانـه :
(إلى اللقـــــــاء).
لمــــاذا ؟
هل كان يوحي أنهما سوف لن يلتقيا ؟
هزت المسكينة رأسها بهستيرية لا تحسد
عليها وأردفت متسائلة بعصبية مفرطة :
لماذا لم يتفوه بها ؟
وماذا قصد ؟
ثم طفقت تواســي نفسها قائلة :
ربما يكــون مشغول الذهن ، أو ربما أزعجـه
صدى اللطم على الخدود ، في الحي المنكوب،
والنحيب الكئيب ،.......................... ربما !
تعوذت من الشيطـــان وشرعـــــت تقـــــرأ
التعاويـــــذ علها تعيد لها سابق طمأنينتها
وتفـــــــك الأســــــر عن بسمتهــــــــــــا .
**********
صحيح أن جســـــدها كان يمارس وظائفـه
علــى ما يـرام ، بصـــــورة طبيعية ، جيئة
وذهابا ، إلا أن فكــرها مافتئ غارقـــــا في
معادلات حسابية معقدة لم يوفق بعـــد في
حل رموزهــــا ، وفـــك الاشــتباك بينها :
كيف تنسى مصرع ابن الجيـــــران وكيف
تفسر زلة لسـان نصفها الآخـــــــــر ؟ !
استجمعت كـــــل طاقتهــــا ، واستنفرت كل
حواسها ، بحثـا عن مخـرج من ورطتها ،
يعيد لها التوازن المفقود . وما هي ســوى
دقائق تعد بعدد أصابع اليد حتى أقفلت راجعة
إلــــى منزل جدتهــــا ، ذي الحديقــة الغنـــاء
بأشجــــارها الباســــــــقة , وورودها النادرة
ونباتاتهــــــــــا دائمــــــــة الاخضـــــــــــرار .
هناك الهدوء تام ، والسكينة باسطة جناحيها
باسترخاء ، حيث لا منغصـــات كما هو رائج
في منزل والديها ، ولا نوائب !
ذهلت الجدة لعودة حفيدتها بســرعة . وتمنت
أن لا يكون قد حدث ما لا تحمــد عقباه . ظلت
عيناهــــا مثبتتين في احتواء ما مرسوم على
وجه الأخيـــــــرة التي لم تنبس شفتاها بكلمة
حتى قطــــــع المشهد طرق على الباب خاله
حدس نبال السائق ، إذ تعودت على مثـــــــــل
هـــــذا السلوك منه. لعل حدسهــــا خاب هذه
المرة ، إذ كان الطارق يافعا مبعوثا من قبــــل
أمه كي ينذر الحاجـــة ، أم سارة ، بأن هناك
شائعة بغيضة مفادها : أن البناية التي تبعــــد
أمتارا عن منزلهــــا مرشحـة للتفجيـر فــي
أية لحظة !
فيما هناك مركبة مفخخة تحوم حول المكــــان ،
وعليها الاحتراز وفتح الأبواب والنوافـــــــذ ،
وإلا فإن المجهــــول طبعا إن لم نقل الفنــــاء
تحديدا هو بانتظارها .
انتشــــــر الخبـــــر أسرع من البرق ، فيمــا دبت
الحركــــة فـــــي الحي البائس ، على غيــر عادتهــا في
ساعات القيلولة تلك ، كحركـــة النمــــل قبل دنو
موسم السبات .
الكــــل سكــارى ، ولكنهــــم غيــــر سكــــارى ،
يجهلــون ما ستؤول إليـــــه الأمــــور . اختلــــط
الحابــل بالنابـــل ، والجد بالهــــزل ، وأضحــــى
الموت قاب قوسين أو أدنــــى منهــــم . فلغـــــة
الانفجــار بشــــعة لا تطـــاق . ومن لم يقــــض
بالبارود قضى بغيــــــره . "تعــــددت الأسباب
والموت واحد". تلك حكمة إلهية لا يجــــادل
فيها اثنان .
كانت نبال غير مخيرة في السباحـــة عكس
التيار . إذن ، ما هــي النتائــــج المحتمــلة
التــــــــي كانت في انتظارها ؟!
لعل الموت ليس غير أو على الأقل الإصابات
البليغة هو الجواب الأرجح .
هنا استذكرت موقف خطيبها ، وخيل لها بأنه حمل
رسالة نهائية حاسمة من غير عالمنا حينما قال :
"وداعا ولم يقل إلى اللقاء" !!!
وصدق في مقولته . فقد انفجر صهريج للمياه الثقيلة
كان يقوم تمويها بسحبها من دور المواطنين ، مساويا
سطوح المنازل بالأزقة ، مجيبا على أسئلة نبال ،
ومجهزا على حياة جدة نبال وعشرات إن لم نقل
المئات من سكان ذلك الحي السكني الآمن بين قتيل
وجريح !