العراق في خصوبة الشعر 1
رؤية في ( ما قاله الماء للقصب ) لبلقيس الملحم

لكي تكون شاعرا عليك أن تكون عراقيا / محمود درويش

يكاد أن يكون الماء عراقيا بامتياز ، فمن هنا مرت أرض السواد ، ويكاد أن يكون القصب جنوبيا ، فهو أقرب إلى ذاكرة الأسماك والطيور المهاجرة قصرا ، قبل عودتها المباركة مشغوفة بالبَلَل .
حكاية الماء للقصب اسطورة معجونة في مكنونات الروح التواقة ، مرسالها الحياة والحركة ، نرى ذلك في النصوص المقدسة في سياقات البشر قبل ولادة الصحف المُنزّلة تحفها أجنحة الملائكة ، فكيف لنا أن نقترب من دلالة تراقص الماء بتغنج القصب على حد قول أقرب إلى احاسيس ممسوس استطاع أن ينفذ مدفوعا بهوس الحميمية لدرجة التلاشي تقرباً ؟
بلقيس الملحم المجبولة لدرجة استدعاء الروح طواعية إلى الجسد ، ليس كثيرا عليها الغوص والإبحار لدرجة صيرت من أسفارها محطات ، كلما استقرت وجدت نفسها مدفوعة إلى أبعدها ، تنشد بعيد غائبها المؤمل ، ما حال بينها وبين وحدة التلاقي ، نشيجها الأعزل ، كذلك في سفرها المعنون / ما قاله الماء للقصب / كما في رحلاتها المعنونة بإتجاه مراده تفرد الروح إنطلاقا من كعبة الجسد ، فهي السعودية القبلة العراقية الهوى ، لا نقول ذلك جزافا بل من خلال الأثر عبر دواوينها وأعمالها السردية الطويلة والقصيرة ، بين أيدِينا رحلتها الجغرافية المعاكسة بينها وإليها ، والتي سنتاول فيها تلك العلاقة الجدلية السحريّة بين ما اصطلح على ذكره ماءً ، وما سما في مشوارها قصبا ...
يتألف الديوان من خمس واربعين قصيدة ابتدأتها بطواحين وختمتها بأغنية القصب ، فما علاقة الطواحين وهي تناغي غناء القصب وكدت أقول بُكاء القصب ، وهل كان تبويب الديوان اعتباطا أم هو وسيلة في محاكاة العقول والأفئدة بين اتجاهين لتشير ضمنا إلى تلك الظروف التي حالت دون وحدة المسارين ، ربما ليستمر النواح وتتوهج أرقى المشاعر ، ذلك هو ما يداهم شغاف المشاعر والذي يقال له الشعر حصرا ... ؟؟

الطريق إلى العراق :
منذ العراق
والجنوب
والأهوار
والقصب
جِنٌ يسكنني...
إشكالية بلقيس الملحم أنها احبتهُ بجنون ، فَجُن بها...
كان يمكن أن تكتفي ب منذ العراق فهو المعشوق الازل عبر التاريخ وكفى ، جِنٌ يسكنني ، لكنه لذيذ استدرجها / الجنوب ، الأهوار ، والقصب / ، متجولا بها عبر منشطات فرعية حتى منقطع النفس مأخوذة ب / تنازلها التصاعدي / .
ذلك ما حدثتنا عنه في مقطع من قصيدة / حدث في لحظة / ، فأي لحظة ثورتها لدرجة تلبسها بالجِن أو تلبس الجِن بها ف الأمر سيان ، مادامت وظيفة فوق العادة هي من تُسيرّها . نراها تتابع مسيرة معراجها فتقول :
( أصابع تعصر غبار الملائكة ، الملائكة الذين طاروا ، بأكفاني ، بحناني / بشرنقات سخية )
كل هذا التطاير حدث في لحظة ، لحظة كان مقدارها عند العارف سنينا ضوئية مما تعدون ، ثم ما شدة تعلقها كل هذا القدر بمواسم الجنوب ؟ ، وجوابنا على ذلك ما يقوله مشحوف شَقَ عتمة القمر مبعوثا بالضياء ، يتطوح مترنحا على أنغام موسيقى الماء والقصب ، محفوفا بتقافز أسماك الشبوط والبني والقطان ، وكأنها بي تقول على لسانها في مسيرة الجِن :
( الجِن / لم يتجهوا جنوب قلبي / لقد خانتهم خوارقهم / وودعوني لحظة إغماض العينين ) .
كل هذا من أجل الجنوب المسلوب في حقها ، نسجل هنا التفاتة حمّالة أمرين ، فلو أنها خففت / وودعوني / مكتفية بواو واحدة لكانت أكثر جاذبية وخُفيّة ، سيما جاءت لحظة الوداع مصحوبة بإغماضة العينين / ، لتنهي قصيدتها بضربة نص تكاد أن تشكل مفصلا مهما نستشف منه خلاصة مهمة تذهب عنا عجبنا العُجاب بشان تغنيها كل هذا القدر بالوطن الافتراضي أبعد من حدود الجغرافيا الأم:
كل ما في الأمر
أن بياضا أوسع من وطني
غمس برد الجنة
وغادر...
يذكرنا هذا المقطع بترنيمة الشاعر التركي ناظم حكمت ولكن في سكة الإياب تقاطعا مع بلقيس ، وهو يقول ( وضعوا الشاعر في الجنة فقال آه ياوطني ) ، المفارقة أن شاعرا يشتاق إلى غمس برد الجنة مدفوعا بالبياض ( وطن الأحلام ) كبلقيس في ملاحقة مغادراتها ، وآخر منقادا بارادة صوفية على طريقة ثورة الفقراء ( أحلام الوطن ) كناظم حكت في آه العودة نحو الوطن . بينما نرى بلقيس تتمرد على السائد في تحليقها لتلامس غيمة السماء مصحوبة بهاجس اودعها مَسه ُوغادر ، نرى ناظم حكمت يعاود الهبوط ، كنيزك اشتاق إلى تراب الأبدية جزعا ، فثمة غربة في الروح وغصة لا يُرى مقامها إلا وسط حضور لعبة المتناقضات بين الأهل والأحبة ، تلك هي جنة الآه ، اجمالا لا تبدو لعبة التحليق أو الهبوط سوى محصلة تخفي وراءها رغبة غائية مقموعة، ب بعدت المسافة أو قَرُبَت .

في قصيدتها / يوم أسود في حياتي / كتبت تقول : كتبت هذه النص حدادا على أرواح الشهداء الذين سقطوا في بغداد الحبيبة إثر سلسلة انفجارات هزت العاصمة العراقية بغداد بتاريخ 22/ 12 / 2011 ، وقالت قريبا مثل هذا الكلام في نصوصها المعنونة والتي تقع خارج سياق هذا الديوان نذكر منها / أسماء في حضرة باب المعظم ، / كلاب بغداد ، شيخ من الناصرية ، نافذة الصويرة التي قتلتني ، خشم عراقي ( لاحظوا قرب عدسة التصوير بالغة الدقة ) ، احجية عراقية كويتية ، آسية ومدينة الصدر ، شهوة بغداد وقصص أخرى ، في شعب أبي طالب فرع العراق .... إلى غير ذلك من الكتابات التي تدل دون أدنى شك قربها من جزئيات لا يمكن الاحاطة بها دون مقدمات محلية بحثية مقرونة بحنين اسطوري ، بل وأقرب من ذلك ، وما يدهشنا بعد المسافة بين محطة اقامتها / فهي سعودية الجسد والحركة والمعاش / ، قربها لدرجة من انكشف عنه الغطاء فبصره اليوم حديد ، إن لم نقل تطوى لها الأرض فسرعان ما تنتقل بلمح البصر لتُعاين وتدون بعيون وملامح لا نقول عنها سوى عراقية ، لا تعاني الشقوة المعروفة جغرافيا .
وما جاء عن بغداد في ديوانها الماثل امامنا في محاولة استجواب ، يدعم ما ذهبنا إليه في كونها مدهشة حقا لدرجة / البغددة لا التبغدد ، على طريقة كاظم الساهر ، يتبغدد علينا واحنه من بغداد / ولكن الحقيقة أن بلقيس القت الحجة على البغداديين بكونها بغدادية في خلواتها الصوفية وقد وجدت نفسها ضمن إستثناء / إلآ نحن / ، ما يقوض الحجة بأن بغداد هي للبغداديين فقط دون منازع !
بغداد مجنون موت بلادي
فكل الموتى يموتون من الأرض
إلآ نحن
يموت الفرع الفرع
والطحالب
والحماقات
والأقدام الخشبية
والأصوات شاحبة في عنفوانها
وسيدة النجاه
نحيلة ممتدة
تعدد مواسم التراب
وأرواحنا تعارفت بقبلة وداع
مقطع من قصيدة / جفن الفجيعة / جعلها تنز رمادا في مطر يتنفس بصعوبة حتى أن ( أرواحنا تعارفت بقبلة وداع ) ، يُعيدني البيت الأخير في هذا المشهد الدرامي لزنزانة الأعدام عام 976 يوم طلب من معدوم قيد ساعات التنفيذ فيما يشبه حجة الوداع ، العودة إلى محجره الانفرادي فما كان منه غير تقبيل أخاه الروحي الأكبر ، تقبيله من الفم ، ما يُماهي : وارواحنا تعارفت بقبلة وداع :
بغداد
طويل هذا الغروب
مثل فرحة مؤجلة
مثل حلم فاسد
مليء بالذباب
يثقبني كدود شرس
فأنز رمادا
مطرا يتنفس بصعوبة
الملاحظة التي احببنا تسجيلها في حضرة الشاعرة بلقيس الملحم في مجمل نصوصها وضوح الرؤية / الرؤيا تصح أيضا / ، ما يعني كما اسلفنا ويستدعينا للتنويه هنا في مجال تلازم المسارين / الرؤية ، الرؤيا / ، كلما اضمحلت المسافة من خلال التوحد الكامل في وحدة المضامين بينها وبين الأثر تقترب الملامح، يصبح من السهل انصياع البعيد لتصبح النبوءة تحصيل حاصل دون مشقة ، وهذا لا يأتي إلا من خلال مران وتجربة ودراية ما يجعل اللغة تنقاد لمنظومة السهل الممتنع دون عناء ، والعكس صحيح أيضا كلما بَعُدّت المسافة زادت المشقة ، ما يجعل الكاتب أقل سحرا في تطويع المفردة وتراصها الطبيعي تراضيا بدل نشازها واستنفارها ، وهذا ما نلاحظه مع الأسف الشديد مستفحلا في الكثير من قصائد التلقيح الاصطناعي اليوم
وفي قصيدتها ( خاص جدا ) المهداة إلى الشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق وقد لقبتها بأمي ( إلى أمي الغالية ...) ، تقول : لا أريد أن اتخيلك / شكلكِ / وجهك / صوتكِ / اسمكِ / لا أريد أن أتخيلني / فالعتمة بيضاء... وفي المقطع الأخير / مرة أخرى يصفقون لشجاعتنا / دون أن أتذكر اسمك أو أتذكرني , همزة الريح / لثغة القصيدة / وأمي العراق , / هذا كل ما أعرفه عنكِ ....
فما بين الخاص جدا وأمي الغالية الشاعرة وفاء ( الاسم وفاء ذو دلالة مثابة الآصرة الجامعة لمنسجمات ما يجعل الخاص جدا متساميا غير مخصوص على الشكل والصوت والاسم ، فوفاء أكثر منها رمزا مجسدا ادميا ، يسمو فوق المُسميات فَيُسكر الحواس) ، بلقيس الملحم انطلاقا من البِر تحاول في رحلتها الوفائية أن تتمرد على السائد في الحضانة التقليدية فهي أكبر أن يحدها تقنين بعينه ، هذا يعني تخطيها حدود الملموسات بعد جزع إن لم نقل تمردت عليها ، فكان اكتفاؤها بمحل / هذا كل ما أعرفه عنكِ / فلثغة القصيدة مسبوقة ب أمي العراق حال النشوة كحال من عوضه الله بأم بمواصفات المشتهى
هذا عن حال الأم فماذا عن حال الأب ؟
جاء الأهداء الثاني مقرونا بضرورة أسروية بالمعنى المجازي ، ففي قصيدة / فلينطلق العشب / كان الاهداء إلى شعور أبوي استمدت منه عافية المنتهى ( إلى والدي يحيى السماوي : ما أشقانا ! مادام المُعجز في شعر السماوي لم يولد بعد ذلك بعد أن وهب الله لنبضه عمر نوح فيما نستعجل زهور البرتقال ! _ المصدر _ ) وقد جاءت علامتا التعجب بعد أشقانا وزهور البرتقال ، فالشقاء من الصبر حتى تحين الولادة الحقيقية وبما أنها مقرونة ب الأب الشاعر كما أن المشيئة الشعرية وهبته عمر نوح ، إيمانا منها بطاقته الخلاقة شعريا / كما نرى في تأويل اهدائها بموضوعية الاجتهاد الحر / ، فإن الاستعجال يحول دون أن ينطلق العشب ويأخذ مداه على مدار سني عمر نوح :
( ألا فلينطلق العشب / قبل أن تشيخ الحدائق / وتحفر في الهواء وردتها البيضاء / حيث صناديق الضوء تغلق نفسها / عن اشتباكات الكأس الورقي بالفم / فيما العصافير رهن أصابعه...) ثم يتكرر الأهداء لذات الشاعر في قصيدة أخرى ( ابنة أبي أنا ) ، إلى والدي يحيى السماوي أيضا _ المصدر _ وما يهمنا في اهدائها الأول للشاعرة وفاء عبد الرزاق وكذلك للشاعر يحيى السماوي ، يدور في مجال بحثنا وهو تأثر الشاعرة السعودية بلقيس الملحم بالهوى العراقي / أما وأبا / ، سعيها الحثيث في أن تكون قاب قوسين بين حنانين يفيضان عليها حنان الأمومة والأبوة المثالية ، لتحذو حذوهما في تتمة تجذرها حتى ملامسة الاعماق ، كما وجدت نفسها متموجة قاب قوسين ما يُشبه ( ما قاله الماء للقصب ) ، والصحيح أيضا في مداليله ( ما يقوله الماء للقصب ) كما سنورد ذلك لاحقا ، ذلك هو بعض فيض فضاء وجودها منه تستمد وإليهِ تنشد .

توطئة متأخرة :
في ختام القسم الأول من هذه القراءة وقد اختصرت كما هو العنوان على أثر العراق في الوجدان الشعري لبلقيس الملحم ، ففيما حصرت بلقيس حضور مجوعتها بالفعل الماضي ( ما قاله الماء للقصب ) ، نرى آخرين كالشاعر وديع شامخ قد مَد حضور الفعل ليشمل زمن المضارع في مجموعته التي تحمل عنوانا مقاربا تناولناه بالدرس قبل سنين ( ما يقوله التاج للهدهد )
( ما قاله الماء للقصب ) مُخيلة أنثوية طرية يمت بصلة لتزاوج الطبيعة وهي بنت الطبيعة البِكر
فقد يحمل صفة الديمومة وإن كان الفعل ماضيا ، لا نرى ضيرا دون منسوجات لغوية لتدلنا على طبيعة توقفنا بالحدث أو مَده ، بينما في ( ما يقوله التاج للهدهد ) الواقع المعاش على مساحة أكبر مشمولين به جميعا ، نتذاكر جزئياته ونعيش آهاته فيما نرى ونحيا ونعيش ، لا فواصل زمكانية تحول بيننا وبينه
فكيف نقرأ بعد ذلك ما قاله الماء للقصب... ؟، ذلك مرهون بنا ، نتوقف أو نستمر...

نقول لبلقيس الملحم في نهاية طوافنا معها حول كعبة الروح ، صدقت ( الرؤية – الرؤيا ) ولكن... :
أرض السواد
أو
أرض المعاد... ؟

لنا عودة بإذن الله لتتمة القسم الثاني
كريم الثوري

--