تعتمد الفطرة والموهبة غير العلمية
د.نبيل طعمة
الأحد ۱٤ شباط ۲۰۱۰م
تعليق: فيصل الملوحي
حفلت محاضرة د.نبيل طعمة، التي ألقاها مؤخراً في المنتدى الاجتماعي بدمشق، وحملت عنوان «الثقافة العربية.. مشكلات وحلول» بالعديد من الأسئلة التي تحمل في مضمونها إجابات واضحة، تلخص واقع الثقافة العربية وتحددها.. وهو واقع لا يرضي أحداً، لذلك كان د.طعمة جريئاً وصريحاً في توصيفه، وتحديد مشكلات هذه الثقافة التي تبدو كثيرة .
في البداية يشير د.طعمة إلى أن كلمة الثقافة أثارت كثيراًمن الباحثين على تنوعهم الجغرافي واختلاف أشكالهم وألوانهم، وأغرتهم، فأجمعوا شبه إجماع- على أنها ذلك التآلف المعقَّد الذي يتضمن المعرفة، والمعتقد، والفن، والخُلق، والقانون، والعادات المجتمعية، وأية إمكانيات محيطية جيدة، وطبائع اكتسبها الإنسان من مجتمعه .
فإذا كان الإجماع على أنها ذلك الكُلُّ، فالثقافة تكون– برأيه- سلوكاً متعلّماً مكتسباً، كثيراً ما يتناقض، وقليلاً ما يلتقي مع السلوك الموهوب وراثياً وتراثياً، من خلال التفكّر والتبصُّر والعمل مع المحيط .
ويبين أن المحيط واقع مليء بكل مكوناته المجتمعية. وانطلاقاً من واقع أن كل مجتمع إنساني يتمتع بمنظومة من السلوك،تحكمه معاييرقد تختلف نسبياً من مجتمع إلى آخر،حتى داخل الثقافة الواحدة،فإن الأفراد يتآلفون مجتمَعيّاً وثقافياً، بقدرانتمائهم لهذا المجتمع وحبِّهم له. إذاً فالسلوك الإنساني الإيجابي، حين يُطوَّر من خلال المجتمع الذي يعيش به يُكوِّن شكلاً ثقافياً مهماً ضمن الحضور الثقافي، لأن السلوك السلبيّ-كمايؤكد د.طعمة- يُنشئ الفوضى،والخلط بين الثقافةوالفوضى خطر كبير على أيِّ فرد، ثم على المجتمع والأمة، فثقافة الفوضى تنشئ البرابرية، الانتهازية المتسلطة، التبعية، وعدم الطاعة في الانتماء وتنوع الخصوصيات واللغات، وتُقسِّم الأجواء والطموحات والانتماءات، وتغذي الفتن.
أما الثقافة - كما يعرفها د.طعمة – فهي علم الجمال، لذلك أكد على ضرورة بحث تطوير الرؤية البصرية، كي نستطيع إيجاد ثقافة حقيقية لا منقولة، ولا مدسوسة، ولامترجمة، ولامعرَّبة، ولاانهزامية، ولاانكسارية،أوانكشارية. في حين أن ما يراه - في نظره - ثقافة انحدارلا ثقافة صعود،ثقافة تتحدث عن الاستخراب (الاستعمار) والنكسات والفساد، آدابها نقد وتقريظ وادعاء، ورفض للواقع، دون إسهام في تقديم منطقي للحلول وللانتماء، ثقافة غربية وشرقية تعارض كل شيء، ولاتنتمي إلى ذاتها ولا تبدع من ذاتها. وحينما يقول د.طعمة: إنها علم الجمال، يعني أن من يمتلكه يمتلك التطور والإبداع، والانتقال من درجة إلى أخرى صعوداً على سلّم الارتقاء وتسجيل الحضور. ونحن نسير إليها حاملين ذلك السؤال الكبير: أين نحن من الثقافة الإنسانية، ماذا حققنا فيها،وما حجم مشاركتنا ضمنها؟! في الوقت الذي نسترق النظرإلى ثقافات الآخربخجل،وبدلاً من أن نُبدع نقلّد ما نراه دون محاكمة.! ويستغرب د.طعمة أن يمارس على هذه الأمة الجهل بمعنى الثقافة مئات السنين؟ فقد أُشبعت بتغييب جوهرها وصورتها، وسادتها مراحل من الإبهام والتشويه، وحُوّلت إلى مسمّى الشطارة والحذاقة والفطنة الفردية والنجاح الفردي؛ الذي يعزز الذات ويلغي الجمال. واكتُفيَ بثقافة الفروسية القتالية دون امتلاك ثقافة الفرسان، والسباحة السطحية الإنقاذية للجسد دون معرفة الغوص إلى الأعماق، والرماية الاصطيادية حسب المتوفر دون معرفة تسلّق الجبال من الوديان، وحُرم الجمال البصري، الذي هو أساس التكوين الإنساني. ويتساءل د.طعمة: هل نحن أمة مثقفة، وأيّ ثقافة نحمل، وأيّ حضور نمتلك؟.( تشبيه الثقافة بالجمال جميل أدبياً، أما في العلم فالثقافة شيء والجمال شيء آخر، ولو تداخلا، وتكاملا، ولم يستغن أحدهما عن الآخر، لكن يبقى لكل منهما كيان متميز. )
وهنا يؤكد أن أية ثقافة عربية لا تستند إلاّ إلى النقد فقط، الكلُّ يلهث وراء إظهار ذاته، وهو المتأثر بغيره ينكر عليه تأثُّره، فلا يحدث منه التأثير ويفقد الأثير، وبالتالي يتساءل: ألا تشكل هذه الثقافة ضياع نصف المجتمع ونصف الفكر العمرانيّ، وتؤدي إلى ثقافة المتاهة الفاقدة للمخارج التي لم تستطع أن تنجب موسيقياً هَرَماً، ولا نحاتاً روحياً، ولا ممثلاً نخبوياً، ولا معمارياً ينجز عمارة للعرب، ولا طبيباً يفتح فتحاً طبِّياً؟. ولم ينل واحدٌ من العرب جائزة نوبل حتى الآن، تلك الجائزة السياسية والعلمية في آن، إلاّ المشوهين منهم، المستسلمين إلى إضعاف تلك الثقافة غير المتوفرة لديهم:“مازلنا نعيش الانحصار بين الألف والياء،والبداية والنهاية، والأول والآخر، والظاهر والباطن، لم نتصالح معه أبداً، ولذلك نحن في الاعتراف أمامه لم نمتلك الثقافة”.
ويتساءل طعمة ثانية: أين ثقافتنا العربية، والجموع من المحيط إلى الخليج مُسَيّسة؟. أي: تمتلك ثقافة سياسة الإذاعة والتلفزة والإخبار والشوارع، دون وعي لمفهوم ثقافة السياسة، التي لم تدرك أنَّ كل ما تسمعه وتراه هو بعيد كل البعد عن الحقيقة. وثقافة المادة وجنْيها من أجل شراء الرغيف، وثقافة النقل بين هذا وذاك، وثقافة المكائد.. وفي مجموعها تبقى ثقافة الفرد: الذات و ثقافة المال والذهب والنفط، أما المترفون العرب فلم يستطيعوا الاستثمار في الثقافة، من أجل بناء شخصية أمتهم، وبقي دورهم منحصراً فيما سيجنونه لذواتهم الفردية، وهذا يعني زيادة التخلف والتبعية وخسارة المشروع الثقافي.
و يعتقد د.طعمة أن الثقافة ( لا تكون بدون ) العقل الذي يفسح مساحات لنمو الإبداع، ويقبل التجدّد والتطوّر واكتساب المهارات والخبرات، يمتلك بها لغة الحوار والجدل الإيجابي، فهي النشاط المحرِّك والمتحرِّك والمتجوِّل في العقل الإنساني ساعة يريد إظهار الانفعال، وإحداث الإنتاج المعرفي والمهني. وبما أن استناد الثقافة العربية إلى التراكم الروحي، دون الإبداع المادي فقد انحصرت صورتها -برأيه- في المستورد والمنقول والمترجم، لذلك هي فقيرة تعتمد على الفطرة والموهبة اللاعلمية، وهنا تكمن سهولة اختراقها واستباحتها. فالاعتزاز بالانتماء إلى القيم السلوكية ذات القواعد العاطفية، والاعتماد عليها - كما يشير د.طعمة- لم يستطع أن يشكل صورة واضحة للثقافة العربية، وهو هنا يؤكد أنه لا يدعو إلى فكِّ عرا ارتباط الثقافة بالدين، فالدين جوهر والثقافة مظهر. وبما أن الثقافة جمال فلا جمال بلا ثقافة ولا دين بلا جمال، ولا ثقافة بلا دين، أي لا روح بلا مادة ولا مادة بلا إبداع، أي لا دين بلا إبداع.
ويتساءل د.طعمة إلى أية ثقافة ننتمي؟ والكلُّ،على اختلاف مشاربهم، يتغنَوْن بكانت- وغوته- ونيتشه- وفيخته- وموليير- وبودلير- وشكسبير- ومايكل أنجلو-ودافنشي-وسلفادور دالي-وموزارت-وباخ-وتشايكوفسكي- وديستوفسكي- وهيغل- وفورباخ- وماركس- وأنجلز- وماو- وغيفارا وهمينغواي- وأجاثا كريستي..عداك عن أباطرة الثقافة القدماء:أرسطو- و أفلاطون- وجلجامش وهوميروس وفرجيل، حتى إننا لم نستطع أن ننجب مثل ثقافة ابن خلدون العريضة الواسعة الفريدة،!.. ويشير إلى أن هذا التغنيَ الثقافي، الذي يتمتع به مثقفونا العرب، يدعونا للتوقف عنده لنسأل: أين نحن، ولم نسمع حتى اللحظة أن مثقفاً غربياً أو شرقياً تغنّى بمثقف عربي أواستشهد به أواستعار بعضاً من جمله التي أثرت في أمَّة من الأمم، وغدت مثلاً من أمثالها، أو لحناً من ألحانها، أو لوحة فنية من لوحاتها، أو عمارة متفرِّدة من عماراتها.
- بغضِّ النظر عن حضاراتنا القديمة- أين نحن؟.
أما الأمل فيكون - برأي د.طعمة- في السلوك الإيجابي، ذي الثقافة التطويرية، وبِتطور المجتمع الصادق وبتأثير أهل الثقافة على المجتمع وتأثير المدافعين عن الحقيقة، وروابط الحبِّ وبناء الجمال. فالسلوك هو شخصية المثقف، ومهما بلغت ثقافته وكان سلوكه سلبياً لا تحضر ثقافته، بل تنتفي فور قيامه بفعل سلبي.. فللمثقفين كرامة واحترام تفرضهما لهم أفعالهم،وحواراتهم، وانتماؤهم لمجتمعهم، فثقافة أيِّ مجتمع محكومة من سلوكه، وكلما كان السلوك مثقفاً فاعلاً حقيقياً،وقف إلى جانبه المجتمع وانجذب إليه الآخرون.
متابعة: أمينة عباس
ملحوظتان ضروريتان:۱ - بربر في الفرنسيّة = berbèresأصل اللفط عربيّ ( وهم إخوتنا في الدين والنسب سكان المغرب العربي الكبير).
برابرة = barbaresأصل اللفط لا تينيّ بمعنى المتوحشين.
۲ – البحث رائع، لولا مبالغة وغموض انساق إليهما بسبب المسحة الأدبية التي جمّلت البحث. نعم! من المستحسن أن يترافق الأدب والعلم، بشرط أن نأخذ من الأدب بهاءه، و من العلم وضوحه ودقة ألفاظه.
مع الشكر والتقدير لأمينة عباس
[/QUOTE]