منهج القرآن الكريم في التأسيس لمبدأي "تداول الثروة" و"تداول السلطة"..
القواعد العامة لتحقيق "تداول الثروة" في النص القرآني..
أسامة عكنان
نستطيع الجزمَ وبدون أيِّ تحفظات، أن "القرآن الكريم" هو المرجع النَّصِّي الوحيد – وبلا منازع على الإطلاق على مدار التاريخ – الذي وضعَ الأسس الموضوعية لـ "تداول سلطة" حقيقي، عبر بَثِّ أسبابها الحقيقية ذات التأثير الحتمي الذي لا مفر منه في السيرورة التاريخية، في قلب الحياة المجتمعية عامة والاقتصادية منها خاصة، من خلال حزمةِ مبادئه الإستراتيجية فيما يتعلق بإدارة الثروة في المجتمع، وعلى رأسها مبدأ "تداول الثروة" الذي أَصَّلَتْه وأسَّست له "سورة الحشر".
ولن نكون مبالغين ولا مجانبين للحقيقة في تأكيد تَوَجُّه "القرآن الكريم" نحو تحقيق هذه الإستراتيجية المتعلقة بالثروة، عندما نُذَكِّر مجرد تذكير بأن نظام الإرث كما شرحته سورة النساء وكما استكمله الرسول الكريم في ضوء صلاحياته التشريعية، وكما يشرح فضاءاتِه المستقبلية العقلُ المذهبي، يُعْتَبَر واحدا من أهم عناصر تفتيت الثروة وإعادة توزيعها في المجتمع، وهو من ثمَّ أكبر معيدٍ لتداولها من جديد في فئاتٍ ووسط شرائح اجتماعية، من شأنها أن تخلقَ قوى تَمركزِ ثروةٍ جديدة قد تضخُ إلى السلطة السياسية بدماءٍ جديدة، تعيد إحياء المجتمع وتجديد كل مفاصله الحيوية، لتستمر هذه المعادلة على الدوام، دون أن تَمَسَّ بقواعد العدالة التي تتحقق برفقة القواعد الأخرى المذكورة.
كما أننا لا نضيف جديداً عندما نؤكد على أن قولَه تعالى في الآية السابعة من سورة الحشر: "ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى، فللِّه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كي لا يكون دُولَةً بين الأغنياء منكم..."، ينسحب قياسا على كل الثروات التي تجود بها الأرض، بحيث يغدو تمليكها لله ولرسوله، هو معنى معاصرا من معاني تمليكها للأمة بأكملها، لتضيق دوائر الثراء المحتملة الموجبة لتطبيق مبادئ الإستراتيجية السابقة، لأن تمليك وسائل الإنتاج – التي تُعَدُّ الثروات القومية عادة أحد أبرز مُكَوِّناتها – للأفراد، هو أكبر مظهر من مظاهر الفرز الطبقي الاقتصادي بأبشع صوره المتمثلة في تَمركز الثروة، الذي يؤدي إلى انعدام الفرص الحقيقية والمُعَبِّرَة وذات الدلالة لـ "تداول السلطة".
فمادامت الثروة هي التي ستتكَثَّف لتُعَبَّر عن نفسها في السلطة السياسية في نهاية المطاف. فهذا يعني قطعا أن السلطة السياسية هذه، ستتحرك وتدور يمينا أو يسارا، صعودا أو هبوطا، تمركزاً أو انتشاراً، انحصارا أو تداولاً، تَغَيُّراً أو ثباتاً، مع الثروة حيثما تحركت وكيفما دارت. فإذا كانت "الثروة" بيد الفئة أو الطبقة الفلانية، فإن السلطة ستكون حتما بيدها، أو بيد من يمثلها وينوب عنها في إدارة الدولة. وعندما تتغير الطبقة أو الفئة المالكة للثروة أو المتحكمة فيها والممارسة للسيادة عليها، ستتغير حتما الطبفة أو الفئة المتحكمة في السلطة، لتجسِّد حالة التمركز الجديدة في الثروة. والنتيجة المحتَّمة من كلِّ ذلك، هي أن السلطة كي تكون بيد الشعب، فإن الثروة يجب أن تكون بيد الشعب، من حيث وجوب كونه هو صاحب القرار في إدارتها والسيادة عليها. وإذن فإن أهم طموح بشري ناضل من أجله الإنسان، وتفتخر الحضارة الأوربية بأنها توصلت إليه وأنجزته بعشرات الملايين من الضحايا، والذي هو "تداول السلطة" – رغم أنه في شكله الديمقراطي الليبرالي مخادع إلى أبعد الحدود – هو نتيجة مُحَتَّمَة لتداول الثروة الذي دعا إليه القرآن الكريم، رغم أن المسلمين مع الأسف كانوا وما يزالون أكثر الناس جهلا به ومحاربة له وبعداً عنه.
إنه مبدأ لو تحققت مفاعيله الموضوعية في الواقع بشكلها الصحيح والمعبِّر في كل مرحلة من مراحل السيرورة التاريخية عن متطلبات التداول التي تحتاجها تلك المرحلة، لكان للعالم شكل آخر، ولكان تداول السلطة قد غدا واقعا إنسانيا منذ زمن، ولكان قد تطور ليتخذ أشكالاً ما كنا لنتوقعها، قد يحتاج الإنسان إلى عقود طويلة قادمة من الزمن وإلى مديات هائلة من التطور كي يصل إليها.
من هنا فإن المعيار الحقيقي على قرب دولة معينة أو مجتمع معين من "روح القرآن الكريم ومن تعاليمه"، أو على بعدهما عنه، هو تيرموميتر مبدأ "تداول السلطة"، لأنه الدالة الحقيقية على مبدأ "تداول الثروة" الذي هو أهم هدف من الأهداف الإستراتيجية التي أراد القرآن الكريم تحقيقَها في حياة البشر، بعد هدف تخليص الإنسان من خرافات الشرك وسلبيات القدرية المرافقة له، لأن هذا التداول هو أرقى قنوات الحياة تعبيرا عن العدل وعن الحرية. والعدل والحرية هما خلاصة المقصد القرآني وغايته في رحلة تطور الإنسان الأبدية.
في هذه ضوء المعادلة، فإن نظرة سريعة نلقيها على سطح هذا الكوكب المأزوم، لنستقرئَ بها الحضور أو الغياب القرآني عن واقع البشر، تطلعنا على مأساة عَزَّ نظيرها، عندما نكتشف أن أبعدَ الشعوب عن استحضار القرآن الكريم في حياتها، هي الشعوب العربية التي تُعَدُّ أَبعد الأمم عن فكرتي "تداول السلطة" و"تداول الثروة"، على الإطلاق. ونخص بالذكر هنا "جزيرة العرب" التي شاءت المفارقات أن تكون هي الموطن الأول لنزول القرآن الكريم، ومنطلق رسالته إلى كل العالم.
إن هذين المبدأين مرتبطان ارتباطا وجوديا وعضويا لا تنفصم عُراه. فتداولُ الثروة وتداولُ السلطة، هما في علاقتِهما أحدِهما بالآخر، كعلاقة الصحة بالقوة، أو كعلاقة المرض بالضعف في الجسم الواحد. فهما ليسا شيئين مختلفين، لكن وجود أحدهما بالتراتب إلى جانب الآخر ضروري وفقط، بل إن أحدهما هو مُظْهِر للآخر ومجلِّ ومجسِّدٌ له.
لم يكن القرآن الكريم في حاجة إلى أن يتحدثَ عن مسألتي "تداول السلطة" و"تداول الثروة" معا كي نفهمَ أنه يرمي إليهما، ويهدف فيما يهدف إليه، إلى تَحقيقِهما في واقع الحياة الإنسانية. فمادامت كلُّ مسألةٍ منهما مرتبطةً إرتباط وجود بالأخرى، فالإشارة إلى استهدافِ إحداهما كانت كافية لفهم استهدافه الضمني للأخرى. وهو قد أوضح صراحة فَرَضِيَّة "تداول الثروة"، وبالتالي فكأنه أوضح ضمنا فرضية "تداول السلطة". فأيُّما فعلٍ اقتضى فعلاً آخر، فإن وقوعَ الأمر على الفعل الأول يوقِعُه على الآخر بالتَّبَعِيَّة حتما.
إنَّ علاقة الترابط الوجودي بين هذين التداولين، لا تقف عن حدِّ القول بأن تَحَقُّقَ أحدهماَ يؤدي إلى تَحَقُّقِ الآخر، بل إن هناك نوعاً خاصاً من العلاقة بين كلٍّ من الثروة والسلطة، تَجعل من الثروة بناءً تَحتيا لمفاعيل التداول، فيما تَجعل من السلطة بناءً فوقيا لها. ومعنى هذا القول، أن من أراد التَّعَرُّفَ على موقف القرآن من مبدإ "تداول السلطة"، إن لم يَجِدْه واضحا وصريحا في نصوصٍ ذات علاقة بالسلطة ذاتها، عليه أن يبحثَ عنه في موقفه من "تداول الثروة". أماَّ من أراد التَّعَرُّف على موقف القرآن من مبدإ "تداول الثروة"، فإن عليه البحث عنه في ما ورد من إشارات مختلفة حول مبدإ "تداول الثروة" ذاته، ولا يُكْتَفى بأن تُلاحَظَ إشاراتٌ هنا أو هناك تتعلق بمبدإ "تداول السلطة" لاستنتاج الاتجاه القرآني نحو مبدإ "تداول الثروة"، لأن "تداول الثروة" يؤدي حتما إلى "تداول السلطة"، لكن "تداول السلطة" ليس بالضرورة أن يؤدي إلى "تداول الثروة" رغم كل هذا الترابط الوجودي بين المبدأين.
ولعل هذا ما استطاعت "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ أن تخدع العالم به وتضلِّلُه بحيثياته، عندما أوهمته بالحرية و"تداول السلطة"، مبتلعة بهذا الإيهام، مبدأ العدالة و"تداول الثروة" ما يقارب أربعة قرون من الزمن. لتعود "الثقافة الشيوعية" فتخدعه بالفكرة الضد وتضلِّلَه بها، عندما أوهمته بالعدالة و"تداول الثروة"، مبتلعة بهذا الإيهام، مبدأ الحرية و"تداول السلطة" قرابة ثلاثة أرباع القرن.
تتبدَّى دقَّة القرآن الكريم، عند النظر إلى معالجته للتداولين السابقين، السلطة والثروة..
فهو لم يقدم أي تَصَوُّرٍ نَصِّيٍّ قاطع وبات حول "تداول السلطة"، واكتفى بتقديم بعض التفاصيل القِيَمِيَّة في إدارة السلطة لا تشير في ذاتها إلى مبدأ "التداول" بوضوحٍ يعتدُّ به للقول بأنه يدعو إليه. لكنه كان واضحا وصارما ومُحَدَّداً في تثبيته لفكرة "تداول الثروة"، وفي أمره بكلِّ ما يرفدُها في الواقع بِمقومات التَّحَقُّق والنماء والتطور والاتِّساع.
أي إنه بدأ من النقطة السليمة في المنظور التطوري، النقطة التي يؤدي تَحَقُّقُها في الواقع المجتمعي إلى "تداول السلطة"، إنَّها "تداول الثروة". وهو بِهذا يكون قد حسم الموضوع بشكل تاريخي لا يفرض إملاءاتٍ فوقيةً قد لا تَحتملها الطبيعة القَبَلِيَّة والطبقية للبناء المجتمعي العربي، بل والبشري آنذاك، طارحا تصوُّره العام الواضح لنقطة الانطلاق، تاركا المجال الكامل لكلٍّ من العقل والعلم وهما يحفران في التاريخ، كي ينجزا برفقة نقطة الانطلاق هذه، نقطةَ الوصول.
فمادام البناء الفوقي الذي هو "السلطة" لا تُمكن زحزحَتُه عن الأسس التي تَحكمه زحزحة حقيقية وفاعلة ومنتجة، إلاَّ بزحزحة أسس البناء التحتي الذي هو "الثروة"..
ومادامت زحزحتُه الشكلية أو القشريَّة التي لا تَنتُج عن "تداول الثروة" أو التي لا تؤدي إليه، غير مُسْتَهْدَفَة قرآنيا، لأن "تداول السلطة" في ذاته، إذا لم يكن تعبيرا عن تَغَيُّرٍ حقيقي في مواقع الثروات في المجتمع، إماَّ بأن يُسَبِّبَها وإماَّ بأن يَنْتُجَ عنها، فهو ليس بذي قيمة كبيرة من حيث المبدأ، بسبب تراكم "اللاعدالة" الذي يمكنه أن ينتج عنه، إذا كان في جوهره تداولا قشْريا وشكليا للسلطة، كما كان عليه حال الحرية في "الديمقراطية الليبرالية" الأوربية وما يزال..
نقول.. مادام واقع العلاقة بين البناءين التحتي "الثروة" والفوقي "السلطة" هو على النحو المشار إليه، فإن الحاجة إلى صدور أحكامٍ مباشرةٍ تتعلق بالبناء الفوقي تفقد قيمتَها الموضوعية، في ظل بناءٍ تَحتي يَحتاج إلى قدرٍ عالٍ وكبيرٍ وطويلٍ من التطور كي يتَحَقَّقَ على أرض الواقع بشكل يؤثر على البناء الفوقي ويمنحُه قدرتَه على صناعة الحرية المجتمعية وإنتاجها، ما جعله يكتسب في خطة القرآن الكريم الأولوية القصوى بوصفه البُنْيَة المجتمعية التي لا مفر من تغييرها وإعطائها صورَتَها الجديدة كي تلحق بِها حتما وضرورةً، البُنْيَة الأخرى وهي "السلطة".
لقد أراد القرآن الكريم أن يتحققَ "تداولُ السلطة" بشكل تلقائي وانسيابي كنتيجة طبيعية لتحققِ تداولٍ أسبق يؤدي إليه قطعا، هو "تداول الثروة"، لأن العكس لا يَحصل بالضرورة، بسبب طبيعة العلاقة بين التداولين كما أوضحنا ذلك سابقا من جهة أولى، وبسبب أن العملَ على تكريس قنوات التطور المجتمعي التي ستُحْدِث "تداولَ الثروة" أمرٌ كافٍ في ذاته لتحقيق الهدف على صعيد "تداول السلطة" من جهة ثانية.
فإذا كان البشر يقتتلون في الظاهر من أجل السلطة وعليها وبسببها في الغالب، دون المساس بالبناء التًّحتي المُكَوِّن لها وهو "تَمركز الثروة"، منتجين تمركزات جديدة فيها، أو محدثين – في بعض الأحيان وأحسنها – تغييرات طفيفة في تلك التمركزات لا تمس الجوهر، بسبب أن التغيير في السلطة لم يأت نتيجة لتداول الثروة أو داعيا إلى تحقيقها، فلتتغير البُنى التحتية، وليكن تَغَيُّرُها هو سبب التداول الحقيقي لسلطةٍ سيفقد المتنافسون عليها عندئذٍ فاعلية السيف لأجل الحظوة بِها.
ولأن "تداولَ الثروة" لم يتحقَّق في معظم مراحل التاريخ الإسلامي ولا تمَّ إنجازه، فإن "تداولَ السلطة" لم يكن ليَحصلَ بالشكل المستهدَف، الأمر الذي جعل تداوُلَها يَحدث بشكله الدموي الذي يَحدث في كل مكان على وجه الأرض ليس فيه تداولٌ للثروة ابتداءً.
إن أيَّ محاولة صَبَّت أو تصب في خانة تقريب المذهب الذي أسَّس له القرآن الكريم، من "الرأسمالية" كنهج اقتصادي، ومن "الديمقراطية الليبرالية" كحاضنة سياسية لهذا النهج، أو تبرير المصالحة المذهبية بينهما، كما أن أيَّ محاولة صبَّت أو تصب في خانة تقريبه – أي المذهب الذي أسَّس له القرآن الكريم – من "الاشتراكية" كنهج اقتصادي، ومن حاضنتها السياسية "الديمقراطية الشعبية المركزية"، هي في واقع الأمر محاولاتٌ خدمت على مدار التاريخ، وستستمر في خدمة فكرة انعدام "تداول الثروة" في الحالة الأولى، وانعدام "تداول السلطة" في الحالة الثانية.
وهو الأمر الذي حال بالتالي دون المسلمين المعاصرين ودون تَوَصُّلِهم منذ وقت مبكر إلى آلياتٍ ناجعةٍ لتداول الثروة بشكلٍ جوهري، بعد أن أخضعوا "الثروة" لتَحكُّمِ "الحرية" الوهم في "الديمقراطية الليبرالية"، عندما اختاروا هذه الأخيرة إطارا لقيمتي الحرية والعدالة. كما أنه هو الأمر ذاته الذي حال دونهم ودون توصُّلِهم لاحقا إلى آليات ناجعةٍ لتداول السلطة بشكل جوهري، بعد أن عادوا ليُخْضِعوا "السلطة" لتَحَكُّمِ "العدالة" الوهم في "الاشتراكية والشيوعية"، عندما اختاروا هذه الأخيرة إطارا جديدا لقيمتَي الحريَّة والعدالة، على إثر إدراكهم لفشل الإطار السابق. إن ما نراه في الوطن العربي تحديدا من أشكالٍ فَجَّةٍ وبشعة من "التَّمركز في السلطة" هو ناتج ابتداءً عن أشكالٍ أبشع وأكثر فجاجةً من "التمركز في الثروة"، في حالةٍ أكثر ما تكون بعداً عن القرآن وعداءً له ومحاربةً لمبادئه وأسسه وأصوله العظيمة.
في سياقٍ تأصيلي متَّصل، نجد خللا عميقا لدى المسلمين في قراءة قيمتي "الحرية" و"العدالة" بحسب منطوق النص القرآني..
إننا نراهم يحمِّلون ذلك النص ما لا يحتمله، ويلوون عنقه ليتجاوبَ مع معادلاتٍ في "تحريك الثروة"، تستجيب لتصوراتهم في "إدارة السلطة". ولأن تصوراتِهم في "إدارة السلطة" هي في جوهرها أقل إتاحة للحرية من "الديمقراطية الليبرالية" أوربية المنشأ، فقد كان من الطبيعي أن تكون هوامش "تداول الثروة" وفضاءاتِها في ظلِّ هيمنة منظوماتِهم التأصيلية للسلطة، أقل إتاحة للعدالة مما تتيحه "الديمقراطية الليبرالية" ذاتُها، على هُزال وضحالة العدالة التي تتيحها هذه الأخيرة، هذا إن أتاحتها أصلا.
على الجهة المقابلة، وكردةِ فعلٍ لا تختلف كثيرا عن تلك التي اجتاحت الثقافة الأوربية، بسبب استفحال أزمات أوربا والعالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، عندما وصلت "الرأسمالية الحارسة" إلى ذروة تراكم "اللاعدالة" في حاضنة الحرية الوهم، ألا وهي "الديمقراطية الليبرالية"، فأنتجت العدالة الوهم في الدعوة إلى "الاشتراكية والشيوعية"..
نقول.. في ردة فعل لا تختلف عن تلك التي أنتجت الشيوعية في أوربا، اجتاحت بعض المسلمين للأسباب نفسِها، قراءات مختلَّة وغير متوازنة للنص القرآني وللإسلام عموما فيما يتعلق بقيمتي "الحرية" و"العدالة"، ولكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس لاختلال القراءة التي أنتجت الإسلام الأقرب إلى "الرأسمالية" وإلى "الديمقراطية الليبرالية"، بحثا عن تخريجاتٍ تحرِّرُ القرآن الكريم من رأسماليته وليبراليته اللتين صُبِغَ بهما جراء القراءات المختلة السابقة، ليغدوَ وفق القراءات المختلة الجديدة، قرآنا اشتراكيا وشيوعيا، انصبَّ جهد قارئيه على هذا النحو، نحو البحث عما يجعله كتابا يؤصِّل للعدالة الوهم وإن يكن على حساب الحرية.
ونسي هؤلاء وهؤلاء، في غمرة غرقهم في أتون ردات فعلٍ تاريخية متتابعة..
مرةً باللجوء إلى البحث في القرآن الكريم عن أرضية، تؤكد سبقَه لليبرالية أو انسجامَه معها على أقل تقدير، فأضاعوا العدالة التي رسم القرآن معالمها، بعد أن انبهروا بحريةٍ موهومة حُرِموا من نظيرتها لمئات السنين فقدموها على العدالة..
ومرةً باللجوء إلى البحث فيه عن أرضية تؤكد سبقَه للاشتراكية وللشيوعية أو انسجامَه معهما على أقل تقدير، فأضاعوا الحرية التي رسم أيضا معالمها، بعد أن انبهروا بعدالةٍ موهومة حُرِموا من نظيرتها أكثر مما حرموا من الحرية، فقدموها على هذه الأخيرة..
نقول.. نسي هؤلاء وهؤلاء في غمرة ذلك التيه المعرفي والثقافي، أن "الحرية" و"العدالة" معا هما عماد الحياة الإنسانية الكريمة، وأن القرآن الكريم الذي أراد أن يرسمَ للإنسانية معالم هذه الحياة الكريمة، ما كان ليؤسِّسَ لحرية تبتلع "العدالة"َ كما فعلت "الديمقراطية الليبرالية"، ولا لعدالة تبتلع "الحرية" كما فعلت "الاشتراكية والشيوعية"..
فكانوا في هذه وتلك خارجين عن جادة الصواب ومجانبين للحقيقة، ومجافين للقراءة الموضوعية للنص القرآني، بالقدر نفسه الذي كان فيه الأوربيون كذلك منذ أربعة قرون، عندما أسَسوا للرأسمالية بالديمقراطية الليبرالية، وبالقدر نفسه الذين كانوا فيه كذلك منذ قرن ونصف، عندما أسسوا للاشتراكية والشيوعية، مجانبين للحقيقة ومجافين للمنطق، وواقعين إما في دائرة الأفعال الآثمة بالتأصيل لحرية ابتلعت العدالة في "الديمقراطية الليبرالية"، أو في دائرة ردات الفعل القاصرة بالتأصيل لعدالة ابتلعت الحرية في "الاشتراكية والشيوعية".
فلا كانت تلك "حرية" ولا كانت هذه "عدالة"، لأن هاتين القيمتين وجهان لعملة واحدة هي "الكرامة الإنسانية"، فإذا خدِشَت إحداهما أو مُسَّت، فقد خُدِشَت الكرامة الإنسانية أو مُسَّت.
النص القرآني بحاجة إلى قراءةٍ تتحرَّر من موروثات الثقافتين اللتين ضللتا قارئي الخطاب القرآني، عندما قرؤوه وهم واقعون تحت تأثير الانبهار بهما، والاعتقاد بحتمية نتائجهما، واليقين بأن إحداهما هي النموذج الحقيقي لتجسيد "الحرية"، وإن يكن على حساب العدالة التي تمَّ تطويعها قرآنيا لتستجيب لهذه الحرية النموذج، وبأن الأخرى هي النموذج الحقيقي لتجسيد "العدالة"، وإن يكن على حساب الحرية التي تمَّ تطويعها قرآنيا لتستجيب لهذه العدالة النموذج.
والأهم من كل ذلك، فإن قارئي النص القرآني يجب أن يتحرروا – فضلا عن تحرُّرِهما من هذين الموروثين الحديثين تاريخيا – من موروثٍ أعمق وأقدم تاريخيا، هو ذلك الموروث الذي ما يزال المسلمون بسببه يعتقدون بأن النصَّ القرآني يُنْتِجُ لنا كلَّ "العدالة" وكلَّ "الحرية" في السياقات المطلقة والمذهبية، فيغلقون كلَّ الأبواب أمام منجزات العقل المذهبية في سياق استكمال عمليات التأصيل القِيَمِيَّة، وبالأخص عندما يتعلق الأمر بقيمتي "الحرية" و"العدالة".
فما لم نتحرَّر في قراءتنا للخطاب القرآني من هذه الموروثات الثلاثة، لنقرأه من ثمَّ بحيادٍ وتجرُّدٍ..
قائمٍ من جهة أولى على عدم بذل الجهد المعرفي المتصَنَّع والمُتَكلَّف لخلق أواصر التقارب بين التأصيل القرآني وبين أيِّ منظومة قائمة للحرية والعدالة، فقط لأن هذه المنظومة أو تلك تعجبنا، أو تريحنا، أو تستجيب لبنيتنا المعرفية الخاصة أو حتى لمصالحنا، وجعل هذا التقارب إن حصل، تقاربا ينتُج بشكل معرفي تلقائي وحقيقي ومؤصل بلا تعسُّف..
وقائمٍ من جهة ثانية على ضرورة الاعتراف بأن العقل هو الوعاء المعرفي الذي يؤَسِّس للقيم في سياقها المذهبي المطلق، وأن أيَّ توافق بين مُعطى العقل المعرفي ومُعطى النص القرآني، ليس نصرا للعقل، بل هو نصر للنص، لأن العقل هو الأصل والنص هو التابع له..
نقول.. ما لم نقرأ النص القرآني بحيادٍ وتجرُّدٍ قائم على الأمرين السابقين، فلن نتمكن من إجراء القراءة المنتِجَه له، ولن نوفَّق في فهم رسالته في الوجود، ولن ننجح في التوصل إلى المعادلات التي أسَّسَ لها، وتلك التي تأسَّس عليها، لبناء المجتمع الإنساني القائم على الكرامة بوجهيها "الحرية" و"العدالة"..
وهذا ما سنحاول أن نبدأ به ملتزمين بالنهج المعرفي المحايد والمجرد الذي ألزمنا به أنفسَنا، كي نصل إلى النتيجة الصحيحة في فهم الرؤية القرآنية في "الحرية" وفي "العدالة"، وبمعنى أكثر دقة وعمقا، كي نصل إلى فهم رؤيته في "تداول السلطة" وفي "تداول الثروة"..
كيف يتحقق مبدأ "تداول الثروة" في المجتمع وفق الرؤية القرآنية؟!
بداية يجب أن نعترف بأن مصطلح "الزكاة" من وجهة النظر القرآنية لا يعكس آلية محددة وقاطعة وثابتة لها معنى معينا، هو ذلك الذي يُراد لنا أن نقتنع بأن الرسول الكريم قد جسَّده في ضريبتي "رُبُع العشر" على "المال المجمَّد"، و"الخراج" على "الدَّخل الجاري"، بل هو التوصيف القرآني لكلِّ ما يجب فعله في الثروة كي تكون وتبقى ثروة مشروعة. وبالتالي – وخلافا للتصور السائد في الموروث الإسلامي – لا يمكننا النظر إلى الزكاة باعتبارها بندا من بنود النهج القرآني في تحقيق "العدالة"، يضاف إلى البنود الأخرى على التراتُب، بل هي كل ما يجب فعله في الثروة كي تصبح "ثروة مشروعة" فتحقق العدالة بمشروعيتها تلك. وبالتالي فكل ما يمكنه أن يحقق مبدأ "تداول الثروة"، وهو الطريق إلى "العدالة"، سواء مما طبَّقَه الرسول أو مما لم يطبقه، أو مما عرفه المسلمون أو مما لم يعرفوه، أو مما اخترعوه هم أو مما اخترعه غيرهم من البشر، هو ما يطلِقُ عليه القرآن الكريم مصطلح "الزكاة".
وقد اعتبِرَ الفعلُ باتجاه تحقيق "مشروعية الثروة" بمثابة تزكية وتظهير وتنقية لها، من منطلق أن اللامشروعية هي شكل من أشكال القذارة والاتساخ يَسِمان الثروة. ولأن القرآن لم يحدد في الزكاة غير هذه الصفة الكلِّيَّة، فإنه ترك لنا من خلال سيرورتنا وتطورنا أن نخترع آليات تطبيقها بما يتناسب مع احتياجاتنا ونحن نعمل على خلق آليات "تداول الثروة". فالرسول الكريم طبق الزكاة "القرآنية" من وجهين تطلبهما الواقع الذي كان سائدا في تلك الحقبة من الزمن للعمل، على ترسيخ الآليات الدافعة إلى "تداول الثروة"، أحدهما يساعد على تنفيذ مبدأ "منع الكنز"، عبر فرض ضريبة "ربع العشر" على الثروة المجمدة، والآخر عبر فرض "ضريبة دخل" على الناتج، لرفد ميزانية الدولة، وهو ما أطلق عليه مصطلح "الخراج".
إن خصوصية التعامل مع مصطلح "الزكاة" في النص القرآني، تشير إلى الأهمية التي تحظى بها "مشروعية الثروة" في المجتمع من وجهة النظر القرآنية. فإذا كانت "الصلاة" تجسِّد حالة التواصل المتفرِّدَة بين الإنسان وربه، لتخليق هذه العلاقة غير المسبوقة وغير القائمة على أيِّ وساطات، فإن ربطها – أي الصلاة – وعلى الدوام بـ "الزكاة" تحديدا من بين كل مطالب النص القرآني، يشير إلى هذه الأهمية. فقد جاءت "إقامة الصلاة" مرتبطة على الدوام بـ "إيتاء الزكاة"، وقد وصف كل الأنبياء بأنهم كانوا مخلصين وصادقين، وبأنهم كانوا يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة.. إلخ..
أي أن النص القرآني أراد أن يوصل للبشرية رسالة في منتهى الوضوح مفادها: "أن تنقية الروح الإنسانية بالاتصال مع الله عبر الصلاة، ليست بذات قيمة إذا لم ترتبط بتنقية الثروة بجعلها مهيأة للتداول عبر الزكاة". الملفت في هذا الربط أنه جاء ليوحد في الأهمية والقداسة بين أمرين أحدهما لا يتحقق إلا بالإمعان في الفردية، وهو الصلاة التي تقوم على علاقة خاصة بين الإنسان كفرد وبين ربه، والثاني لا يتحقق إلا بالإمعان في الجماعية، وهو الزكاة التي تقوم على النظر إلى الثروة التي هي موضوع الزكاة باعتبارها ظاهرة جماعية، لا يتجاوز دور الفرد فيها دور الوكالة والنيابة.
وإذن – وذلك كعرضٍ استباقيٍ منا – ليست الزكاة بشكلها التقني التاريخي المعروف في "ربع العشر" و"الخراج"، أو في بعض التفاصيل الأخرى التي جسَّدتها التعاملات التجارية والمالية مثل "البيوع" و"المزارعة".. إلخ، والتي طبقها الرسول الكريم، هي "الزكاة" المفروضة علينا كما يتصور المسلمون، لأن ذلك الشكل هو فقط ما استطاع الرسول الكريم تجسيدَه في حدود زمانه ومكانه من فريضة الزكاة الكليَّة. أما "الزكاة" المفروضة علينا بنص القرآن، فهي ذلك الوعاء الكُلِّي لسيرورة الثروة، الوعاء الذي بتحرُّكِها فيه ومن خلاله يتحقق تداولها في المجتمع، فتتحقق "العدالة".
أقام القرآن الكريم فلسفته حول الثروة وحركتِها في المجتمع على أساس تحديده لما يعتبره "مشروعاً" و"غير مشروعٍ" في عنصرين يتعلقان بالثروة. فبعد أن قرَّرَ القرآن أن الثروة يجب أن تخضع لمبدأ "التداول" لتحقيق "العدالة"، كما نصت على ذلك آية سورة "الحشر"، فإنه لم يَخُضْ في التفاصيل، وإنما وضع مجموعة من المبادئ الفرعية التي اعتبرها بمثابة مُحَدِّداتٍ لمشروعية الثروة، ليكون التداول من ثمَّ نتيجة حتمية لتجسيد هذه المشروعيات. وبالتالي فإننا سوف نتولى في هذا المقام عرضَ تلك المشروعيات وفق الخطاب القرآني، لنتعرف من خلالها على الآليات الضمنية التي وضعها القرآن الكريم لتحقيق مبدأ "تداول الثروة" الذي اعتبره المُجَسِّد الأساس لقيمة "العدالة".
في سياق تحديده لمشروعيات الثروة، لم يكتفِ القرآن الكريم كي يعتبرَ ثروةً ما مشروعة، بأن تكون "مشروعة المصدر" فقط. فمشروعية الثروة في المنظور القرآني حالة مستمرة من ضرورة اكتساب الشرعية، أي أن الثروة هي في حالة صراع دائم مع "اللامشروعية"، وأنها لا تحقق لنفسها "المشروعية" إلا بنجاحها الدائم في تخطي الاختبارات التي تجنِّبُها حالات "اللامشروعية". فالثروة قد تكون "مشروعة المصدر"، لكنها لا تبقى متَّسِمة بالمشروعية، إذا لم تواصل مسيرةَ الحفاظ على مشروعيتها الكليَّة، عبر اكتسابها لمشروعيتِها الأخرى التي تلى "مشروعية المصدر"، والتي هي "مشروعية الاستخدام".
فأيُّ ثروة لا تحافظ على مشروعيتيها الاثنتين السابقتين، هي ثروة أطلق عليها القرآن الكريم لفظ الثروة "الحرام"، والحرام هو المصطلح القرآني الذي يُطلَق على أمرٍ فاقدٍ للمشروعية من وجهة النظر القرآنية. وبالتالي فإن أيَّ ثروة معرَّضةٌ لأن تفقد مشروعيتها الكلية، باقتصار مشروعيتها على واحدة من مشروعيتيها. كما أن أيَّ ثروة معرضة بالتالي لفقدان مشروعية من مشروعيتيها، إذا لم تلتزم بمحددات تلك المشروعية، أو إذا لم تنطبق عليها مكوِّناتها.
إن المشروعية بالنسبة للثروة هي مثل الهواء بالنسبة للكائن الحي. فكما أن الكائن الحي لا يكتفي بجرعة هواء أولى واحدة ليبقى حيا طول حياته، بل هو يجب أن يتنفس الهواء باستمرار وإلا فإنه سيموت حتما، فكذلك الثروة من وجهة نظر القرآن، لا يكفيها أن تكون "مشروعة المصدر" كي تبقى مشروعيتها متحقِّقَة دائما، وبصرف النظر بعد ذلك عن شكل وطريقة استخدامها، بل هي يجب أن تحقِّقَ عناصر مشروعية أخرى غير مشروعية المصدر كي تحافظَ على مشروعيتها، مادامت قائمة على شكل ثروة، هي مشروعية الاستخدام.
أ – مشروعية مصدر الثروة..
إن أول المبادئ التي يجب ترسيخُها وتكريسُها في السيرورة الاقتصادية للمجتمع، كي يتمَّ الدفع باتجاه تحقيق مبدأ "تداول الثروة" كمجسِّدٍ لقيمة العدالة، يكمن في ضمان "مشروعية مصدرِها"، وقد ذكر القرآن أربعة أمور هامة تجعل الثروة "غير مشروعة المصدر" هي "الربا"، و"الميسر"، و"السرقة"، و"الغش".
وبتحليل هذه الأمور كي نستجليَ مبررات عدم المشروعية فيها، فإننا نستطيع وضع الأسس الرئيسة التي تجعل ثروة ما ثروة مشروعة أو غير مشروعة المصدر من وجهة النظر القرآنية..
* "الربا" هو تجسيدٌ للاستغلال والقهر الاقتصاديين بكل أشكالهما. ولقد ذُكر هو تحديدا، باعتباره الأكثر وضوحا وجلاء وشيوعا وتأصيلا واعترافا له، بمقاييس تلك الأزمنة، وباعتباره النموذج الاقتصادي والمالي الأكثر تجسيدا للاستغلال والقهر لمن أراد أن يتعرف على مكوناتِهما. و"الربا" بالمنطوق القرآني ليس هو فقط تلك الحالة التي يزيد فيها "المال المُسْتَرَد" عن "المال المُقْرَض". فليست في زيادة هذا عن ذاك في ذاتها، إذا لم ترتبط بمعانٍ تُكسبها دلالات الاستغلال، أيُّ معانٍ للظلم والقهر بشكل مُحَتَّم يقرِّرُه العقل في تحليله المذهبي لقيمة "العدالة". كما أن معاني الاستغلال قد تتحقَّق في آليات تعامل مالي واقتصادي وتجاري أخرى بعيدة عن أيِّ مكونات شبيهة بمكوِّن الزيادة المنطواة في "الربا" وفق الرؤية العقلية المذهبية لقيمة "العدالة". وبالتالي فأيُّما نهجٍ اقتصادي ينطوي بالتحليل العقلي المذهبي على استغلال وقهر، فهو مندرج حكما تحت بند "الربا" الممنوع والمحرم وغير المشروع كمصدر للثروة.
* "الميسر" هو تجسيد للفعل غير المنتج لأيِّ قيمة مضافة فيها منفعة حقيقية للناس تستحق الدخل والأجر والمكافأة. وبالتالي ورغم أن الميسر كغيره من "الأعمال" قد يُبْذَل فيه جهدٌ معين، ويتطلب إجراءات إدارية محدَّدة لإنجازه وإتمامه، بل ربما قد تُستخدم فيه سلع وخدمات أخرى تمثل هي في ذاتها ثروات مشروعة، فإن الثروة المترتبة عليه، لا تكتسبُ "مشروعية المصدر". وهو الأمر الذي يؤكد على أنَّ بذلَ الجهد وحده غيرُ كافٍ لتبرير مشروعية الثروة الناتجة عن ذلك الجهد، بل يجب أن يُبذلَ الجهد في عملٍ ينتج ثروةً تنطوي على منفعة حقيقية عبر القيمة المضافة الحقيقية في المُنْتَج المترتب على ذلك الجهد. ولأن الميسرَ "القمار" لا يحقق ذلك، فقد اعتبره القرآن مصدرا غير مشروع للثروة، وبالتالي فإن الثروة التي تتأتى عبر هذا الباب تفتقر إلى "مشروعية المصدر". وبناءً عليه فأيُّما مصدر للثروة لم يقم على أساس إضافة قيمة حقيقية، وتحويل الجهد إلى مُنْتَجٍ سلعي وخدمي نافع للناس منفعة حقيقية ملموسة ومتجسِّدة، وبعيد عن الإضرار بهم بأيِّ شكل من أشكال الإضرار، فهو مصدر غير مشروع للثروة. وينطبق ذلك مثلا على: "إنتاج وتجارة المخدرات"، "إنتالج وتجارة التبغ"، "إنتاج وتجارة الدعارة والجنس والرقيق الأبيض"، "إنتاج وتجارة وتداول السندات والأوراق المالية"، "الكثير من أعمال الوساطة والسمسرة".. إلخ.
* "السرقة" هي الاستحواذ على مال الغير، بالاعتداء عليه وبدون رضا مالكه ومتولي إدارته، وضمه إلى حيازة المعتدِي وملكيته، بصرف النظر عن كون المال المُعْتَدَى عليه، هو مال مشروع أو غير مشروع، وذلك دونما فعلٍ ينطوي على بذل جهد يُحَوِّل ذلك المال إلى قيمة مُنْتَجَة ذات منفعة حقيقية للغير. ونلاحظ في هذا السياق أن بذلَ الجهد ذاتِه في فعل "السرقة" غير كافٍ لإعطاء المشروعية للمال المسروق. وإنه إذا كان بذل الجهد وحدَه غيرُ كافٍ في جعل المال الناتج عن "الميسر" مشروعا، بسبب الافتقار إلى واقعة المُنْتَج العائد بالمنفعة المتجسِّدة فعليا، رغم تحقق رضا الطرف الذي خسر ثروته بفعل "الميسر"، فإن بذل الجهد في فعل "السرقة" لا يقف عند حدِّ كونه مبرِّرا غيرَ كافٍ لمنحِ المشروعية للثروة المتحققة عبرَه، بسبب إرفاقه بانعدام المنفعة الفعالة في المنتَج المترتب عليه، بل هو يتجاوز ذلك إلى واقعة ارتباطه بعدم رضا الطرف صاحب المال الأصلي بانتقال حيازة المال منه إلى السارق. وبناء عليه فأيما ثروة تحققت فيها صفة أنها ثروة مسروقة، أيا كان شكل السرقة، وايا كان مستواها، فإنها تكون حتما ثروة غير مشروعة المصدر.
* "الغش" هو الخداع والتضليل وممارسة الكذب أثناء فعل "تحصيل الثروة". و"الغش" يختلف عن "السرقة" رغم أنه يشبهها في جوهره من حيث كونه يمثل شكلا من أشكال الاعتداء على الثروة بغير رضا صاحبها وباستخدام وسائل وأدوات مخادعة ومضللة مما هو متوافق عليه اصطلاحا، أو مما يقرر العقل أنه تضليل وخداع. ووجه الاختلاف بين الثروة المحصَّل عليها بالسرقة، وتلك المحصَّل عليها بالغش، هو أن المغشوش شخصٌ مخدوع لا يعرف أنه خُدِع أو أنه تمَّ غِشُّه، بينما المسروق يعرف أنه تمت سرقته وأنه تمَّ الاعتداء على ماله بغيرِ رضاه. وبناءً عليه فإن المجتمع معني بوضع كافة الآليات التي تضمن عدم وقوع الثروات تحت طائلة الغِشِّ في مصدرها كي تكونَ مشروعةَ المصدر. وأوجه وأبواب الغِشِّ كثيرة ومتنوعة. فمن الغِشِ مثلا "الغش في الميزان"، و"عدم إظهار عيوب المبيع"، و"عدم الالتزام بالمواصفات والمقاييس المتفق عليه لإنجاز العمل".. إلخ.
ب – مشروعية استخدام الثروة..
عندما تتجاوز ثروةٌ ما الاختبار الأول لمشروعياتها بنجاح، محقِّقَة لنفسها "مشروعية المصدر"، فإنها يجب – من وجهة نظر القرآن الكريم – ألا تركن إلى ذلك معتبرة أنها غير مطالبة بأكثر من نظافة المصدر، بل هي مطالبة بأن تُسْتَخدم استخداما صحيحا وسليما، لتحافظ من خلال ذلك الاستخدام على المحطة الثانية من محطات مشروعياتها، ألا وهي "مشروعية الاستخدام".
وباستقرائنا للنهج القرآني الذي حدَّد من خلاله كيف يمكن لثروة ما أن تكتسب مشروعية استخدامها، فإننا نجده أشار إلى ذلك عبر ستة مبادئ تطبيقية اعتبرها هي المُجَسِّد الفعلي لمشروعية الاستخدام. وهذه المبادئ هي..
* مبدأ "تقنين الاستهلاك وعدم حريته"، بالإشارة إلى ضرورة الالتزام بحدَّيه "الأدنى" و"الأقصى"، أي بـ "عدم التقتير" وبـ "عدم التبذير". وهو ما يفرض أن يسير المجتمع في إدارته لثرواته باتجاه سن وتشريع كل ما يمكِّنه من الوصول إلى فرض حدٍّ أدنى للاستهلاك يحقق الكرامة الإنسانية ويلبي الحاجات الاستهلاكية للإنسان وفق معايير الزمان والمكان، وإلى فرض حدٍّ أقصى للاستهلاك تفرضه عناصر يحددها أهل الخبرة والدراية بمعايير الزمان والمكان، كي يُحال دون الثروة المجتمعية ودون هدرها وتبديدها تحت مسمى "حرية الاستهلاك" القائمة أساسا على مبدإ "قداسة حرية التملُك".
* مبدأ "عدم الإنفاق في حرام"، وهذا بند يطول، لكنه واضح وجلي، فكل ما اعتبره القرآن سلوكا محرما أي يتسم بـ "اللامشروعية"، فقد اعتبر ضمنا أن أيَّ إنفاق عليه يفقد الثروة المُنفقة مشروعيتها ويوقعها بالتالي تحت طائلة خضوعها للمعاقبة بالشكل الذي يقرره المجتمع وفق معايير الزمان والمكان.
* مبدأ "الإسهام في تمويل إدارة الدولة"، وهذا ناتج عن تكامل فكرة الدولة في الخطاب القرآني، وهو بالتالي ما يوجب أن يتمَّ إسهام الثروة في تمويل إدارة هذه الدولة التي يُفترَض أنها مجموعة من المؤسسات الحامية لحركة الثروة ولأمانها وفق قوانين الدولة وفلسفتها. وبالتالي فأيُّما ثروة تتهرب من إسهامها الملزم في تمويل إدارة الدولة التي يتم إنتاجها فيها وبإمكاناتها ومواردها وتسهيلاتها ومنافعها المختلفة، هي ثروة تفتقر إلى المشروعية، ويحق للمجتمع أن يعاقبَها من ثمَّ بما يراه مناسبا وفق ظروف الزمان والمكان. ولقد أطلق الرسول الكريم على هذا البند من الإنفاق "الخراج" وهو ما يكافئ "كل أنواع الضرائب، وعلى رأسها الضريبة المتصاعدة على الدخل" في زماننا هذا.
* مبدأ "عدم استخدامها بسَفَه". ويعد هذا المبدأ غاية في الأهمية، لأنه يتعلق بالثروة حتى وهي تُنْفَق وتستهلك فيما ليس حراما، أي في الحلال والمباح. وهو ما يعني أنه خارج نطاق "التقتير" و"التبذير"، وخارج نطاق "الانفاق في حرام"، وخارج نطاق "عدم الإسهام في تمويل إدارة الدولة"، فإن هناك مساحة من الإنفاق الحلال في ذاتها، تصبحُ إنفاقا محرما يُفقد الثروةَ المُنْفَقَة مشروعيتَها إذا حصل بالشكل الذي أطلق عليه القرآن مصطلح "السَّفه". ومصطلح "السفه" واسع وممتد ويطال الكثير من المجالات التي تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، ولقد عالجته وتعرضت له كل القوانين المدنية في العالم نظرا لأهميته وحساسيته. ولم يضع القرآن الكريم ضوابط للسَّفه، تاركا الأمر للبشر في تطور حالهم ومآلهم، مشيرا فقط إلى سحب المشروعية عن أيِّ ثروة يتم استخدامها بسَفَه.
* مبدأ "عدم كنز الثروة"، وذلك بتفتتيها التدريجي عبر ما يعرف بالضريبة السنوية الثابتة في حال عدم ضخها في سوق الاستثمار، وهي الضريبة التي طبقها الرسول الكريم في زمانه ومكانه بما عرف بـ "زكاة ربع العشر".. وفي هذا السياق نجد أن النهج القرآني لا يعترف لأحدٍ بحرية الادخار المطلقة، من منطلق قداسة مبدأ ملكية الثروة والسيادة عليها، بل هو يعتبر أن مالك الثروة ليس أكثر من وكيل على إدارتها والسيادة عليها نيابة عن الأمة، وبالتالي فحرية تصرفه فيها محصورة في حدود انعكاس ذلك على مصلحة الأمة. وليس هناك أسوأ لمصلحة أمة من الأمم من تعطيل ثروتها بالادخار والحيلولة بينها وبين أن تُضَخَّ باستمرار في سوق العمل والإنتاج، لخلق السلع والخدمات وفُرَص العمل، وهي العناصر الحقيقية التي تتم من خلالها وباستمرار مكافحة البطالة ومحاربة الفقر. وهكذا فلكي تفقد ملكية الثروة معانيها الاستهلاكية المولِّدة للتفاوت الطبقي والمنتجة للبطالة والفقر، يجب أن تتحول إلى أداة إنتاج وتشغيل دائمين، بعد استهلاك وإنفاق الضروري منها وفق مبدأي "اللاتقتير" و"اللاتبذير". وكي يتحقق ذلك، تجب إعادة النظر في كل مبادئ "حرية الادخار" و"حرية الاستثمار"، كي يصار إلى إعادة إنتاجهما على قواعد "وجوب الاستثمار وإلزاميته"، و"محدودية الادخار ولا حريَّته".
* مبدأ "عدم وصاية مالك الثروة على ثروته إلا في حياته". وهنا يحقُّ للقرآن الكريم أن يسجِّلَ تفرُّدَه في تكريسه لمنهجٍ غير مسبوق في تعامله مع الثروة بعد موت مالكها، أو الوكيل عن المجتمع في ملكيتها وإدارتها. فحتى الضوابط السابقة التي وضعها القرآن لتحَقِّقَ الثروة لنفسِها المشروعية "مصدرا" و"استخداما"، من خلال إجبار مالكها على تحريكها وفقَها وفي ضوئها، تغدو ضوابط لا قيمة ولا أهمية لها بعد موت "مدير الثروة" إن صحَّ التعبير، لسبب بسيط هو أن ذلك "المدير" يُعتبر مُحالا إلى التقاعد حكما لحظة وفاته، بحيث أنه لا يجوز له وهو في حياته أن يحدد طريقةً لإدارة ثروته وطريقة توزيعها وإعادة تمليكها بعد مماته، لأنها بكل بساطة ليست له ولا وصاية له عليها. فوصايته عليها وفق الضوابط السابقة هي وصاية لتحريكها وإدارتها خلال حياته فقط. ولهذا المبدأ المتفرد قيمة كبيرة جدا على صعيد تفتيت الثروة وإعادة إنتاج أنماط وأشكال حيازتها وإدارتها، بما يصبُّ في مسيرة تحقيق "تداول الثروة". وفي هذا السياق فقد وضع القرآن الكريم حدا أدنى للأشخاص الذين يُعاد توزيع الثروة ليكونوا مديريها الجدد في "المواريث والتركات" التي عالجتها سورة النساء، تاركا للناس في كل زمان ومكان فرصة توسيع هذه الدائرة من المالكين الجدد بحسب ما تتيحه ثقافاتهم وضرورات إنفاذ مبدأ "تداول الثروة" في مجتمعاتهم. والرسول الكريم فعل شيئا من ذلك عندما ورَّثَ أشخاصا غير المذكورين في النص القرآني، وعيا وإدراكا منه لجوهرية هذه الفكرة.
وليس من الصعب إجراء دراسات علمية مجتمعية ديموغرافية الطابع، لمتابعة حركة الثروة من جيل إلى جيل، لمراقبة ما يتيحه تفتيتها عبر قواعد "المواريث والتركات"، بالارتكاز إلى البنية الجنسية والعمرية لأفراد المجتمع، ولمعدلات المواليد والوفيات، ولمتوسط الأعمار، ولقواعد الزواج التي تشجع دائما على تغريبه والابتعاد به عن الانحصار في دوائر أولي القربى.. إلخ. فمن شأن هذه الدراسات العلمية الكشف عن حقائق مذهلة في هذا الشأن، ليس بأقلها أهمية، أن ثروةً ماَّ "س" إذا كانت تحت إدارة شخصٍ ماَّ "أ" في لحظةٍ ماَّ "ز"، فإن هذه الثروة ستصبح هي وكل المتغيرات التي حصلت لها على مدى مائة عام لاحقة، قد انتقلت ملكيةً وسيادةً وإدارةً، إلى مئات الأشخاص الذين لا يَمُتون في الغالب بأيِّ صلة قرابة دم، إلى "أ". فإذا كان نظام "المواريث والتركات" القرآني يعتبر مفتاحا لهذا القدر من تفتيت الثروة وتداولها في المجتمع، فلنا أن نتصور مديات سيرورة مبدأ "تداول الثروة" عندما تكون كل الأليات والأدوات الاقتصادية في المجتمع تصب في خانة خدمته وتكريسه وإنفاذه.
خلاصة القول إذن أن المنهج القرآني في تكريس قيمة "العدالة" وتحقيقها في المجتمع يتَّسِم بالبساطة والوضوح والعمومية والبعد عن التفاصيل، وقد أشار القرآن إلى مكونات هذا المنهج في خطابه عبر التسلسل التالي..
أ – العدالة تتحقق عبر تحقيق مبدأ "تداول الثروة".
ب – مبدأ "تداول الثروة" يتحقق عبر جعل الثروة تكتسب "مشروعية المصدر" و"مشروعية الاستخدام".
ج – مصطلح الزكاة القرآني ينطبق على كل الآليات التي تحقق العدالة عبر "تداول الثروة" الذي تؤسس له "مشروعيات الثروة"، ولا ينطبق فقط على ضريبة "ربع العشر" أو "الخراج" اللتين لا تتجاوزان كونهما تجسيدا مكانيا وزمانيا لبعض جوانب مفهوم المصطلح القرآني مارسه الرسول الكريم.
د – تحقِّق الثروة مشروعية مصدرها، إذا حققت الشروط الأربعة التالية..
* إذا لم تقم على أيِّ شكل من أشكال الاستغلال، وهو ما أشار القرآن إليه بمصطلح "الربا".
* إذا لم تكن مفتقرة إلى إنتاج قيمة مضافة حقيقية سلعيا وخدميا فيها منفعة للناس، وهو ما أشار القرآن إلى أهم نموذج له وهو "الميسر".
* إذا لم تتأتي عبر أيِّ وسيلةٍ من وسائل الاعتداء على مال الغير "السرقة".
* إذا لم تتأتي عبر أيِّ وسيلة من وسائل الغشِّ والخداع والتضليل.
ه – تحقق الثروة مشروعية استخدامها، إذا حققت الشروط الستة التالية..
* تقنين الاستهلاك، بالالتزام بحدَّيه "الأدنى" و"الأقصى"، أي بـ "عدم التقتير" وبـ "عدم التبذير".
* عدم الإنفاق في حرام.
* الإسهام في تمويل إدارة الدولة.
* عدم استخدام الثروة بسَفَه.
* عدم كنز الثروة ودفعها إلى الاستثمار باستمرار.
* عدم وصاية مالك الثروة على ثروته إلا في حياته، والعمل على تفتيتها بعد مماته.
إنه في إطار هذه القواعد العامة والكلية التي وضعها القرآن الكريم كأُسُسٍ ضابطة لمبدأ "تداول الثروة" وتحقيق "العدالة"، يُفترض فينا أن نتحرك ونبتكر ونخترع ونجتهد، مكرسين باستمرار أيَّ آلية تعمل على تفعيل تلك المبادئ وتحقيقها، لأنها السِّكَّة الحتمية التي عليها يسير قطار "العدالة".
فإذا كان هناك ما يسمى بـ "الاقتصاد الإسلامي"، أو "الاقتصاد القرآني" بتعبيرٍ أدق، فهذه هي قواعده وأسُسه، ومنها ينطلق، وما علينا إلا أن نحاول دائما صياغة اقتصادنا في ضوء تلك القواعد والأسس، دون تحميل القرآن أكثر من ذلك، أو ليِّ عنق نصوصه ليتمَّ تجييرها لخدمة مصلحة هنا ومصلحة هناك، أو "رأسمالية واقتصاد سوقٍ" هنا، و"شيوعية واشتراكية" هناك.
مع التأكيد على أن "تداول الثروة" على النحو المذكور سابقا هو الأساس العملي لتحقيق مبدأ "تداول السلطة" على النحو النموذجي المستهدَف، وهو النموذج الذي يمكن – فضلا عن كونه نتاجا حتميا لتداول الثروة – أن يتم رفده بمجموعة الآليات التنظيمية والإجرائية التي أشار إليها القرآن الكريم، أو التي جسَّدها الرسول الكريم، في مجال مفاعيل "السلطة".
أي أن القرآن الكريم قد أكد على مجموعة من القيم الأخلاقية والإجراءات التنظيمية التي لا تستطيع في ذاتها، وإذا تمَّ التعامل معها معزولةً عن علاقة السلطة بالثروة على النحو المفصَّل سابقا، أن تُحقق شيئا مؤثرا بشكل جَدِّي على صعيد "تداول السلطة" الحقيقي المساعد على تسهيل الطريق أمام مفاعيل "تداول الثروة" لتحدِثَ التغيير المطلوب في المجتمع "ثروةً" و"سلطةً"، وإن كانت تستطيع إذا تَمَثَّلَها المسلمون كرديفٍ أخلاقي وتنظيمي للعنصر الأساسي المكوِّن لمبدأ "تداول السُّلْطَة"، ألا وهو مبدأ "تداول الثروة"، أن تكون بِمثابة مُحفِّز على تعجيل وعلى تدعيم عناصر التفاعل الوجودي بين المبدأين.
ومن هذه القيم والإجراءات الناظمة..
* التأكيد على مبدأ "الشورى" في أكثر من موقع في القرآن الكريم، وهو المبدأ الذي تُرِك بابه مفتوحا للبحث على الدوام عن أفضل الصيغِ لتنفيذه في المجتمع حسب متطلبات الزمان والمكان.
* التأكيد على مبدأ التعدد والتعايش المجتمعي والإنساني في قلب الخلاف والاختلاف بكل مستوياتهما، بدءا بما كان منهما سياسيا وانتهاء بما كان منهما معتقديا، وفي أكثر من موقع قرآني، وبأكثر من صيغة وفي أكثر من مناسبة، وهو ما سنعرضه في مقالات لاحقة.
* تأكيد الرسول الكريم في سياق تجسيده لروح القرآن في مجال السلطة، على ما يلي..
– إن الطاعة الواجبة للأمير هي واجبة حتى لو كان رأسه "زبيبة"، أي حتى لو كان أسودً. والسواد عند العرب كان يشير إلى علامة الرَّق في العادة، في تكريسٍ واضح لفكرة أن السلطة تتأتى من قيم الكفاءة، وليس من قيم العائلة والقبيلة وشرف النسب بالمقاييس السائدة.
– التأكيد على ضرورة لزوم الجماعة وعدم الخروج عليها، وهو ما يبعث على التخفيف من حِدَّة النزعة الفردية التي تشكل الدافع الأكبر لدى المتنافسين على كراسي الحكم والسلطة خارج أطر "تداول الثروة".
– التأكيد على ضرورة أن لا يَموت المسلم إلاَّ وفي عنقه "بيعة"، وهو ما يدل على فكرة الالتزام والانضباط وعدم الانزواء عن العمل العام، بل الاندماج فيه اندماجا كاملا، بسبب ما تعنيه البيعة عادةً من ارتباطٍ للعُرَى لا ينفصم بين المبايِع والمبايَع، مع ما يستتبع البيعة عادة من نكرانٍ للذات وذوبانٍ في الجماعة ومصالحها.
ناهيك عن عشرات النصوص التي كانت تُوَجِّهُ الأمراءَ إلى كيفية التعامل مع جُندهم أو مع مقوديهم الذين يسوسونهم، داعين إياهم إلى العدل وإحقاق الحق والرحمة وتَجنب التفرُّد والاستبداد.
علاوة على ما تم ذكره من فضل للحاكم العادل، ومن ضرورة قول الحق في مواجهة الحاكم الظالم دون خوف منه أو وجل.. إلخ.
فكل تلك القواعد القيمية عندما يتم تجسيدها على أرض الواقع على شكل إجراءات وأدوات ناظمة للحياة المجتمعية في دائرة "ممارسة السلطة"، فإنها تتيح حدا معقولا من مبدأ "تداول السلطة"، سيعمل جنبا إلى جنب مع البناء التحتي لكل السيرورة المجتمعية، ألا وهو "تداول الثروة"، للوصول بالمجتمع بالتالي إلى أعلى درجات "الحرية" و"العدالة".