ممارسات نقدية
هى محاولات فى عالم النقد لنصوص تستحق النقد
محاولات لهدم مقولة ( النقاد ما هم إلا جنرالات خائبون لم يستطيعواالإستيلاء على مدينة فحرقوها قبل الرحيل )
محاولة لتغيير فكرة أن المبدع الفاشل هو ناقد متميز
1- غــــرابيل
بقلم : سمير الفيل
بائع الغرابيل كان يجوب الأسواق ، ويخترق الأزقة الخلفية المشمسة في نهار طوبة شحيح الدفء . يحمل بضاعته بين يديه وينادي . كانت وحيدة ، تتكيء على حافة الشباك ، وتسرح في البعيد حيث ذهب زوجها لبر الشام كي يعمل بحثا عن الرزق الحلال .
قبل سفره بيومين رجته أن يبقى ، فرب هنا رب هناك ، لكنه قال جملته التي لن تنساها : البلد التي تمنحك القرش هي بلدك .
كانت تعرف أن ارض الله واسعة ، وما يكسبه من عرق جبينه هنا حتى لو أنه قليل إلا أنه يمنحهما الستر ، لكنه تبرم من ضيق ذات اليد . جاء بجواز السفر الأخضر وألقاه أمامها . حين رأت النسر الذهبي ذعرت فقد كان ينظر نحوها بعداء واضح ، وهي أعطته ظهرها حتى وضعه في الحقيبة الصغيرة .
قال لها وهي تعد له أقراص المنين والكعك بعجوة وعيش الطابونة : لا تطل الغياب .
اغتصب ضحكة ووعدها أن يرسل في طلبها فور أن ينصلح الحال . بائع الغرابيل ينادي بصوت فيه نداوة :
( الحر يصبر على الضيق
ولا يفرح لعـــــــــادي
لو ينشف الفم م الريق
يتم ع الحال هـــــــادي ) *
لم تكن تفهم الكلام ولكنها طلت ورأت أنه يشبه حلمي تماما بنفس شاربه الكث وصوته الغليظ المبحوح ، لكنه لم يغني لها أبدا .
لأول مرة تكتشف أن حلمي الذي راح لبلاد الشام ليعمل في الموبليا لم يغن لها حتى في أيام الخطوبة . صحيح انه كان يلاعبها ويضاحكها لكنه كان لا يطيق الغناء ولا سيرة المطربين والمطربات .
مرة سمعها تغني في الحمام وهي تستحم فطرق الباب وأمرها أن تكف عن إزعاجه بصوتها . في الفصل وقبل أن تخرج من الصف السادس الإبتدائي كانت تشارك في فريق الكورال ، وقد علمتها مدرسة الموسيقى السلم الموسيقي ، ومتى تبدأ من " دو " لتصعد إلى " سي " دون أن يختل صوتها .
هو الآن واقف على الباب بتهيب . فكرت لو أن لها طفلا لمنحها الأمان ، ولأدخل في قلبها الطمأنينة . خمس سنوات بلا طفل . لا ملاغاة ، ولا تحنين : تفضلي يا هانم .
مدت يدها تختبر متانة السلك ، وقبل أن تسأله عن الثمن سألها أن تأتي بكوب ماء مثلج .
دخلت وتركت الباب مواربا ، وحين عادت رأته يمسح عرقه بظهر يده : الدنيا حر . اسمحي لي بالجلوس على عتبتك.
لم يكن بوسعها أن تمنعه ، وكانت تشم رائحة عرقه فتعود القهقرى لأيام كان حلمي معها ، يعود مساء في غاية الإجهاد فتضع قدميه في ماء ساخن ، تتركه لتعد العشاء . ياه . كم اشتاقت لتلك الأيام ، فثلاثة أعوام جففت روحها ، وصحرت أيامها .هشت بيدها خواطر سوداء : هل يوجد أكبر من ذلك؟
هز رأسه : هذه أفضل بضاعة ، وأبيع بنصف سعر السوق .
من طرف خفي قاست طوله ، ورأته أقصر من زوجها ببوصتين فقد كان " زر " الكهرباء يعلو كتفه بنفس المقدار ، ضحكت وهي تضبط نفسها تقارن بين رجلين . بين حاضر وغائب . سألته : من أين حفظت الموال؟
قال لها أنه لابن عروس ، وقد سمعته عن جدي فقد كان يغنيه بين تعب المشاوير، وكنت أسرح معه . قالت له وهي تدخل لثوان معدودة ثم تعود بصورة أتت بها من درج الكومدينو : هذه أنا في حفل المدرسة . كان صوتي جميلا .
حملق في صورة البنت الشقية للحظات وقد افترت شفتاه عن ابتسامة هادئة : كنت حلوة . أراك تحبين الغناء .
وضع نظراته في بلاطات العتبة المزخرفة بأسود مع مربعات أقل بالأحمر : أول زبونة تسألني عن الموال . إنني أسلي به نفسي .
تركت في يده الصورة ، ودخلت، أحكمت وضع الإيشارب حول شعرها ، وأغلقت آخر زرار في فستانها البيتي المهوش : استرح دقيقتين . أجهز كوبين من الشاي لي ولك .
نظر نحوها في ترقب ومد رقبته يتشمم وجود أحد فاكتشف أنها بمفردها ، لكنها كانت مأخوذة بالكلام الذي حفظه عن جده . اختفت لدقائق وعادت بالكوبين . مدت يدها والشاي يصبغ الضوء النازل بحمرة مبهجة : ياليتك تغني موالا آخر . كانت الغرابيل مسندة على حافة الجدار ، متداخلة ومتعانقة ، أما الباب فمفتوح على آخره ،وقد راح ينتقل من موال إلى موال آخر وهي تهز رأسها مستمتعة لأقصى حد . كان البيت من طابق واحد بالطوب الأحمر ، وعلى الحافة تحط عصافير وتطير ، وتهب نسائم آتية من الشمال مع لفحة برد تنخر العظام .
ارتشف بتلذذ عجيب شاي الصباح ، وهي أمالت كوبها وراحت تعب وعقلها شارد حيث ينبغي أن يكون حلمي : كم تريد ثمنا له؟
نظر بامتنان نحوها وقد لامست يده أصابعها الطرية بدون قصد فيما هو يسلمها الكوب الفارغ : لا شيء . يكفيني أن تعرفت عليك .
لكنها دخلت ثانية . حطت الكوبين على رخام المطبخ ، وعادت بحافظة نقودها : خذ ما تشاء . انتزع جنيهين . هبط درجات السلم القليلة ، هو يصدح بالموال ، أما هي فقد راقبته من شباكها حتى ابتلعته الزحمة .
دمياط 3/ 8/ 2006
غرابيل .. سمير الفيل
1- العنوان
أرى أن الكاتب ( الأستاذ / سمير الفيل ) وفق تماما فى إختياره ليعبر عن النص والفكرة التى خلف النص .
غرابيل .. الغربال هو أداة من أدوات المطبخ يتم فيها غربلة الأشياء ليبقى منها النافع أما الضار وغير المستخدم فيهبط من فتحات الغربال المتعددة .
هنا كان الغربال والمقصود منه أننا أحيانا نحتاج لغربلة أحداث حياتنا فمنها الضرورى فى الخالد فى الذاكرة ومنه الغير نافع بل وأحيانا ضار لنا حتى نتذكره .
لذا فيجب أن يهبط سريعا من فتحات الغربال .
2- الفكرة
حنين للغائب منذ سنوات , يتأجج هذا الحنين بسماع موال من بائع الغرابيل الذى يشبه الزوج الغائب , فتستحضره للشقة التى تجلس بها وحدها فقط لتستجمع ذكريات الماضى , وتضع تلك الذكريات فى الغربال الذى إشترته منه , مع مووايل البائع الجميلة , هو يغنى , هى تغربل ذكريات حياتها .
3- الشخصيات
هما شخصيتان رئيسيتان
-- البائع : وهو شخصية إيجابية فى العمل يمكن أن نقول عنها أنها مستديرة ( لا تفصح عن نفسها ) فالموال هو لغته التى يتدث بها ولكن هل عندما ذكر الكاتب (نظر نحوها في ترقب ومد رقبته يتشمم وجود أحد فاكتشف أنها بمفردها ) كان يقصد من ورائها شىء , وما يدعم ذلك فيما ذكره الكاتب (نظر بامتنان نحوها وقد لامست يده أصابعها الطرية بدون قصد فيما هو يسلمها الكوب الفارغ ) .
- الزوجة : وهى الشخصية الايجابية الثانية لتى تعد أكثر إستدارة وتعقيدا من البائع حيث أنها فتحت الباب وهى وحيدة للبائع , ولم تأخذ ماتريد فقط بل طلبت منه الجلوس وأعدت الشاى وطلبت أن تسمع موالا وأ:ثر وراحت تسرد له ذكرياتها .
وهنا تركنا الكاتب فى التساؤل عن غرض تلك الزوجة المفتقدة زوجها المسافر منذ سنوات , ولم يقدم لنا الإجابة .
- الزوج : وهو برغم كونه شخصية ثانوية إلا أنه إيجابى التأثير على القصة من حيث تأثير يابه فى الزوجة , والتشابه الكبير الذى بينه وبين بائع الغرابيل .
اللغة :
كعادة الأستاذ سمير فإن اللغة عنده لغة مختلطة فمنها لغة سردية راقية
مثل :
بائع الغرابيل كان يجوب الأسواق ، ويخترق الأزقة الخلفية المشمسة في نهار طوبة شحيح الدفء
ومنها لغة الراوى الشعبى فى إستخدامه بعض الأقوال الشعبية والأمثلة
(فرب هنا رب هناك - البلد التي تمنحك القرش هي بلدك)
ومنها إستخامة للموال فى :
الحر يصبر على الضيق
ولا يفرح لعـــــــــادي
لو ينشف الفم م الريق
يتم ع الحال هـــــــادي
الصور البلاغية
قليلة ولكنها مستخدمة بدقة مثل
اغتصب ضحكة - فثلاثة أعوام جففت روحها ، وصحرت أيامها .هشت بيدها خواطر سوداء
الزمكان
الزمان
فى رابيل هو زمان محدد فى أحداث القصة ولكن براعة التاخل فى القصة حيث كان تذكر ما دار بين الزوجة وزوجها الغائب يعود بنا إلى خمس سنوات مضات دون أن يخل بعنصر الزمن .
أيضا الصورة التى ذكرتنا بها وهى طفلة عادت بنا إلى زمان اخر أكثر قدما لكن ونحن فى نفس اللحظة الزمنية .
هنا تظهر براعة الكاتب فى إستخدام عنصر الزمان .
المكان
( المنزل – البيت ) المكانا الرئيسيان فى القصة ولكن هناك أماكن أخرى ثانوية مثل ( الشام حيث الزوج – المدرسة حيث غنت )
البناء القصصى
مقدمة : (بائع الغرابيل كان يجوب الأسواق ، ويخترق الأزقة الخلفية المشمسة في نهار طوبة شحيح الدفء . يحمل بضاعته بين يديه وينادي . كانت وحيدة ، تتكيء على حافة الشباك ، وتسرح في البعيد حيث ذهب زوجها لبر الشام كي يعمل بحثا عن الرزق الحلال .
جذابة من خلال اللغة الراقية والجاذبية فى معرفة من هو وماذا سيفعل وماذا تريد الزوجة الغائب عنها زوجها , وما مصير الزوج المسافر إلى الشام ؟
صراع ( عقدة ) :
الصراع بين إشتياق الزوجة والشبه الكبير بين البائع وزوجها الغائب رغم ان هذا لم ينص عليه صراحة فى النص ولكن يمكن أن يكون ماوراء النص .
النهاية : (لكنها دخلت ثانية . حطت الكوبين على رخام المطبخ ، وعادت بحافظة نقودها : خذ ما تشاء . انتزع جنيهين . هبط درجات السلم القليلة ، هو يصدح بالموال ، أما هي فقد راقبته من شباكها حتى ابتلعته الزحمة )
هى نهاية كانت تداعبنى ولكنى كنت أظن أنها ستكون غير ذلك , وهى نهاية طبيعية رغم أن الأحداث كانت تدفعنى دفعا إلى غير ذلك .
عودة الزوجة إلى طبيعتها بوضعها الكوبين على رخام المطبخ , ثم طلبها منه أن يأخذ مايشاء من النقود ( دليل عرفان بما قدمه لها )
غرابيل قصة جميلة لكاتب جميل
يحيي هاشم
4/8/2006