أثر حضارة وادي الرافدين في حضارات العالم
أصالة في الفكر :
لم تكن حضارة وادي الرافدين أقدم حضارة فحسب ، بل كانت أكثر الحضارات العالمية اتزانا و أصالة ، وإن الحضارات التي تلتها ، أسست فوقها و عقدت أصالتها في الإضافات .. ولم يتح للبشرية التخلص من هذا التعقيد إلا مع بداية الفكر المعاصر .. لذا فإن الانتباه واجب من أخذ ما يقوله الأجانب في أن حضارات وادي الرافدين كانت ممزوجة بالأساطير !
إن الأسطورة أسلوب استخدمه إنسان الحضارات القديمة ، جامعا فيها الفكر والفلسفة ، والشعر و الأدب ، وحتى العلم أحيانا . لكنه كان ، على صعيد الواقع والحياة يقيم لكل أمر وزنه ، تماما كما نفعل نحن ، مع اختلاف في (الشيوع ) ، فالشائع في أيامنا العمل المادي والتقنية العلمية ، بينما الشائع في العصور الغابرة الشعر و التصوف ..
يقول (كونتنو ) : ( إن أشكال الدين المبتكرة تركت وراءها ، منذ السلالة السرجونية ، آثارا مهمة لا تزال قائمة حتى أيامنا . وهو يشبه من بعض الوجوه ، الديانات الهندوـ أوروبية البدائية )* 1 . ولا يعترض على هذا الكلام إلا في مسألتين ، وهي إبدال لفظة ( آسيوي ) ب (عراقي قديم ) وحذف صفة البدائية .
نظرة كونية :
يقصد بالنظرة الكونية هنا : هو عدم فصل الإنسان عن الكون من ناحية ، وعدم اعتباره شيئا أو قطعة منه ، من ناحية أخرى . فهو ليس كالأشياء (يُمتلك) بل هو من يملك ، وله ( أنا ) وذات عاقلة تعي علاقاتها في أسباب وجودها من ناحية و علاقاتها فيما بينها من ناحية أخرى ..
لقد عقد الفلاسفة اليونان الذين سبقوا سقراط و افلاطون و أرسطو ، الأمور في اعتبار الإنسان قطعة من الكون المادي ، بإرجاعه الى الماء والتراب والهواء و النار . بل اعتبروه رقما أصم ، دون تفريق بين إنسان وإنسان .. ولم يكمل سقراط ( رائعته ) في التركيز على ذات الإنسان ، إذ غيبها فيما بعد إفلاطون في عالم المثل ، بينما شرَحها أرسطو قطعة قطعة ، مستخدما أساليب المنطق و ألاعيبه البهلوانية ، ففقدت اتزانها ووحدتها وجمالها ..
لقد ظهرت أبعاد حضارة العراق بصفتها (كونية) من خلال أساطير النشوء ، والطوفان ، وكلكامش ، ونزول (انانا) الى العالم السفلي وغيرها .. لن يعي هذا الكلام ، من يأخذ من المنطق (الصوري ) الغربي أساسا لتفسير ما نذهب إليه ، وسيجد من يعي هذا الكلام و أثره في نظرية ( أوجست كونت ) 1798 ـ 1857 .. وما تلا تلك النظرية من إضافات فلسفية تربعت على النظرات للحياة بمختلف مناحيها .. فقد قسم (كونت) تاريخ البشرية الى ثلاثة عهود : الأول سماه عهد الطفولة أو عهد حضارات الدين والأساطير .. والثاني : عهد المراهقة ، وهو عهد الفكر الفلسفي ، بدءا من اليونان ومرورا بالعصر الوسيط ، والعهد الثالث : عهد البلوغ والنضج ، عهد العلم والتقنية بدءا بالاكتشافات والاختراعات العلمية و الثورة الصناعية .
ان تقسيما كهذا لا يزيف التاريخ وحسب ، بل ويشوه الإنسان ويقضي عليه . فمتى كان المرء مؤمنا وحسب أو مفكرا وكفى أو عالما ولا غير ذلك ؟ لكنه المنطق اليوناني الذي يفصل ويقطع ويركب كيفما شاء .. لكننا لو استخدمنا طريقة (ديكارت ) 1596ـ 1650 المنهجية في التخلي عن الأفكار والمفاهيم ، والغوص في أعماق الذات ، لاكتشاف (الحقائق الواضحة و المتميزة ) ، لأدركنا أن نظرة كونية هي وحدها تشرح الإنسان و تقيمه ، شرط أن ترافقها نظرة كلية .
نظرة كلية :
المقصود بالنظرة الكلية هو عدم تجزئة الإنسان الى روح ومادة ،ونفس وجسد ، وفكر وعمل ، كما يفهم من المصطلح عدم فصل الدين عن الدنيا ، والحياة الروحية عن الحياة الاجتماعية ، والأخلاق عن الممارسات ، وحياة الدنيا عن حياة الآخرة .
في حين لو رأينا ماذا يقول أفلاطون ومن آمن بنهجه بأن : الروح تهبط من فوق ، لتتقمص جسدا ، هو بمثابة سجن بغيض لها ، وتود لو تفلت منه لتحلق الى الموطن الأصلي حيث عالم (المُثل ) .. وزاد أتباع أفلاطون : أن المادة رجس و الجسد دنس ، لذا فإن مهمة المرء في حالة عملية تطير نفسه ، التخلص من عالم الشقاء و الاندماج بعالم الروحيات السعيد .. وقد ذهب بعضهم الى أكثر من ذلك باعتبار المرأة هي مصدر الخطيئة ..
أما أرسطو فاعتبر المادة قوة و الروح فعل . وذهب الى نظرة غريبة حيث اعتبر أن العمل هو من مهمة العبيد في حين التفكير من مهمة الأسياد .. لقد تجاوزت حضارة الرافدين هذا التقسيم و اعتبرت أن النظرة يجب أن تكون كلية .
نظرة إنسانية :
ركزت حضارة وادي الرافدين على عالم الإنسان ، بعكس الحضارة المصرية التي ركزت على الموت والحياة التي تتبع الموت .. وهنا يشير ( كريمر ) الى ملحمة ( جلجامش ) فيعتبرها عمل أدبي راقي .. وكان الإنسان هو محور تلك الملحمة ، فيشير ( كريمر ) بأن ( جلجامش ) الذي ثلثاه إله و الثلث الثالث من البشر ، إلا أن التركيز كان على صفته البشرية * 1
وكثيرة هي النصوص التي تهتم في الإنسان ، ففي ملحمة (جلجامش ) تبكي الآلهة الإنسان الذي كان الطوفان قد أوشك أن يقضي عليه نهائيا * 2
ولنلحظ هذا النص الذي هو حديث لربة ( الحانة ) موجها الى ( جلجامش) :
إلى أين تسعى يا جلجامش
إن حياة الخلد التي تبغي لن تجدها
حينما خلقت الآلهة العظام البشر
قدرت الموت على البشرية
واستأثرت هي بالحياة الأبدية
أما أنت يا جلجامش ، فليكن كرشك مليئا على الدوام
وكن فرحا مبتهجا نهار مساء
و أقم الأفراح في كل يوم من أيامك
وارقص والعب مساء نهار
واجعل ثيابك نظيفة زاهية
واغسل رأسك و استحم في الماء
ودلل الصغير الذي يمسك بيدك
وافرح الزوجة التي بين أحضانك
وهذا هو نصيب البشرية *3
لكننا نعلم أن جلجامش لم يستجب لتلك المطالب و بقي يعاند الآلهة ويبحث عن الخلود .. وهي إشارة واضحة على ترجيح الإنسانية على الخنوع لطلب الآلهة .
فيجيب جلجامش على الطلب السابق بالتسليم بما قدر له :
عندما لم يكن للسماء اسم بعد
عندما لم يكن للأرض تحت السماء اسم بعد
لم يكن بعد ألواح قدر . ولم يكن بعد كون *4
يتبع
المراجع
ـــ
1 ـ جورج كونتينو :الحياة اليومية في بلاد بابل و آشور بغداد 1979 ص 40
2ـ صموئيل كريمر : من ألواح سومر /ترجمة طه باقر ص 305-306
3 ـ ملحمة جلجامش / طه باقر بغداد 1980 ص 9
4 ـ ملحمة جلجامش ص 135و 138