حب على ظهر الحمير
( مرفوعة إلى شعوب المغرب
العربي الكبير.)
" على العموم .. لا نفسر جذور السر"
- الطاهر بن جلون -
مروان الطيب بشيري
حل الخريف بئيسا على القريتين ، ولم يكن بهذا البأس قبل خبر غلق الحدود بين بلديهما ، بقيت كل قرية حدودية تلامس الهواء الحار بمعزل عن أختها كأن لم تكن بالأمس إحداهما تموج في الأخرى ، ولكن الحقيقة ثبتت بإعلان إجراءات غلق الحدود بين الجمهورية والمملكة فانفصمت عرى التواصل بين قرى الحدود ، وغابت الحياة وولت كأن سدا منيعا جعل بينهما ، كان الحسين يمضي كل يوم من قرية بلده إلى القرية المجاورة في البلد الجار، وبإعلان هذا الغلق صارت الحياة بالنسبة إليه مقلوبة رأسا على عقب ، والحق أن قلقه جراء ذلك كان بحظ وافر بسبب انفكاك حبل الحياة بينه وبين حبيبته آسيا ، ذلك الطيف الملائكي السجين اليوم عنه خلف سد الدولتين، وسيستمر به ترقب خبر فتح الحدود البرية كل يوم إلى أن تنتهي معاناة تسلله الليلي إلى قرية الحبيبة ، غير أن العودة إلى سياق الارتباط بالتجاور بين البلدين الشقيقين لم تأذن بها المقادير بعد رغم ترادف الأيام والشهور .
تأهب الحسين كعادته لأخذ طريق العودة سرا من المملكة بعد أن اشتدت العتمة وغابت أنوار الحرس ، توكل ومضى يشق سبيل المآب ، ولقد كره من رحلته المتكررة بين الحدود ذهابا وإيابا وأنهكته المخاطر التي تطرأ دائما على محاولاته في التسلل مرتين ، قد تنقضي ساعات بطولها في ترقب الدرب الآمن بين الدروب الوعرة دون نجاحه فيقفل راجعا مخيبا ، وقد يحدث أن تستولي عليه جنود القلق والحيرة سرعان ما يعتدل المسار دون رقيب فيتسرب في ظلمة الليل ، كان ينفر راكضا تارة ومنبطحا تارة أخرى كلما أحس بالخطر، وقد يبوء بجراح خفيفة في قدميه ومنكبيه نتيجة الزحف والانبطاح ، وكان يسرع من بعد انبعاثه سرعة عفريت من الجن يخشى أعين الجيشين ، يستأنس في رحلته بالتمر زادا و بالسجائر، يحتاط أن يفضحه وقيد السيجارة فيحيط جمرتها بقبضته حتى لا يكون نورها الخافت دليلا قد يشعر جند الحدود بوجوده مرابطا قرب النقطة الحدودية في جنح الظلام ، أو يظنوه حمار تهريب فيطلقون النار عليه قبل التيقن من هويته، ويظل الحسين مقتفيا أثر العلامات التي يهتدي بها في وجهته المظلمة، كاسف الوجه من أقاصي " مغنية"* إلى أطراف "الناظور"*، ثم تتضاعف الخيفة من "الناظور" حتى "مغنية" إلى أن تطأ قدماه عتبة البيت فيستريح ، ولو لم يجد في رحلته الخطيرة مكروها يحيق به سيتشجع وينتصر على مخاوفه لتكرار الكرة من غده ، وهو الخبير بالأرض شبرا شبرا وبالعسكر رجلا رجلا.
ذاك أن الحب يدفعه إلى ارتياض المشقة وارتياد المصاعب ، فيندفع بدافع قوة خفية تمكنه من النفوذ من أقطار الهواء والماء متى رام الرحيل إلى آسيا .. وما أدراك ما آسيا في قلب الحسين، كانت دروب الحدود المقفلة كفيلة ببث الرعب وحدها ، قد يعوي ذئب ، وقد تدب سيارة تهريب مطفئة الأنوار فينخلع قلبه وينبطح في مكانه مثل خشبة ملقاة ، وكان كثيرا ما يجد في طريقه حمارا يحمل فوق إكافه دلاء بنزين مهرب صوب المملكة ، أو بغلة من غير سائس تمضي بصفائح المازوت من بلده إلى بلد الحبيبة ، مما تسبب له في مشاكل أول الأمر مع بعض المهربين ضنا منهم أنه عين للجنود ، ولكنه كون صداقات معهم من بعد ما تبين لهم براءته من العسكر، واعتادوا رحاله الليلي ، حتى آسيا ألفت في كل انتظار مرور بهائم السلع المهربة على ظهور الدواب قريبا من دارها أو مكان ميعادهما ، وعلم بعض التجار بقصة الحبيبين اللذين حالت بينهما الحدود، فلم يتعرضوا لهما بسوء ، فوق ما اتخذ الحسين وآسيا من حذر وتجنب للجميع حتى يتقيان شبهة التهريب والعون عليه ، ولهو عين الخطر أن تحوم حولهما الشكوك مجتمعة من العسكر والتجار وأهل القريتين ، لاسيما الأخطار المحيقة بتنقل الحسين ، قبل زمن الغلق كان صدره يسع مطلع الشمس ومغربها ، حين ينحدر من وهدات القرية إلى مركز العبور ويمضي إلى المملكة صوب الغزالة ، ليس معه سوى ثمرة الحب يانعة بين عينيه ، ومنذ أن تم غلق الحدود وعينه لا تطعم نوما ونفسه لا تطيب أبدا بملذة، وانقلب طبق الوجد والمحبة إلى آنية بئيسة خاوية .. تنتظر طعم الراحة والمواجيد ، كان يراها في أيام الحدود المفتوحة بين البلدين كل يوم ، فليس بين القريتين سوى ذلك الحد الصوري الكثيف، ولقد حاول دائما منذ سماع الخبر الصاعق عبر الإذاعة أن يتقوى ببعض الأمل في تراجع الأمور إلى ما كانت عليه ، ولكن منذ يوم إعلان غلق الحدود البرية واشتراط تأشيرة السفر جوا دون البر ، إلى اللحظة التي يتأهب فيها خوض سبيل الرجوع ، والأمل يطول بطول الليل والنهار والحدود باقية على حالها ، ولكن إصرار العاشق سر حكيم .. لم تكن الجبال لتثنيه ، ولا البنادق ولا الشاحنات العسكرية الجوالة في قلب الظلام أن تضعف من عزيمته ، ظل يجازف متخفيا برداء العتمة ويمشي بين المناكب ليلقاها على الطرف الآخر من المحبة والانتظار، هي مثله ، تعرف محمل الشقاء وتتحمله ، فليس بين العشاق من لا يتنكب النكبات ، وكم من واحد من زمرتهم ضن أنه كسب جوامع السعادة ، لكنه اكتسب شقاء محضا ونحوه من المعاناة .. يرخي الليل سدوله فينتبه الحسين لخاطرة الغزالة ، ويبدأ غزوة الموعد المهلك ، كأنه يمضي إلى جانب النجاة ، هي مثله ، ترى آسيا في انتظاره رأيا مستحسنا وتتخفف من وجعها ببلسم الأمل ، لكنها تجهل أن الحظ يضادها إلى أجل غير مسمى ، وترف في نفسها خواطر الشوق دافئة مستنيرة رغم كل شيء ، فكل شيء في نظرها يهون في سبيل الحسين ، وإن يكن ، فمصارع العشاق في أعين العشاق حل يحسم العذابات .. ويلتقي القلبان على حزن .. آسيا.. غصن زيتون ، والطالب فتاها المرابض خلف الحدود.. تشتعل اشتعال الزيت في مشكاته .. والحسين يلبس الظلام نحو النور في آخر النفق .. ما أقسى أن يسافر المحب في الخلوة .. ويقيم في الجلوة.. دون أن يفتضح ديدن هجرته وعشقه ، تناديه " قمري " .. ولكنه يفعل من أجلها ما يعجز عنه القمر وتنوء به الكواكب، يناديها " غزالتي " .. وهي الغزالة المسجاة على شوك المخاوف والفزع ، ولا مراء أن الغزالة تفعل من أجله ما تكل عنه الغزلان وتحار فيه الشموس والأقمار، تتحجج بالحجج وترتب للحظة اللقيا ، ويصل الحسين .. منهكا مقهورا .. يعلو وجهه اصفرار قاتم ، ويظهر على عينيه ذبول أوراق تحتضر ، كما لو أن الأسقام تعشش داخله بحر التباريح، وتبيض بداء الجوى ، ورغم ذلك يتولد من منظر الاضمحلال العام على هيئته إحساس ساطع بوحي الحب وحس الحياة ، كانت غزالته تستقرئ ذلك الفتيل الذهبي للمقاومة والإصرار من نظرته الباسلة ، وتهمس شبه باكية " واخا دابا راك عيان .." ، يهز كتفيه كناية على أن الأمر هين ، ولكنه ليس بهين ، يقول لها " غادي نروح ونجي ليك حتى يفتحوا الحدادة " ، تبتسم رغم بقاء الخوف يرين على محياها تحت نور القمر الوحيد فوقهما ، أما هو فيطمئنها رغم الفزع الضارب بين جنبيه ، ذلك الفزع الذي يعتري العابرين في مسالك تفضي إلى اللانهاية أو يقود إلى المنطقة المزيج بين الوهم وضياع الاتجاه ، يحملهم قلق الافتضاح وينتفض بهما انتفاضة ذراع الأخطبوط في اليم ، يتوزعان.. يتبعثران .. يتخبطان من الغرق، ثم يعود كل واحد على النقطة الآمنة في يد رفيقه.. إلى الحضن الذي فاجئه من تحته خسف القلق الشديد .. ولم يكن الأمر بحاجة إلى بوح واعتراف .. إن كان أحدهما أو كلاهما يبطن الخوف على الآخر ولا يظهره، فإن ثاني اثنين يقول لعاشقه حديث الأمان.. فالسر كلام خفي جلي .. وما يسر به أجل وأخفى .. الخوف من غد ، أومن نذير الموت الذي يتربص بالعاشق في الغسق ، بل من فضيحة فذبح يترصدان الغزالة في القرية المنسية ، كانت آسيا طيلة انتظار الحسين تموت وتحيا ، وإلى غاية التأكد من عودته سالما تحيا وتموت من القلق.. وخلال الهزيع المتاح لخلوة العاشقين يمرق خطر الموت بين عيون الحسين فيتشبث بمعشوقته، ولكنه يدرك أن الموت المتربص كثيرا ما أخطأه ، وكأن في الأمر تواطئا بين الحي والموت ، ويسعفه اليقين آخر الفكرة أن الموت إذا أخطأه طوال إيلافه رحلة الأخطار فإنه سيمهله قليلا ، على اعتبار أن الموت هو الحفرة التي لا مناص لأحد من الوقوع فيها ، وتتراءى له ذكريات اليسر في الوصول إليها حلما متجددا يحمله بقلبه في النوم واليقضة ، تلك الأيام الجميلة كان الوصول فيها إلى وجه الحبيبة سهلا ميسرا ، لا تحول دون حدوثه حوائل اليوم ، فقد كان الخروج إلى المملكة هجرة باهية تتخطف صبابته بين الحدود جهرا دون خفية ، وقانونيا دون زيغ أو مروق ، حتى التسلل أوقات الحدود المفتوحة فيما خلا كان قليل الخطورة على من خبر الشعاب وخطوط القفار، وما أكثر ما عابت عليه نفسه في العهد الجديد تجشم المشاق بعذر العشق ورؤية المحبوب .. ويصغي على كره للوم نفسه وسخطها على مجازفاته .." كفى بك غراما وانتبه لعمرك ينفرط عقده في انتظار أمنية لا بوادر على حصولها ولا نبأ .. إنك تنتظر الذي لا يأتي." فيثور قلبه بالحزن غب رحلة الدروب الوعرة، بعد أن نجح في تضليل صفين من القوة العسكرية ، ويبرك في فناء البيت بروك الجمل اللغوب ، حزين يغلبه الهوى .. فالحزن قهار إذا سكن قلبا موتورا بالعشق والتيم .. تجد الغزالة الآن تتقلب بواصب العذاب على فراشها هما وغما بالذي قد يحدث في أوبة الحسين ، ولكنه نجا من تفطن العسكر ككل مرة ، وقد لا ينجو في قادم الأيام ، عاد مثلما تعود العودة منكسا حذرا لا طاقة له .. سوى طاقة الوجد والصبابة من وصال غزالته ، ولم يفلح التصبر وكضم شكواه في تجريد وجهه من ملامح الإنهاك أو في غلق صنبور مياه الأفكار القلقة والسيئة من السيلان على خاطره بشتى القذارات الوجدانية، وانبثق عارض شبيه بالجنون في نفسه بإصرار ، فبدأ يتخيل أن ساحرا في الجبل علمه عزيمة يتلوها كلما أراد المرور بين الحدود فيعقب العقبة دون أن يشعر به أحد، وينتفي بذلك من روعه رعب المسيرة إلى الأبد ، ثم تخيل أن الساحر رق لحاله فوهبه طاقية إخفاء تحصنه من نظر الإنس وتذهب به للقاء فتاته بقلب دارها في طرفة عين ، ثم أعرض عن سخف خيالاته وتمنى أن يا ليته كان حمارا يخترق الحدود بكل حرية و لا مخلوق يمنعه ، وفي الغداة استيقظ فارغا من أضغاث أمسه وأباطيل تخمينه ، وقد برقت في عقله فكرة الاتصال لطمأنة آسيا بوسيلة لم يكن ليبتدعها لولا الحاجة المتلظية في تحصيل رغبته بها ، وأشعل سيجارة ثم مج منها مجة عميقة النفس وهو يراجع فكرته ، أو إلهام اختراعه للبريد الجديد بينهما ، ليس الحمام الزاجل ولا ساعي البريد ولا الانترنت التي لم تسمع بها القرية بعد ، ولا رسائل الجوال التي خرب المخربون شبكته في هذه القرى المنسية، بل هو شيء آخر مضحك محزن بالغ الأهمية والسخرية ، أسكن مرة أخرى نفسا عميقا ملء رئتيه واستنثر الدخان ببطء من شغله التركيز العميق ، فارتسم نثار الدخان في الهواء غمامتين ثارتا من أنفه ثم اندمجتا فوق مجلسه خيطا إثر خيط ، وبعد أن تخمرت الفكرة واستوت في رأسه انطلق إلى صديق أمين له من تجار البنزين المهرب فوق البغال والحمير ، وحدثه بما أنتجه فكره من فتح سديد ، وتقتضي الفكرة أن يتراسل الرسائل مع آسيا كل يوم عبر ظهور الحمير ، فيتحرى رحلة البغال والبهائم من صديقه ويزج تحت إكاف الحمار الموكل بتهريب سلعة ذلك اليوم ظرفا يحمل خبر ما يود إخبار آسيا به، أو يطمئنها بوصوله إلى وطنه بعد عودته من عندها من خلال رسالة تصلها في اليوم الذي يلي لقائهما ، على أن تصل إلى الحمار وتنتزع الرسالة من بين صفائح البنزين قبل وصول الرجل الموكل بتلقيه ، و يصف لها فيها بهيمة الغد ونوعها وجنسها وساعة وصولها ، ثم اتفق مع صديقه التاجر على معرفة تحركات التجار الليلية ووجهة البهائم ولكنه تفطن لوجوب إعلام آسيا بخطته حتى تعرف أي الحمير يحمل رسالته إليها وعقد العزم على الرحيل ليلا، ولكن التاجر تفرس التعب الغالب على الحسين وأنذره بقصور طاقته على تكرار الرحلة ثم عرض عليه أن يذهب مكانه لإبلاغها بخطته ، ولم يكن الأمر تكرما بقدر ما كان تصادفا لمشوار تنقل التاجر سرا إلى المملكة لبعض شؤونه ، ولما استقر أمر الحسين على رأي صديقه التاجر قال له اذهب مرتديا قميصي هذا حتى إذا جئت الشجرة القريبة من جدار القرية الغربي قف وامنح ظهرك للقادم حتى إذا رأتك ضنت بقدومي، فأقرئها السلام وأنبئها بنجاتي ثم أترك رسالة سأكتبها وضعها على الأرض وانصرف على عجلة من أمرك ، ولما دجى الليل انبثق طيف آسيا علها تجد من أمر حبيبها خبرا يحسم لوعة انتظارها، فتسربت في سكون الظلام جريا على العادة مندلعة بالشوق ولهفة العلم بما فعل الحبيب ، وماهي ساعات حتى شمت رائحته، ورأت شبحا يوليها ظهره، وما إن بلغته حتى حدثها التاجر أن لا تخافي يا أختي، أنا رسول الحسين إليك أن لا تجزعي من خبره، فإنه سليم ما به بأس ولا مكروه ، وهذا قميصه على ظهري بينة على صدق ما أسوقه لك من حديثه ، إنه يقرئك السلام وأوصاني أن أعطيك رسالته فخذيها من فوق الأرض بعد انصرافي وعجلي بعودتك ، ولما أتم الحديث وأدى الأمانة، مضى مسرعا إلى القرية وهي في إثره لاهثة ، مبهورة ، سعيدة ، خائفة ، غير مصدقة لولا الرسالة في يمينها ، وفضتها باضطراب ، و على عجل حمامة للماء البارد بعد حر العطش راحت تقرأ رسالة الحسين التي قطعت الحدود على ظهر حمار آمنه الله من خوف المسير.. وكانت والحق بلسما ومداويا، ولما أتمت آسيا الرسالة كلها وأعادت قراءتها واطمأنت على عودة رجلها وفهمت توجيهات التراسل وترتيبات التلاقي وما يليها من إخطارات الوصول وما إليه، قامت في اليوم الموعود تتجهز لانتظاره وفق ما حدد الحسين من وقت وصوله ، وبعد الغد ليلا بعد موعدهما رجعت برسالة الحسين من بين حمير التهريب فاطمأنت وبكت لبعد الشقة ومرارة العيش عذابا بالحب ، وأوجعها ما يلاقيه الحسين في سبيلها وعادت تقرأ بعض رسالته الثانية ..
" وا آسيتاه .. سأعيشك يوما .. لأعرف نفسي .. فما أقصر عمر الحياة ، أعلم أنك تقرئين الآن رسالتي بذات الحب الذي تقرئين به عيوني .. ذلك الحب الذي أسائله في طريقي إليك أن يا أيها الحب.. أرجعني إلى نفسي .. فأسير نحوك طلبا للوصول إلي .. عذرا على رائحة الرسالة المشبعة بالمازوت وعرق الحمير.. فعمق العزاء يا امرأتي كامن تحت إكاف الحمار حيث تنحمل حروف العاشق التي لا تحتمل، والذي خلق الدواب .. لو كانت الأوراق تحمل معها حقيقة اللهب من ذوي المحن العاطفية لانفجر ظهر الحمار من وقيد الرسالة لا من صفيحة المازوت .. لكن قد يستطيع الحمار أن يحمل أسفارا، ولن تعجزه كل القوى العسكرية أن يدب إلى حيث وجهه تاجر البنزين ، لكن أتقوى الحمير البشرية التي تحول بيننا على إطفاء اللهب الذي تصنعه رسالة واحدة ؟ "
وما هو إلا أسبوع حتى التقيا كمرج البحرين.. وامتزج الماء بالماء والروح بالروح والقلب بالقلب ثم آن للاثنين أن ينفصلا.. جسدين لا روحين .. لتنساق على عادتها المخاوف إلى آسيا من رحلة العودة الخطيرة في انتظار بريد الطمأنينة، لكن الحمير تغدو وتروح ولا شيء على ظهورها سوى المازوت .. يضيق صدر العاشقة ويتسع زمن الانتظار..لا خبر يصل فيستطيل قلقها، وتنتظر أن يرد إليها خبر الحبيب على ظهر الحمير.. ينام الناس نوم الهانئ وفي الليل امرأة تفتش للحمير ظهورها .. والليل ليل .. ترابط في قلب العسر وتنتظر ، حتى يرد حمارهما المعهود.. يا بشرى.. ويصل جواب الحسين إليها وصول الغيث على نخلة واقفة رغم الجفاف وظلمة الصحراء والليل..
" مساءك صبر إن كان الوقت مساء .. وصباحك سلوان إذا كان الصبح صبح يا لحمة قلبي..
لا يتعلق الأمر هنا بتعزية ..أنا حي أرزق، فالحياة رزق رغم الرصاص الذي أقعدني عن موعدي.. بل الأمر يقوم على حياة تعيسة فجأة وعهد جديد من المآسي ..أنا حي يا حياتي.. حي ..صبرا جميلا .. صبرا .. فالرصاصة لم تقتلني .. أحبك ..."
لم تقو على مواصلة القراءة داعية ربها ذالك الصبر الذي يحتاجه الناس عند الصدمة الأولى حتى يثبت القلب والعقل أمام هول المصاب، ثم حوقلت واستغفرت لتعود لمواصلة الرسالة بكل شجاعة... " حبيبتي آسيا..إذا انقضت لدغة الحب لا تجزعي .. فالطائر الحر لا يتخبط إذا قبض عليه القابضون على قول الحكائين في بلدي.. ومن قال أن الأمان يخلد في طريقي؟ أوفي طريقك ؟.. أو في طريق أحد من الناس ؟؟ .. لكن مقادير الله بيده وحده .. فبعد موعدنا الأخير عدت على عادتي ..أقاوم الظلام والعسس ، وفي تأملي لهاته الحالة الاجتماعية التي نرزح تحتها بلا حل يلوح في الأفق، غرد الرصاص، انبطحت أرضا بعفوية وهلع سريعين ، كان الصوت قريبا جدا قرب السيارة المسرعة على بعد مسافة قصيرة مني ، ومرت سيارة أخرى وأخرى .. والمطاردة حامية حمي الرصاص، شعرت بكل نيترونات خلاياي تتسابق في مسار وحيد يشعلني ألما وبرودة ، وقبل أن يغيب عن بصري منظر السيارات الجنونية أدركت شأن الاختراق واللسعة فزحفت على بطني وانتبهت للدم المنبجس على فخذي ، حارا ونقيضا لدماء الجناة الذين يسارعون في القتل بدم بارد..عمدا كان الأمر، أو برصاصة طائشة تؤول إلى عظم رقيق ، شعرت بتاريخ أسلافنا ينصهر في جغرافيا الحدود المفتوحة على الألم الأخرس والموصدة على قلوبنا ، زحفت وقمت أعرج خائفا ، جريت رغم الوجع جري الأعرج بين القفار ، وبعد ساعات انغماري في مطبات المسلك.. بان الوطن بلا لون .. فصحت من الألم صارخا صرخة الكسير " يا الله .. أغثني... "
ضلت بغال العشق ودوابها تغدو وتروح بين البلدين، وبين آسيا والحسين القعيد تتبادل العذابات ، وصار سرهما في يد التاجر الأمين لما تطوع لتبليغ الرسائل بينهما بتلقي وتعهد حمير العاشقين الموتورين ، ولم يكن الحسين ساخطا رغم كل شيء .. كان يقاوم عمق جرحه بحب عميق، ويتصبر كلما تصفح السطور الأخيرة من آخر رسالة كتبتها إليه..
" إنك الآن خلف خندق الأقدار .. أتخيلك واقفا ثابتا كجبل أحد.. ممتدا بقامتك الفارعة ونظرتك الشاسعة لما بيننا والمليئة بحبك إياي.. لا أجد سبيلا يقفز بي نحوك فوق الهوة العملاقة التي تحجزك عني .. يا حسيني .. أنا على شفا جرف من الانتظار المعبأ بألف حقنة من العجز والشلل.. أرى النقطة المرجوة خلف الحدود ولا أقوى على تحريك ساكن.. وإني أتحول مثلك إلى جسد قعيد لا يمنع قاطرة البعد والغياب عن رحلتها.. لم يترك لي الزمن فرصة لأخبر معنى الترسل في عشقك بالحب الحضوري قبل أن أموت ، أو أن تنعى الحمير إلي موتك دون أن أفوز بسرير يجمعني بك .. ويا ليتني كنت، والرصاصة المشؤومة تستقر في فخذك، أتوجع معك يدا بيد .. ليتني وإياك شفة في شفة تمحي باتحادهما الحدود.. وياليتني كنت طائرا يطير بجناحيه فوق الحدود فألقاك .. لكن ما بيننا خندق لا يقطعه قاطع بعدك.. وأنا امرأة بجناح مهيض.." .
ويذهب وقت ويجيء وقت، ويحل الصيف خاليا من حره منذ أن اضطربت بين السماء والأرض قوانين المناخ ، ولبس الجو لبوس فصل خامس يخلط حالة الأجواء بعضها ببعض ، من كان يقول أن الناس سترتدي المعاطف في عز الظهيرة الصيفية ؟، ونيسان يوشك أن يندف بالثلج على الجبال التي نصبت على خاصرة المناطق الحدودية، كان البرد القارص حادا يقطع العظام قطع الشفرة، وكلما انتظر الحسين انحسار موجة البرد إلا واكفهر الجو وازدادت برودته ، ويلوح لناظريه الغد خلوا من الأشياء ، وجامدا على وضع قديم ، فيقول كلما تأمل جرحه قول الحاسد التعيس " ألا ما أسعد البهائم .. وسحقا للإنسان الذي ينشد عون الحمار.. أو ليست الحمير أنصاري؟ عصبتي .. وعشيرتي في بذل الوصال؟.. أو ليست تضامني الصامد المكابد في الوحدة بين قلبين ؟ رسول عاطفتي المكابر من أجل إنسانية الجحيم ؟ " وأيقن الدور الإنساني الذي تلعبه هذه الدواب التي تحضا من الإنسان بالتجاهل والاستخفاف وهي القادرة على سد ثغرة البعد، كجسر الهوة بين الشعوب وإغاثة الجياع من أسر التجار المرابطين في الأقاصي والثغور، على ما في ذلك من خطورة الضرر وخطيئة الاضطرار، حتى التاجر الأمين بينهما كان يزدهي بحميره ويتخذ موقفا روحيا تجاه غدوها ورواحها ، وكثيرا ما ردد أمام الحسين قبل إصابته، كلمات استنفاره بغلته قائلا بترتيل أهل الأندلس " لله درك من بغلة فوقها دفئ الفقير .. يا بغلة فوقها زيت أرغفتي .. وخبز ذريتي " فيرد عليه الحسين مرحا وتعاضدا " أنعم بها من بغلة فوقها خبز الفؤاد.. سيري يا جزري.. وبريد قلبي .. فلتسيري على بركة من الله وتيسيره حفظا من عين كل رقيب .. سيري باسم الله مجراك أيتها الدواب المحملة بي .. وبالقوت الشاق .. وبمر ما بيننا من آلام قيمة.."
وفي ليلة البرد الصيفية تعود آسيا باردة وفي قلبها تسطع الشمس مدفئة روحها برسالة الحسين المطولة، وترجع إلى المقطع الذي أحرق قلبها رغم الزمهرير...
" يحملني غراب اليأس عنوة نحو صحراء الانتظار ثم يذبني عن جناحه.. يقذفني نقطة في الفراغ فلا أرى في المكان سواي .. رمل يمتد وشمس ترتدي أفق السماء.. خط رفيع يتبرزخ بين السماء والأرض لا لون له.. ذلك أن الصحراء لا تلتقي مع الأفق إلا إذا بلغت الخط وحيدا.. على النقطة الفريدة أن تسير لا شأن عليها.. ناقة هائمة .. أو أفعوان يزحف في ضلال .. على هذه الأرض يمتلأ رأسك بهوس البحث عن نهاية أو عن مفتاح للمصير، تتحرك داخل ذاتك النوازع الشريرة .. ستحدث نفسك في كل ثانية بكل ماهو لا إنساني وخطير في حق كل شيء.. تلدغك النوايا السيئة وتجرك للأذية، ولتحطيم رأسك دون روية أو تمهل، سرعان ما ينبعث من عمقك صوت داخلي يمنعك من كل فكرة لا خير فيها .." إنك مريض.. وعليك أن تقاوم بهوادة وجرأة مضاعفتين كل ما يحاربك على هذه الأرض المجهولة " ولا شيء يجد .. من هنا تمر الريح مر السحاب .. وها إنني هائم في المسافة بين بعدين .. لم يكن لشعاب الرمل من منتهى .. ولا للسماء من حدود.. منذ أن رماني الغراب ذات غداة كحبة من خردل في صحراء الانتظار الخاوية وأنا أنتظر، أترقب الخلاص من لعبة البقاء رهينة لما سيكون ، في قلب الشساعة بين السماء والأرض أغرس أقدامي في التيه وأنتصب نحو الله مشرئب الروح للذي يصنع الأقدار .. عيل صبري .. وانقضيت كبئر نزح من مائه.. كثور يستطيل به الخوار الأخير دون انفلات الروح بعد نحره..كان الرمل يتحول حول قدمي حجارة صماء تعصر كاحلي، ويزداد عنقي امتدادا نحو الله ..يتفتت الصخر من حولي وأغوص في ذرات الرمل المتحرك.. لم يكن لنظرتي البلهاء الجامدة نحو الأعلى أي مدلول ينبأ ببعض الذي قد يحدث ، إن كان هناك شيء بالإمكان أن يقطع بحدوثه أمر إنسان يتصبر بالأماني وطول الأمل حتى يهلك دونها .. تتحول أقاليم الرمل والفراغ إلى زنزانة انتظار دائم دون بلوغ جديد، لا من يسمع أنينك ويرعى جراحك إلا الصدى .. كانت كثبان اليأس على أهبة التحول واستبدال بعضها بأماكن بعض بفعل رياح الترقب الحارقة .. والشيء الوحيد الذي أعرفه أني جئت إلى هذه الصحراء بقدر الناقة المأمورة بالصبر وسحق الآمال على الرمال.. وجهي باسق بين طلع المقادير وروحي هائمة في مستعمرة الفراغ، ويزيد من بأس المصيبة أنك معي في صحراء الشوق لا طاقة لك في الوصول إلي، وأقول يا ليتها ولدت حيث أقيم ، أو يا ليتني كنت جارا لها خلف الحدود المغلقة الخالية المقفرة، ويا ليتني هبة ريح تعبر الحدود الوعرة الموقوتة .. المرعبة.. السادة المسدودة.. ويا ليت وليت وليت .. وإذ أتحسر فعلى طيفك الذي لا يستأهل أن يزجه الحب في محنة لا تطاق ، آه وإذ أتلوع .. فكل اللوعة على قلبك الذي أدخله وارد الغرام في لجة شديدة متلاطمة ، وأنا يا حبيبتي رجل سيان عنده استعلى مقام الحب أو استسفل ، فالبحر علي ولا أراك تتجرعين الهم يوما بعد يوم ، لا أريد لك معشار ما ألقاه من الغيظ والقنوط وغرغرينا الأمل المديد ، ولو أدركني البرء العاجل من جرحي سأكون سعيدا حتى لا تري جثتي الحية لئلا ينفطر قلبك لمنظر رجل أقعده الحزن على ما فات .. أكبه الهم على ما هو آت.. فمن أتعس من قعيد مكب على همه .. وقد تحلل من وعوده .. فترك الغزال وحيدا قرب شجرة العجز دون أن يرعاه بعشب الحب وماء الزوجية مثل أول العهد.. من أتعس من قعيد حارب الأمكنة في البدء ثم نقض العهود برصاصة طائشة حالت دون الوفاء بالمواثيق ؟.. وإنني يا امرأة البعد أقترب وتبتعدين ، والحدود تردني إليك من دونك .. فآخذ بحظي من البلاء، وأشرب من الشقاء شربا معلوما لا بد منه، أما أنت .. يا أنت .. إذا حم الردى ، فقولي حسبي الله ."
وجاءت سكرة الموت لا تحيد عن موعدها بعد خريف واحد من ذلك الحب العجيب ، ليس عمر ما بينهما من رابطة عجيبة ، بل حب البعد وقهر الرصاص وحريق الترقب، لم يكن الحسين يعلم أن الخطاب الذي سلمه لتاجر البنزين سيكون آخر ما سيصلها منه قبل ساعة الراحة من إنسانية تصارع في وجودية متعبة ، فقد ماتت آسيا تقاوم بعد رسالة الحسين ظلمة البعد وهي لا تعلم أن الحبيب يوشك أن يقوم من مقام الضر، وقطعت روحها طريق الفيض نحو بارئها بيسر وبلا حدود ، ولما نعاه التاجر موتها المفاجئ والغرائبي بكى صامتا ، ثم انبثق من كنف الصبر هائما بين البلدين وشاع في الناس خبر اختفائه ، ثم عثر التاجر يوما فوق ظهر أحد الحمير على رسالة بخط الحسين آثر التاجر أن يحتفظ بسرها لنفسه، سوى ما كان من السطور التي يدل فيها الحسين على قبره، وقد قيل والعهدة على التاجر أن القبر يقع على خارطة التماس بين عينين في وجه وطن كبير حفرته الحدود.