الطابق السابع.!
راحتي مستكينة بين كفيها مثل طائر يهدأ من رحلة سفر طويلة..
- لو أنني التقيتها قبل ربع قرن..
حدّثت نفسي، فجاءني همسها كحفيف أوراق الشجر..
- ومن أدراك أن ذلك يرضيني..
واندلقت الكلمات من بين شفتيها مثل انسفاح قارورة عطر..
قفز قلبي من صدري، وركض خلفها خطوتين ثم عاد يسخر مني.. تلحقه كلماتها العذبة:
- مكتبي أول غرفة إلى يسار الدهليز العريض.. أتطلّع لتزورني في أي وقت..
لم أقو على الصمود أكثر وأنا أحدّق بجنة عينيها الخضراوين المطلتين بذبول من بين خصلات شعرها المنسكبة بفوضى على جبينها وأطراف وجهها، لتستقر باطمئنان على كتفيها..
هل كانت تغمز إلى موعد وهي تطلق مع كلماتها المقتضبة ابتسامة اشتعلت مثل سهم ناريّ أذهلني وميضه الخاطف لحظة، ثم اختفى.؟
أفلتت يدي الساخنة، انفلتت.. ومضت..
تراءت لي ثنيات جسدها تتلوّى كحيّة استوائية داخل قماش بنطالها البحري، تنزلق موجة إثر موجة لتصل بسكون إلى شاطئ رملي، تقبّله، تلمسه برقّة، ثم تنفضّ عنه، تنسحب برفق كما تنسحب يدي المعروقة من راحتيها..
تجاهلت المصعد، وأخذني الدرج اللولبي..
ما الفارق بيني وبين الأستاذ "حاتم" مسؤول الصفحة الثقافية.؟
ها أنا ذا الآن أجترّ خيبتي، كما يجترّ بذاءته..
تقتحمني رغبات مراهقة، تقتلعني من وقاري، وتحرضني على سلوك درب خطيئة كنت أرفضها بأشكالها وصورها المختلفة، وكتبت عنها الكثير، وأعملت فيها فلسفتي ونقدي..
حاربتها قديماً وشرحّتها على مئات من الصفحات الورقية، اعتلت أكوامها المكدّسة في أدراج مكتبي صفرة باهتة، وانبعثت منها رائحة رطوبة فجّة..
أضحت مشروعة، في لحظة حمراء التهبت أمام جموحي وراء لحظة كنت أحسبها إن قفزت من صدر غيري.. سخيفة، بل ومزرية..
هل تراني أقترب من ثمني.؟
أليس لكل رجل ثمن.؟
قول لأحد الحكماء العظماء، أو أحد المخمورين، لم أعد أذكر.!
ألهث وراء جمال صاعق..
أتجاوز سنوات عمري الكثيرة.. أشعر أن لهفة انشداد مستعرة تعيدني إلى الوراء سنوات وسنوات، وتحط بي على شفا رغبة متوقّدة..
- البنات يكبرن بسرعة لا تصدق..
جملة ردّدتها جدّتي في مناسبات كثيرة..
فهل أصدّق أن من تقف أمامي الآن هي تلك الفتاة النحيلة ابنة صديق لي من بعيد..
عرفتها عندما كانت صغيرة، وبدأت أراقبها في زياراتي القليلة تكبر أكثر وأكثر.. أذكر ضفائرها الشقراء، مجدولة في شريطة حمراء.. ترتدي مريلة المدرسة، وكلسات بيضاء طويلة، وتحمل بين يديها محفظة جلدية سوداء عليها صور كثيرة لمطربين وممثلين ورياضيين شباب..
دخلت علينا يوم عرفتها لأول مرة، فجأة، وأطلقت من بين ثنيات لهاثها طلباً لا تشفعه حجّة بحاجتها إلى عشرة ليرات.. تناولتها بسرعة، وانطلقت تقفز فتنحسر مريلتها الزرقاء عن ساقين كقوائم الماعز..
تذكّرتني ولم أتذكّرها، قالت أنها لا تنسى أشكال وجوه أصدقاء أبيها..
واعتلت وجنتاها حمرة شديدة..
* * * * *جمعتني مقاعد الدراسة أنا وحاتم أربع سنوات، هي مرحلة دراستنا الإعدادية، في مدرسة فقيرة، تحتل بيتاً من بيوت دمشق القديمة في حي شعبي، مستقرّة في نهاية حارة ليس لها منفذ، ولا تدخلها غير طنابر موزعي المازوت، وحمير الباعة الجوّالين..
كنا نتنافس على الفوز بجائزة مدرّس اللغة العربية، كتاب أو قلم أو دفتر، يقدمّها من ماله الخاص لمن يتفوّق في كتابة موضوع الإنشاء العربي، وكنت أحصدها جميعاً..
يدخل إلى الصف ويكتب على اللوح جملة واحدة.. الموضوع: أكتب ما تشاء..
بعد ذلك أصبحت كاتباً وصحفيّاً أكتب ما يشاؤون..
وأخذني الأمر إلى صيرورة قدرية، فقد أصبحت الكتابة وحدها باب رزقي الضيّق.. وأضحى التسكع بين مكاتب الصحف والمجلاّت ديدني، واسترضاء الممسكين بقدر الثقافة والناشرين هاجسي..
صدفة جمعتني به في مقهى شعبي أرتاده حين تدعوني الرغبة للاقتراب من هموم الناس، أراقبهم كيف يطوون همومهم وفقرهم تحت حجارة الطاولات وبين أوراق اللعب الملونة، ويعلنون لا مبالاتهم..
تعانقنا بحرارة، وتبادلنا الكلام الذي لا ينتهي عن الذكريات وأيام الصبا..
قال وهو ينفض كتفيه زهوّاً:
إنه المسؤول عن الصفحة الثقافية في مجلّة أسبوعية قطاع عام.. وأردف من بين أسنانه:
- أعتقد أنك ما زلت تكتب.؟
- إنها مهنتي..
أجبت وأنا أدفع بين كلماتي لهفتي بأن يعرض علي أنا صديقه القديم النشر في مجلّته.. وقد حصل ما توقعته..
في صباح اليوم التالي كنت أقف على باب مكتبه.. أحمل تحت إبطي مقالاً معقولاً رصيناً حرصت على كتابته ومراجعته باهتمام..
مكتب وثير، وسجاّدة خضراء، طقم كراسي خمس نجوم، وثلاثة أجهزة هاتف وكمبيوتر وفاكس وتلكس، ومكيّف، وفنجان قهوة مرّة احتسيته قبل أن أجلس..
ذكرّني وجه مدير مكتبه النحيل وذقنه العريضة، وشاربه الكثّ بأبي كايد آذن مدرستنا القديمة، وكيف استطاع صديقي حاتم منذ ذلك الزمن البعيد شراءه بثمن بخس، عشرة قروش فقط، يتناسى في سبيلها أمر باب المدرسة، ويتغاضى عن خروجه من حرمها إذا اشترى من بسطته شطيرة فلافل.. ليس في رغيفها الممسوخ غير الفلافل، والبقدونس والملح..
ولولا يقيني أن "أبا كايد" مات منذ زمن لقلت أنه هو..
تجاهلت الأمر، وعبرت إلى طموحي..
بعد أيام قليلة، وجدت مقالي على موقع ساطع في الصفحة الثقافية، متوّجاً باسمي الكامل، فغمرتني سعادة حقيقية.. وحرضتني فرصة النشر تلك على مضاعفة جهودي في الكتابة..
شهران، ثلاثة، ضلّت كتاباتي طريقها ولم ينشر منها حرف واحد، وكلما راجعت في الأمر تقابلني أعذار شتى..
فقدت المادّة، أو أن المجلة نشرت مقالاً مماثلاً، أو أن القارئ المقرر لصلاحية ما أكتب ويكتبون تأخر في بيان موافقته القدرية على النصّ..
أكاد أنفجر من الغيظ وأنا أبحث في كل عدد جديد يصدر عن اسمي ولا أجده، ويزداد غيظي كلما قرأت اسم "مختار. م" .. الذي لا يخلو عدد من مقالة يكتبها.! وأحسّ بفيض من الحسد والحسرة في آن، أتساءل في سرّي..
من ذلك الشخص الألمعي الذي يمتلك هذه الغزارة، ويخترق اسمه وحظّه ذلك الجدار الذي لم أستطع التسلق عليه قيد أنملة..
* * * * *تحملني شجرة سنديان، أقبض بيدي الشابّة على فرع طري ولد الآن، فيرتفع بي عالياً، يزفّني إلى الطابق السابع ويحطّ بي على رواق شرفة، فأرى طيفها من وراء الزجاج..
بيدها مروحة كسولة تعبث نسيماتها برفق بين الفينة والفينة بجدائلها، فتنفضها بخيلاء..
تفرد شعرها الخروبي على كتفيها العاريين إلا من باقة ياسمين نزفت على جلدتها، فأزهرت..
تعبث أصابعها الممسكة بقلم أخضر بأوراق كثيرة مفرودة بفوضى على مكتب أنيق تجلس خلفه..
تنتبه إلى وجودي فتقف.!
يا إلهي..
باسقة مثل سنديانة تعيش في ذاكرتي، تهطل فوقي سحابات طلّ ، تقف شامخة في ركن ساحة جعلناها ملعباً "للرنّة"، أتظلّل تحت أغصانها الوارفة في ظهيرة يوم قائظ.. تناديني أمي وهي تجدّ الخطى، تحمل عروسة أشّم عن بعد رائحة زعتر وزيت تنضح منها.. فتهطل نسيمات باردة أفتح لها صدري، وأستكين..
كأنها تفعل كذلك الآن، تختصر ابتسامتها تلك السنوات الكثيرة التي تمتدّ بيننا.. أكاد أرسل يدي، وأضمّها إلى صدري.. أكاد أنسى خطوط شيبي، وآلام مفاصلي، وغزوات المرض المتعاقبة على صدري حيناً وعلى أحشائي حيناً آخر.. كأنني فتى العشرين، ينبض قلبي وجيباً متلاحقاً، وتلتمع عيناي كلما ومضت ثنية من تفاصيل جسدها الرائع..
هل أحببتها حقّاً.؟
أمسَكت يدي، قالت أنني ضالّتها.. الناضجون فقط يقدّرون قيمة الأشياء، ويجمعون في شخصهم الواحد مزايا نادرة.. ثم قادتني إلى نافذة غرفتها.. تدعوني لأكتشف المنظر..
صحون مجوّفة، تحتلّ أسطحة البيوت والبنايات، والدكاكين الخربة، والإسطبلات، كأنها أكف قبيلة من المتسولين، تمتّد صفوفاً متراصّة، على نسق واحد، وإلى جهة واحدة، تستجدي المعرفة من قمر فولاذي معلّق في مكان ما، يعلن بالصورة والصوت أنه قدر العالم الجديد.
نظرت إليها ببلاهة، فابتسمت، وكزّت على أسنانها فانطلقت من عينيها شهب ملوّنة..
* * * * *كنت على وشك ركوب المصعد نازلاً من الطابق السابع بعد مقابلة فاشلة مع صديقي حاتم مسؤول الصفحة الثقافية عندما تقابلنا. نظرت في وجهي نظرة طويلة، ثم أمسكت يدي:
- الأستاذ صلاح.؟
وقبل أن أجد فرصة لتأكيد ظنونها تابعت:
- لا أنسى أسماء ولا وجوه أصدقاء والدي رحمه الله..
شدّت على يدي، وأطلقت ضحكة رقيقة..
- هل تعلم أنني أتابع كتاباتك الرائعة.!
نظرت إلى أصابعي بدلال، وهمست:
- يا لهذه الأصابع الرقيقة.؟
وأرسلت من خضرة عينيها بريقاً أصاب مقتلاً في مجموعة مثل وقيم سامية عششت على مسار عمر طويل في نسيجي، عاشت في ممارساتي الصغيرة والكبيرة، رسمتها مثالية أسعى إليها..
أراها الآن على قدر من التفاهة..
كيف يمضي العمر رخيصاً فقيراً جافّاً ولا تأتيه فرصة مثل هذه، وعندما تأتي بهذا الدفق والعنفوان، ممتطية الأمواج، تكون السفينة قبالة الشاطئ الأخير..
هل أحببتها حقاً.؟
ويأخذني السؤال إلى وديان شاسعة واسعة تلجم بوحي، لا أجرؤ حتى إلى التحدث مع نفسي..
هل يمكن أن نلتقي، في شقّة بعيدة عن عيون الفضوليين.؟
أم هل يجمعنا مكان عام.؟ أبحث عنه في أقصى مكان يرتاده الناس، وأختار مقعداً في ركن قصي، أضع وجهي قبالة الفراغ، أو قبالة جذع شجرة ثخين، وتنتفض فرائصي كلما رفّ فوقنا طائر، أو عبرت من جانبنا ذبابة..
أشعر أنني أستبيح ما لا يحق لي، ورغم ذلك يأخذني غروري إلى نهاية الشوط. أسخر من قصائد العشق، وتضحكني قصص الهالكين في سبيله..
هي في متناول يدي، أنا الراشد، المجرّب.. حنكتني الحياة، ووضعت أمامي وتحت أصابعي فرصة لتجربة فحولتي أمام جسد فائر، وإرضاء غروري وذلك الشيطان النهم الذي يستطيع إن تمرّد وانطلق، تدمير كل شيء..
هل يقولون حبيبتي.؟ أم ابنتي.؟ يتغامزون، ويتهامسون.! تفرقع ضحكاتهم وهم يدركون أن هذا الهيكل المطحون، أصغر من صخب أنوثتها الصارخ..
هل أضمّها إلى صدري.؟ ألمس كتفيها وعنقها الرخامي براحتي اليابستين.؟
- لو أنني التقيتك قبل ربع قرن..؟
تمسح على كفيّ برفق، وتدعوني خضرة عينيها لافتراش الحلم، تهمس:
- الآن أفضل.. نشكّل فريقاً استثنائياً، نؤسس حباً من طراز فريد، لا تكبّله قيود، أعطيك وتعطيني حتى نصبح في العطاء سواء..
يا إلهي..
أنظر إلى نفسي ولا أصدّق..
هل أحبتّني حقاً.؟
وكيف تفعل وتردم تلك المساحة الأزلية بين الربيع والخريف.. هل تكفي براعة الكلمات التي يحملها شيطان الشعر إلى شفاه الأدباء للإيقاع بمثلها.؟
وهل تقتصر الحياة على كلمات أكثرها ترّهات شعراء، يقولون ما لا يفعلون، ويعلنون غير ما يخفون.؟
- أتذكر تلك الصحون المتسوّلة الجوفاء، هي دوائر تراها مكتملة أليس كذلك.؟ وتدرك دون أن تحزن أن قدر وجودها ونفعها مرتهن بكتلة فولاذية صمّاء ليس لها قلب، تقتل ببرود إن هي أرادت، وليس لإرادتها منازع..
اقتربت من وجهي، فحملتني موجات أنفاسها إلى ساحة بعيدة، رأيت صبيّاً يركض في أرجائها، يأخذه الجهد والتعب فيستلقي تحت سنديانة تهطل عليه نسيمات رطبة، تحمل مع ريحها روائح الخبز والزعتر.. فيستكين..
هَمَسَت:
- تعلّمت كيف أعثر على مفاتيح الأقفال وأجعلها طيّعة بين أصابعي. وكيف أخترق عصابة الأستاذ حاتم ومدير مكتبه.. نشكل فريقاً.. فتنتقل كتاباتك الرائعة المركونة على مكتبي "للحفظ" إلى صدر الصفحة الأولى..
دخلت حارة ضيّقة..
كان "أبو كايد" يقف بابتسامته الصفراء يمسك مقبض باب عتيق، ويحمل أرغفة ممسوخة، يحثّني على الاقتراب منه، أسنانه المتباعدة تطل من فرجة قبيحة تحت شاربه الكّث، كأنها فك مفترس يكاد يلتهم أصابعي..
في صبيحة اليوم التالي، صدر العدد الأسبوعي من المجلة قطاع عام.. رأيت عنواناً عريضاً لإحدى كتاباتي على الصفحة الثقافية، يزيّنه بخط واضح اسم "مختار. م"
كنت على وشك طلب المصعد ليحملني إلى الطابق السابع، رأيت صورتي مطبوعة على زجاج الباب الصقيل، تأملتها فرأيت فيها شخصاً آخر يسخر مني.. فابتسمت..
حملتني خطواتي الخائبة إلى خارج البناء..
رفعت رأسي فلم أر غير أشرطة متشابكة تتدلى بفوضى من قيعان الصحون المجوّفة، وتدخل في رؤوس الناس..
تغلق أسلاكها المتقاطعة تلك الفرجة الضيّقة التي يمكنني من خلالها وحدها رؤية شرفة غرفة ما زالت تحتل ركناً في الطابق السابع..
تفرّست في قامات الرجال والنساء ووجوههم، رأيتهم يحملون شطائر "أبو كايد".. ويشيرون بأصابعهم الغليظة نحوي ويتهامسون..
فضحكت ملء شدقيّ..
ثم كتمت صرخة صاعقة كادت تفلت مني..
عن موقع القصه السوريه
http://www.syrianstory.com/kanafany.htm#الطابق%20السابع.!