فحيــــحٌ على ورق
سوسن البرغوتي هل يجعل اليأس من حاملهِ المخادع محدثاً بليغاً، وهو في الحقيقة يرتدي أقنعة الزواحف القادرة على تغيير جلودها لتتظاهر بأنها ضحية؟!. وهي في واقع الأمر تنفث سمّها فيرتد إليها، وقد يقتلها قبل أن تصيب الآخرين بأذى الحمم المحمولة على كلمات منمقة، وتعابير مزخرفة تتماشى طرداً مع الحدث المصطنع.. ثم.. عندما تعييها الحيلة تخلع عنها القشور، وتصدر صوت الفحيح، طلقات متتالية تدوي في الفراغ تحاول أن تهشّم بعض معاقل ما تبقّى، فتتهشم على أبوابها مرايا خفية، تبتدع صنوفاً شهية لحفلة سرية، تقام على أنقاض آخرين لم يعد يعنيهم أمر تلك الحفلة، إلا أنهم تعلموا من مسيرة الحياة، أن أوراق الخريف الصفراء الهشّة المتساقطة، تختلق أساطير غريبة، وتصدقها، يختلط فيها الكذب بالنفاق، والمساحيق المزيّنة بالزعيق، ولا بد أن تتكسر تحت أقدام المارة، سرعان ما تندثر وتفنى..إن للطعنة التي وجهها بروتوس للقيصر معانيَ غير التي وصلتنا، لأنها لم تنل من جسد قيصر فقط، بل عملت على تقويض إمبراطورية ونظام ومسلك، وكانت الأخيرة بين طعنات المقربين للقيصر، شرّحت وهي تفتك بالجسد، قيمة الوفاء والنبل.
قالوا في الحكمة: لا تقل كل ما تعرف ولا تفصح عما تشعر به، ولكن عندما يأتي الإنكار لوجودك، لا بد أن تقول أنك هنا في هذا العالم، وأنك لست عدماً.. فالصمت عن الرد ليس ضعفاً ولا جبناً، ولكنه احترام للذات وللقيمة، أما من يملأ الأمكنة بالهرطقات، لن يسمع منها إلا دويّ انفجارات صوتية، وتعود الأفعى من جديد تنسج بأنيابها قصصاً أخرى بزاويا أخرى غريبة شاذة.
وريقات سوداء يابسة تترنح طرباً على وقع آلالام الآخرين، وتسعى لاقتحام حياتهم، لأنها تجد في ذلك السلوك ملاذاً آمناً لملامح قد تبدو بريئة، لكنها تهوي بُحفر الرذائل، وهي تتشدق زيفاً بالقيم الأخلاقية!. عجباً لتلك الأوراق، تُداس وتعلن إفلاسها وفناءها، لكنها تعود إلى الحياة زاحفة، تبحث من جديد على خفايا وهمية لتعتاش عليها.
الدنيا لم ولن تتغير، والحياة تستمر بالصالح والطالح، والشرير لا يبكي عذابات طفل، أو نزف وردة بيضاء ذوت على قارعة الأرصفة المزدحمة بتفاصيل ترهقنا يومياً، لكنه يفرح ويعيش على كم هموم وغمّ أصاب السالكين بذهول أو صدمة.. لا فرق، تزيد حماقته عناء محطة استوقفتنا عند تلك الحفلة، منبهرين بأضوائها.. ثم تنطفئ لتكشف عن عري البواطن، وتطفو على السطح تافهةً بلا جذور ولا أصول، تحتكم لرغبة التعالي والتملّك، فتصبح أسيرة أجواء وأمزجة عابرة.في لحظات يكون الكبرياء والترفع خطوة عن الأرض، والصمت أقوى لغة في العالم، وأبلغ من تلونات الوجوه، والبحات المصطنعة. فما وراء الخبر والحدث نرجسية مريضة من تراكمات الفشل، تعوضها بسموم تبثها وتكتوي بنارها، ثم تتلاشى كالسراب، وجوه ذابلة لا تعرف أن للحياة لوناً ومعنى، ملتحفة بخيلائها الواهي، تنتقل كالعدوى لتزرع الفرقة هنا والكره هناك، لتتربع ملكة على أسراب النحل وعلى بقايا مَن عافوا سيرة أوراق خريفية تتكرر على كل شجرة تلامسها، ثم تسقط وتسقط إلى الأسفل.
أما أنتِ يا آخر العواصم، فقد دكت حصونك زواحف تسطو على أحلامنا المبعثرة، وتظن أنها الغاية والمبتغى، لكنها لا تدرك أنها أضاعت في عتمة خباياها معنى الحياة الكريمة، لتبدو منقوصة، تتمايل حيناً عرجاء، وأحياناً بحالة فقدان توازن أحمق. والأفاعي يا سيدتي، لا تستطيع البقاء في الأعالي، بل تنتحر في الحضيض، بعد أن تستنفذ شهوتها الغرائزية، مهما تظاهرت بسلوك التحضّر، فمكانها الطبيعي الصحارى الجرداء، الخالية من ماء الروح اللازم للحياة، والبعيدة عن نبض القلوب، والشاردة من قيم أخلاقية.