حضارات منسية ...
في الجزيرة السورية
سلام مراد/ دمشقالجزيرة السورية هذه المنطقة المضيافة، آوتْ الإنسان الأول وحمته من قسوة الإقليم الجبلي في الشمال، ومن صرامة المناخ الصحراوي في الجنوب ، فانطلقت فيها روحه، وتفتحت مواهبه، فقام يعمل ويجدّ، وراح ينشئ ويبني. رأته أولا ً يخدش ترابها بعصاه، ويدس ّ فيه بذورا يستنبتها ليقتات بنتاجها، وشهدته يسوق أمامه حيوانا شدّت إليه قطعة من خشب أو من حديد تشقّها في عرض عشرة سنتيمترات ، ثم جاءَها جالسا فوق الجرار يقطر وراءَه أقراصا ً تحرثها في عرض عشرة أمتار. رعتْه وحدبتْ عليه لاجئا ً إلى كهف من كهوفها ، وبانيا ً كوخه من أغصان أشجارها ، ثم مشيدا ً مسكنه من حجارتها وترابها ، وهو الآن يقيمه بالحديد والأسمنت : لقد رافقت مراحل جهاده من العصر الحجري الأول إلى عصر اللاسلكي والأقمار الصناعية. وعبَر تلك الأحقاب المديدة ، الموغلة في ليل الماضي ، نشأت في أرض الجزيرة حضارات ، وقامت فيها دول ، دلت على هذه وعلى تلك الآثار الكثيرة المكتشفة في تلّ حَلَف ، والفخيرية، وشاغر بازار، وتل براك. على أن ما عرف من تاريخها وآثارها هو دون القليل، إذا قيس بما لم يعرف منه بعد .
السوباريون
إن أقدم الآثار التي وصلت إلينا ، ووردت فيها لفظة ( سوبارتو ) ، لوحات جغرافية قديمة جدا ً، عثر عليها في المكتبة الملكية لآشور بانيبال الآشوري، وهي في الأصل ترجع إلى العهد البابلي القديم؛ ويؤخذ منها أن علماء ما بين النهرين كانوا يقسمون عالمهم ، إذ ذاك، إلى أربعة أقسام : سومر وأكاد في الجنوب الشرقي
1- عيلام في الشمال الشرقي
2- عمورو، أو بلاد العموريين في الجنوب العربي
3- سوبارتو، أو بلاد السوباريين، في الشمال الغربي
وعلى هذا التقسيم تكون الجزيرة السورية جزءا من بلاد السوباريين .الحضارة السوبارية .
يقول فون أوبنها يم : ( إذا كان لا يستطاع الجزم فيما إذا كانت بلاد سوبارتو ، المتسعة الأرجاء ، تؤلف وحدة سياسية تامة ، من الثابت أنها كانت مهدا ً لمدنية ذات طابع خاص ، وكان لها آنذاك من الأهمية والخطر ما كان للحضارات القديمة التي نشأت في بابل، وفي مصر، وإن الآثار المكتشفة في ( تل حلف ، وفي جبلة البيضا ) ، دليل واضح على تلك الحضارة ذات الخصائص المستقلة ، في شمال ما بين النهرين).
ولا ريب أن العلاقات الوثيقة القائمة بين شمالي ما بين النهرين ، وجنوبها، جعلت حضارة كل منهما منفعلة بحضارة الآخر ، فكان ثمة تبادل عقلي وثقافي، على غرار التبادل التجاري الاقتصادي القائم بينهما.
ومجمل القول أن الأقاليم التي أطلقت عليها النصوص البابلية اسم (سوبارتو ) قامت فيها حضارة ( سوبارية ) خاصة، استمدت خصائصها ، ومميزاتها، من عبقريتها الذاتية .
ظهور الحثيين .
أقام السوباريون قرونا كثيرة يعملون ويبنون، فنمت زراعتهم ، واتسعت تجارتهم ، وازدهرت مدنهم. ثم حدث أن انحدرت من الشمال الغربي قبائل جديدة ، لم تكن لها صلة بتلك البلاد ، فاستقرت فوق هضبة آسيا الصغرى، في المنطقة المعروفة إذ ذاك باسم ( خطيّ ) . وما طال الأمر بهذا الشعب المحارب حتى استولى تدريجا ً على القسم الغربي من بلاد سوبارتو، وأطلق على رؤسائه لقب ( ملوك بلاد خطيّ ) .
كان هؤلاء القادمون من السلالة الهندو – أوربية ، والدولة التي أسسوها هنالك عرفت فيما بعد باسم دولة ( الحثيّين ). ولئن خفيت علينا أصول هؤلاء الحثيين، والبلاد التي قدموا منها ، فمن الثابت انهم كانوا آريين، ولغتهم وآثارهم دليل على ذلك .
ويشارف الألف الثالث قبل الميلاد على نهايته فإذا لهؤلاء القادمين جيش جرار مكنّهم من الاستيلاء على حلب، ومنطقتها .
ثم تتابعت فتوحاتهم ، فاندفعوا سنة ( 1870 ق . م ) في غزوة عاتية نحو الجنوب فبلغوا بابل . غير أتهم لم يستطيعوا البقاء طويلا ً في ما بين النهرين، وانكفئوا عنها عائدين إلى بلادهم الأصلية ، في آسيا الصغرى . وطبيعي أن يُكون اجتياح الحثيين المداهم لتلك البلاد، وعودتهم السريعة عنها ، وما رافق هذا المد والجزر من نهب وتدمير وقتل ، قد أوجد فيها فوضى واضطرابا ً كبيرين. فهبت أقوام ، ودخلت حلبة الصراع ، وكان من بينها عنصر آري آخر هبط من الشمال الشرقي ، وتمكن من تأسيس دولة في الجزيرة السورية، امتد سلطانها إلى الأقطار المجاورة ، وكانت قاعدتها مدينة ( فاشوكاني ) ، عند ينابيع الخابور. تلك هي دولة الميتانيين .
دولة الميتانيين .
استقر الميتانيون ، بعد غزوة الحثيين، في منطقة ينابيع الخابور. والراجح أنهم اتخذوا موقع ( فخيرية ) القريب من رأس العين الحالية ، عاصمة لهم . أما تل حلف المدينة السوبارية القديمة ، فكانت إذ ذاك خرابا ً. وفي رأي بعض المؤرخين أن سقوط تل حلف، ودمارها، وقعا إثر حملة قامت بها جيوش حمو رابي إلى تلك الأصقاع ، حوالي ( 1902 ق . م ) .
حلف بين الشمال السوري ومصر
كان توشراتا، وهو الملك الرابع بعد ساوشتار، أعظم ملوك ميتاني، وأبعدهم شهرة . وكان معاصرا لامينوفيس الرابع، من ملوك الأسرة الثامنة عشرة المصرية. وجدير بالذكر أنه منذ تأسيس الدولة الميتانية والصلات بينها وبين مصر تتحسن سنة بعد أخرى، بعد أن كانت في أول الأمر أقرب إلى الريبة والجفاء ، فقد أخذت الدولتان تشعران بوحدة مصالحهما ، وبكونهما حليفتين طبيعيتين في وجه الخطر الحثّي، الكامن في الشمال . وكثيرا ً ما أشار التاريخ إلى أطماع هؤلاء الحثيين، الرابطين فوق هضبة آسيا الصغرى، ينظرون بشَرَه إلى أقطار الشرق الأدنى ، منتظرين الفرصة المؤاتية للانقضاض عليها.
وقد ازدادت هذه الصلات رسوخا ً ومتانة في عهد توشراتا الميتاني، وحليفيه المصريين. وجاءَت الآثار المكتشفة في ( تل العمارنة ) مصر فجلت لنا الحلف القائم بين الدولتين، وما كان بين البلاطين من مراسلة نشطة، متصلة الحلقات. وعرفنا منها أيضا إن ثلاث أميرات ميتانيات صرن ملكات في طيبة ( عاصمة مصر القديمة ) ، وحملن تاج مصر. وإحداهن جيلوهيبا أخت توشراتا، صارت زوجة لامينوفيس الثالث ؛ والثانية تاتوهيبا، ابنته، وصارت زوجة لامينوفيس الثالث المذكور، ثم لامينوفيس الرابع من بعده .
ويذهب فون أوبنها يم إلى القول بأن الملكة نيفره تيتي ، زوجة توت عنخ آمون، ذات الشهرة الذائعة، كانت كذلك أميرة ميتانية، ويؤيد قوله بملامحها الآرية الواضحة .
إن الباحثين يشهدون لأمراء ميتاني ، ولرجال سياستها ، بالذكاء ، وصحة التفكير، وبعد النظر، والميل إلى العالم والفلسفة . ودليلهم الرسائل المطولة ، المتعددة الأغراض ، المرسلة إلى البلاط الفرعوني .
ازدادت قوة الدولة الآشورية في الجنوب ، وكثرت أطماعها التوسعية ، وظهر الجيش الآشوري في الميدان. ولم يترك الآشوريون الفرصة للحثيين ، فأسرعوا قبلهم إلى الزحف على ميتاني ، فاستولوا عليها، ودمروا ( فاشوكاني ) عاصمتها، وكان هذا بعد وفاة الملك ماتيوزا حوالي سنة ( 1350 ق . م ) .
لملم الميتانيون فلولهم ، بعد تلك الهزيمة الساحقة، وأقاموا لهم حكومة في مدينة تايدي ، إلى الشمال من عاصمتهم الأولى.
لكن هذه الحكومة الضعيفة ، المحاطة بالأعداء ، لم يكتب لها البقاء طويلا ً.
فقد أغار عليها ملك آشور عداد – نيرا ري الأول حوالي ( 1300 ق . م ) ، واستولى على عاصمتها تايدي ، ودمّرها .
وهكذا انقرضت دولة الميتانيين ، وغابت في ظلمات التاريخ .
الآراميون .
كان من نتائج انقراض الدولة الميتانية أن ازدادت المنافسة بين المصريين والحثيين والآشوريين، شدة وعنفا. لقد انتصر الآشوريون ، و أحرزوا ظفراً باهراً في فاشوكاني، وتايدي ؛ غير أنهم لم يستطيعوا تثبيت أقدامهم في شمال ما بين النهرين ، بسبب الحروب التي قامت بينهم وبين الحثيين ، وشعوب أخرى . وقد مهد هذا الاضطراب لظهور دولة آرامية في الجزيرة السورية .
يقول المؤرخون إن الآراميين الأصليين ، وكانوا من القبائل السيارة ، نشأوا في الجزيرة العربية ، ثم وصلوا في ترحالهم إلى حدود بادية الشام. وتوسعوا شمالا ً وآلت إليهم أخيرا ً تركة الميتانيين . واستطاع (شيخ آرامي ) أن يبني دولة جديدة على أنقاض ميتاني ، وقد جعل هو كذلك قاعدتها عند ينابيع الخابور ، ولكنه اختار مدينة تل حلف مقراً لها ، وكانت فيما مضى عاصمة للسوباريين، قبل زوال حكمهم .
كانت تل حلف إذ ذاك كومة من الأنقاض ، وكان قد انقضى على خرابها نحو عشرة قرون حين نزلها هؤلاء الآراميون ، وأعادوا إليها مجدها القديم.
ودلت الآثار المكتشفة هنالك أن الملك الجديد بنى فوق التل قصوراً كبيرة ، إلى جانب المساكن الخاصة التي أقامها سواد الشعب ، ثم أحاط مدينته هذه بأسوار حصينة رفعها على الأسس القديمة العائدة للعصر السوباري.
وقد عرف منها كذلك أن هذا الملك الآرامي كان يدعى ( كاجارا بن قاديانو) ، وهما اسمان آراميان .
ولا يعرف على التحقيق أكان هو مؤسس هذه الدولة ، أم أنه خلف أباه على عرشها. وقد خفي علينا مدى اتساعها ، والحدود التي كانت تنتهي عندها. ولكن يرجح أنها كانت تشمل الجزيرة السورية ، وبعض البلاد المجاورة .
وفي تلك الحقبة أخذت اللغة الآرامية تنتشر شيئا ً فشيئا ً في تلك الأصقاع، وما طال الأمر حتى صارت اللغة السائدة في سوريا والعراق. وقد شاعت أيضا ً في فلسطين إثر خراب أورشليم ، وتشتت شمل اليهود على يد الملك نبو خذ نصّر.
وهكذا عمت الآرامية تلك البقعة الواسعة من الشرق الأدنى ، ودام الأمر كذلك إلى ما بعد الفتح العربي بمدة طويلة ، حتى أخذت العربية تحل محلها تدريجا.
ولا تزال هنالك في بحر العربية الطامي، ومن مخلفات ذلك العهد، بعض الجزر الآرامية الصغيرة ، ومنها ثلاث قرى في القلمون، لا يزال أهلها يتكلمون ذلك اللسان. ولهذه القرى الثلاث نظائر وأشباه في طور عابدين ، وفي شمال الموصل.
غزوة الآشوريين :
المملكة الآرامية التي قامت في تل حلف لم تعش طويلا ً، بل لم يكن يقدر لها أن تعيش طويلا ً، في زمن بلغت فيه الدولة الآشورية أوج عظمتها ، وغلبت عليها روح السيطرة والفتح. فقد غزاها تيغلات فلاصر الأول ملك آشور في القرن العاشر قبل الميلاد، ودمر قاعدتها في تل حلف، وما حوت من قصور أثرية باذخة. وقد أتت المذكرات العائدة لحكم هذا الملك على ذكر حروب طويلة دارت بينه وبين الآراميين، " وانتهت بطرد هؤلاء في يوم واحد من الخابور حتى كركميش " .
وتدور الأيام ، فإذا هذا الاحتلال الآشوري ينحسر ثانية عن شمال ما بين النهرين ، ويعود الآراميون إلى حكم المنطقة التي طردوا منها . فقد جاء في لوحات آشورية ترجع إلى عهد الملك عداد نيرا ري الثاني ذكر لدولة آرامية في الجزيرة العليا يحكمها أمير أسمه ( أبي سَلمو ) رئيس (جوزان ) ، وهو الاسم الذي أطلق في العهد الآشوري على بلاد الخابور.
وأخيراً وفي مطلع القرن التاسع قبل الميلاد ، عاد الآشوريون فغزوا تلك البلاد، و أخضعوها نهائيا ً لحكمهم ، كما أخضعوا شمال سوريا أيضا ً. ومنذ ذلك الحين ذابت الجزيرة السورية كبلاد ذات شخصية مستقلة، وصارت مقاطعة آشورية، و بقيى الحال كذلك حتى انهيار الدولة الآشورية، وكانت الجزيرة من نصيب الماديين، ثم دخلت في حوزة الفرس. ولم تترك الحقبة الفارسية أثرا ً يذكر في تل حلف.