قراءة في رواية الكاتب وليد الحجّار
(رحلة النيلوفر أو آخرالأمويين)
وهي الجزء الثالث من ثلاثية الكاتب في البحث عن الأنا


نبيـلة أبـو الشامـات- دمشق



(ألقت هذه المحاضرة الأستاذة نبيلة أبو الشامات، سنة 2002 في المركز الثقافي الإسباني (سرفانتس) في دمشق، ثم أعيدت في المركز الثقافي الإسباني في عمّان، بناء على طلب المركز نفسه. وكانت ترافق قراءة المحاضرة موسيقى لمانيويل دي فايا، والمؤلف وليد الحجّار نفسه، معزوفة من قبل عازف البيانوالسوري غزوان الزركلي، في المرتين. كما وقد نشر ملخص المحاضرة في الصحف السورية، وصحيفة الخليج الإماراتية، سنة 2004)

كلما داعبت نسائم الربيع أوراق شجرة النارنج في حديقتي ، أشعر أن شجرة برتقال أخرى أو نارنج أو أورانج (كما سميت على البعد) تهتز بنسائم رطبة عند أهلنا على الشاطئ الآخر من البحيرة، حيث تشرق الشمس من البحر ، على الضفة المقابلة لشاطئنا، المنقسم والملتحم كنصفي برتقالة واحدة، لأثير واحد وشمس واحدة و تراب واحد (موسيقى) أنحني معها لأعبر أقواس جامع قرطبة ، وتحط روحي هناك لترفرف عالياً على مئذنته، فأستمع إلى أصوات سماوية، وأشتم عبق ورائحة الورد والياسمين، هذا الحنين الذي يجري مع النسغ في دمنا وأرواحنا هنا أو هناك ومن منا لا يشعر بهذا الحنين!
يقول الكاتب و الشاعر الإسباني الكبير المعاصر (أنطونيو جالا) على لسان الزهراء (موسيقى) (تخاطب عبد الرحمن الثالث) :
"أتذكر أول مرة رأيتك فيها، في فناء التاريخ في الجامع الكبير قرب قرطبة ، حين كانت قرطبة قلب العالم ، وأنت الخليفة الأول المستقل عن بغداد، هنا كانت تتعايش الأعراق، الديانات جميعها و كان يأتيك علماء من فارس و بيزنطة، معماريون من دمشق و الإسكندرية، موسيقيون من أقاصي الأرض، و قرطبة مندهشة و مدهشة تتمثل كل شيء، و كنت ملك أكثر الممالك ثقافة، و أكثرها حرية، حيث لون الحداد أبيض، و العلم أيضاً، و كانت تسمع أجراس المستعربين و أصوات المؤذنين، و كان للهواء رائحة زهر الليمون، كان عالماً جديداً تماما علي، و كان الفقهاء يديرون العدالة في ظل انتصاراتك و حول فنائك و المعلمون و المعارف، و كان الأثرياء يتنافسون مزاداً على المحفوظات والأعمال الفنية الغربية، و الشباب ينشدون أشعار الحب ، ويقرؤون متربعين تحت الشمس ، و الحواري يرنمن ويغنين أغاني بلادهن، والراقصات يشمخن بصدورهن في الرقص.. كنت في الخامسة من عمري ، وكان للهواء عبق زهر النارنج ، رأيتك هادئاً وعذباً ، فكرت: (هكذا يجب أن يكون الإله)".
ثم يقول في مكان آخر:
"في روحي أحمل اسم الأمويين، وفي جبيني اسم بني عباد الإشبيليين، وفي قلبي اسم بني نصر الغرناطيين، لقد آمنت دائماً ، أن بهاء المعجزة الأندلسية إنما هو نتيجة عشق وافتنان متبادل، كما يجب أن تكون أية معجزة". (موسيقى)
ومع أنه من غير اللائق كما يقول المتصوفة أن نتكلم في حضرة الحب و الجمال ، إلا عن كل ما هو جميل، ولكن هناك من يشوه دائماً هذا الحب وهذا الجمال (موسيقى) .
"رحلة النيلوفر" رواية تحمل اسم وعطر زهرة شرقية جميلة، عنوان رومانسي لموضوع تاريخي شائك، آثر الكاتب أن يعبر عنه بطريقته الروائية، بعيداً عن جفاف الأسلوب التاريخي، وليكون أكثر قرباً من القارئ (موسيقى) .
وبالرغم من دراستنا الجامعية للتاريخ، وكثافة الكتب المقررة، فإني، وفي كل يوم، أشعر أننا لم نقرأ شيئاً بعد، ولم نضع أيدينا على الأبحاث والكتب الهامّة. كلها، كانت أبحاثاً عامة تقدم بشكل لا يثير الاهتمام. تُُلقّن لنا تلقيناً من قبل أساتذة خريجي معاهد غربية ، أغلب أبحاثهم و دراستهم أتت مزورةً وناقصةً، أوفي أحسن حال كما أرادتها الجهة التي درسوا فيها، بعيدةً وغريبةً عن قضايانا الحقيقية ، لا توحي بأي قدر من الثقة للباحث عن تاريخ أمته و بلاده بصدق، لذا يجد نفسه مضطراً، إن كان فضولياً أن يستمر في البحث معتمداً على نفسه، ولابد أن يجد أو يعثر على بعض الباحثين الجدد، ذوي الضمير الحي، لإعادة وإظهار الحق أو بعضٍ منه ، مما خفي أو زور من تاريخه.
يقول "بيير روسي" الباحث الفرنسي الشهير: "لا يكفي أن نتكلم بل أن نتكلم ما هو مفيد وصحيح" وأضيف هنا، أن حاجتنا اليوم إلى الصمت والتأمل أكثر من حاجتنا إلى الكلام .
عرفت الكاتب "وليد الحجّار" موسيقياً، وغالباً ما قادتني الموسيقى، بصمتها وروعتها إلى عوالم من الجمال والفائدة والتأمل. (موسيقى)
استمعنا إلى أعماله التي ألفها للكمان والبيانو، والتي سنستمع إلى بعضها في النهاية ضمن هذه القراءة ، كما سنستمع إلى مقطوعات لموسيقيين إسبان، لا تزال نسمات ونغمات الموسيقى العربية تتعشق بين زوايا ألحانهم على مر الزمان والعصور، لتؤكد هذا التعايش الرائع الخالد والمستمر حتى الآن، لأنه كان مبنياً على الأصالة والفهم لطبيعة وحاجات الإنسان من علم وإيمان وتسامح. (موسيقى)
يقول "بيير روسي" :
"لم تكن الشعوب الشرقية من جانبها – بالرغم من أنها غالباً ما كانت مستثارة وحائرة من موقف أوروبا تجاهها – لم تكن لتستسلم لفكرة اعتبار أوروبيي المتوسط غرباء ، وهم الذين ترى فيهم إخوة التاريخ و الثقافة". وإنه لصحيح أنه لا الحروب ولا الإذلالات ولا منازعات الدول، قد قطعت هذه الصلات الأخوية ، إذ أنه لم ينقطع تيارٌ حيُّ آتِ من الشرق، وفي أية لحظة يسكب في الغرب وفرةً في الفنّ وتأملاتٍ خلاقةٍ. لقد بقينا عرباً في إيماننا مثلما نحن غربيون في شكوكنا.
بمثل هذا العطاء و التسامح بنى العرب علاقتهم مع العالم لأنها من صميم أخلاقهم وتراثهم "كلكم لآدم و آدم من تراب".

وكما يقول الباحث الدكتور "أحمد داوود":
"إن حضارة هذا منطلقها لا يمكن أن تعرف التعصب وأن العلم والتعصب ضدان لا يجتمعان"، وقد اهتم الدكتور "أحمد داوود" أيضاً بكتاب "رحلة النيلوفر" وأشار إليه كأحد مصادره الهامة في كتابه الهام (تاريخ سوريا الحضاري القديم"المركز") لأنه تطابق مع بحثه الدائم عن التشويه والتزويرالذي تعرض له التاريخ العربي بشكل خاص ( إذ ليس هناك أصعب من تصحيح مسلمات في مسيرتنا العقلية، جمدت حصينة منيعة ضد الحقائق لفترة طويلة)، ولأن الاستعمار وكما يقول الدكتور "إدوارد سعيد" : "وضع الشرق طرفاً مقابلاً ينبغي الحط منه و إذلاله ثم امتلاكه" وأوجد فن الاستشراق من أجل تسهيل هذه العملية، منذ زمن نابليون وحتى هذه اللحظة الحاضرة.
وبالرغم من ذلك وجدت بعض الأقلام المنصفة لتقول :
"حسبنا أن نشيرإلى أن هؤلاء العرب السوريون، جعلوا من إسبانيا جنة في جحيم أوروبا الهمجية، قرابة سبع مائة عام، و منارة للمعرفة والحضارة الإنسانية العالمية الزاهرة ، لقد علموا العالم هناك أن التماسّ بين الشعوب لم يكن تماسّاً عدائياً لا من حيث الجنس ولا من حيث الدين أوالثقافة"
ويضيف "أناتول فرانس" قائلاً :
"إن أفدح ما ارتكبه الغرب بحق البشرية هو تعطيله للعبقرية العربية" وأضاف قولته الشهيرة : "لو أن العرب انتصروا في معركة بواتيه لكان العالم تقدم أوروبا، يسبق ما هى عليه اليوم ، بثلاث مائة عام على الأقل". و يؤكد "أنطونيو غالا" قائلاً :
"هل كان تعايشنا لقرون ثمانية، موجه لطرد الإسلام ؟ هذا زيف". و كما يؤكد "أورتيغا":
"لا يمكن أن يسمى النشاط الذي استمر كل هذا الوقت (استعادة) فنحن وفي خمس سنوات طردنا إفرنسسين شر طردة، و كذلك فعل بنا الأمريكيون في عشر سنوات".
لا جدوى من مصارعة ما بداخلنا ، ما نحن، ما هو إسباني دون الإسلام، يصير غير قابل للتفسير، التاريخ هو التعايش و ليس الحروب ، إنه ليس الزواج بين بعض الملوك ولا طموح عدد منهم أو معاناة آخرين ، وليس بروتوكولاً ولا احتفالاً ، إنه وببساطة (الحياة)، الثقافة المبنية على التفكر، والتي تطورت جنباً إلى جنب معنا، و بنت أعشاشها في فروع الدم التي لا تنسى (موسيقى)" .
لقد استعادت الأندلس مع العرب طيبها الشرقي، ما كان لها مع الفينيقيين، ومع قرطاجة عندما كان البحرالمتوسط بحيرة فينيقية .
تجري الرواية في إيطاليا، و لكن أسبانيا الأندلس حاضرة فيها، وهذا ما نراه واضحاً (في الجزء الثاني من ثلاثية الكاتب)، عندما يرحل بطل الرواية "فراس" إلى الغرب للدارسة محملاً بوصايا الجدة التي تقول له : "وأنتم يا بني أحفاد أهل البيت، لكم حق الشفاعة يوم الدين، لكن عليكم فرض واجب، لا تكتمل آخرتكم دون تحقيقه، هو إظهار ما اختفى، رأب الصدع ، وإحياء ما استشهد في سبيله الصالحون".
ومن رحلته مع أصدقائه إلى الأندلس سأقرأ لكم هذه الفقرات من الرواية (موسيقى) :
"في الطريق : لاحت لافتة عريضة كتب عليها "كوردوبا" أي قرطبة ، دخل "فراس" قرطبة وتسمرت في نفسه وعلى شفتيه ابتسامة مريرة باهتة... هذه البيوت يعرفها – أبوابها، شرفاتها، الطريق الضيقة التي تتخللها، جدرانها مشرقة البياض، و رونق إخضرار النباتات المتدلية من نوافذها، الصديقان يعجبان لهندستها و لا سبيل لهما لكي يريا ذلك الينبوع الذي تنافرت منه هذه القطرات، كيف تدب الحياة في هذه العصور الباهتة و الأصل الرائع في دمشق!؟
دخل "غونثر" و"جون"، "الكزار"، و دخل "فراس" "القصر" !!
ضاق بما رآه من سمو وخيال وروعة البناء والزينة !
أحس بظلم ما بعده ظلم ! هذه الآثار الدمشقية هنا ، هذه دمشق كما كانت عليه في يوم من الأيام و كما يجب أن تكون عليه اليوم ، وهو يسير فيها كواحد من السياح الأوروبيين...
ثم تابعوا السير...
دخل "غرناطة" حزيناً، رجا صديقيه أن يزورا معالم المدينة من دونه، فما كانت نفسه لا تطيق تبادل الآراء، ولا التباري مع صديق ألماني وآخر أميركي، في فهم ما يكتشفانه ويسيران في كنفه من عظمة فن العرب (موسيقى).
خرج إلى الشوارع مبكراً وحيداً ، سأل المارة عن وجهة الجنيراليفه (أي جنة العريف) وقصر الحمراء، سعى بين الأشجار، فتعجب للطابع الأليف الأنيق ... عندما وجد نفسه فجأة في وسط حدائق غنّاء على أحسن ترتيب ... تجوب عيناه المذهولتان الساحات الفسيحة وتستقران على البحيرة في ساحة الأسود (موسيقى).
تقدم حتى بلغ قاعة السفراء فجلس على الرخام البارد، جنبه إلى الحديقة والطيور وعبق الياسمين، وجنبه الآخر، إلى القاعة ورخام جدرانها الأبيض ، و ما نقش وحفر عليها من آيات عربية وشعر (موسيقى) .
نظر ملياً إلى الجدران يود قراءة ما عليها من حروف حبيبة إلى قلبه، فلم يقو على ذلك، لما غشي عينيه من دموع. لم يرى سوى خيالات تبرق وتغيب.. لهف قلبه.. أين أهل الدار؟ من كان هو في تلك اللحظة ؟ أطيف أحدهم ؟ أزائر من غابر الزمان عاد يقتفي آثار الجدود ! (موسيقى)
ها هو ذا بين أهله وليس لأهله من أثر، ها هى ذي معالم وطنه ها هو ذا وجهه الحضاري العربي ، يتبدى له كشمس الفجر المشرقة.. ها هو ذا وجهه الإنساني ولا شأن عنده لما يمكن أن يطلق عليه من أسماء (موسيقى) .
هنا.. و بين هذه الجدران، تكمن روح ما يمكن أن يتجاوب مع نفسه من أدب وفلسفة وشعر وفن وعلم وموسيقى (موسيقى)..!! إن الذين بنوا هذه الجدران، وتصوروا تشكيلها الهادئ الرائع الأنيق، ثم عاشوا فيها ، أناس حضاريون مثقفون لا يعرفون الكلام الطنان الأجوف..! (موسيقى)...
إن من حسب نسب قياسات هذه الأعمدة المرهفة المتناسقة لا يعرف الكذب في البطولات الفارغة أو الرياء، ثم إن من شاء لهذا الجمال ليكون، وكان فيه، لا يمكن أن يتنفس سوى الرقي والنظافة والأناقة والدماثة والكياسة (موسيقى) ...
كذب الدليل فيما ذكره من وقائع التاريخ وزوَر لسامعيه وزاد، ثم قال عنه، عندما رأى دموعه، "إنها نوبات من الحنين ، لابد أنه عربي"، ثم يتابع الدليل قائلاً: "لكم سمعت من السائحين أقوالاً مثل "لئن كانت هذه هي حالهم منذ خمس مائة عام، فإلام كانت ستحلق حضارتهم لو لم نقضي عليهم!!
إن أكثر ما يثيرني هو ألا يعجب السياح في بلادنا أكثر مما يعجبون إلا بما تركه العرب فيها منذ أربع مائة وخمسين عاماً يفضلونه على جميع ما قمنا به نحن !
إن الشاعر الإيطالي الكبير (بترارك) قال فيما كان يقول:
(أيها الأوروبيون ، متى تزول عنكم عقدة ألا نبوغ إلا عند العرب).. لقد قال هذا منذ 500 عام فقط و معنى ذلك أن نبوغهم كان لا يزال يسيطر على أوروبا حتى ذلك الحين ، أليس من دواعي العجب أن يكون العرب قد نسوا أنهم كانوا قبلة العلم لا يقبل غير رأيهم فيما ستتجه إليه العلوم في المستقبل!
أين العرب من هذا !!! "
لا شك ان هناك من يلعب بالتاريخ ويحوره لهدف ما، فالغرب لا يحارب العرب طمعاً في ثرواتهم فحسب، بل خوفاً من استفاقتهم (موسيقى)..
ثم نتابع هذه الفكرة التي أتت بشكل حياتي وملموس عن طريق الرحلات والحوارات والتأمل والاطلاع عندما خرج فراس مع صديقه شارل غوستاف من كنيسة السانتا ماريا ماجيوري يتلقفان نسيم روما الدافئ، المضمخ بعبق ما امتلأت به حدائقها العامة من ورد بري و فل دمشقي و ياسمين ، متأثرين بروعة النقوش التي نقشت على سقف الكنيسة الخشبي ، والذي أضيف إليها في القرن الثاني عشر .
و هنا أيضاً يحدث فراس صديقه و يلفت انتباهه عما غفل عنه الكثيرون سهواً أوعمداً وغالباً بشكل مقصود، فيقول له :
"لقد نقل الغرب هذا الأسلوب في الفن ، إثر مجاورة أروع حضارة في العالم آنذاك في الأندلس، إن أجمل كنائس فلورنسا مزينة بالفن العربي المسلم، ولكن، أرني كتاباً عادياً من بين مئات الكتب السياحية والفنية، يذكر بوضوح أثر الفن العربي الجلي والمباشر على ما تلقبونه بالفن القوطي، أتدري ما يقولون في الكتب؟ لقد لقبوا العرب والمسلمين في شرقي البحر المتوسط ﺒ "الساراسان" وهى تسمية لا يمكن للأوروبي العادي اليوم أن يفهم أصلها أومدلولها أوعلاقة هذا الاسم بالعرب، ثم قالوا إن الفن القوطي يشبه الفن الساراسان بدلاً من كلمة عرب أو سوريين، لماذا هذا التجاهل الصارخ والتزوير الواعي !(موسيقى) وبات كثير من المثقفين في الغرب وفي الشرق يرددون هذه التسميات كأنها واقع (موسيقى) إن كوميديا التسميات هذه لم تعد تثير في نفسي الضحك، بل أنها تثير النفور والغثيان، وهنا أذكرك على سبيل المثال ، بعشرات التسميات التي يحلو لعلماء الآثار أن يطلقوها على ما يكتشفونه في الشرق من حفريات : آرامي، كلداني، حثي، بابلي، أكادي، سومري، أشوري،.. إلخ من هذه التسميات لبضع مئات ألوف البشر من أصل واحد كانت تنتقل بين حدود جغرافية محدودة !
إنه أسلوب الغرب المفضل في التجزئة والتفتيت وإطلاق التسميات متعددة الأهداف لحضارة واحدة، فإذا لكل بقايا جدران قرية، جيش وملك (موسيقى)، ولكل مدينة مدنية وحضارات وسلالات (موسيقى) ولكل اختلاف بسيط في اللهجة أو في أسلوب الكتابة (اسم جديد للغة جديدة) مخالف تماماً لاسم اللغة التي تتكلمها الشعوب نفسها، والتي تفرق بعضها عن بعض بضع مئات من الكيلو مترات (موسيقى).
هل تقولون اليوم في أوروبا، حضارة الغرب أم حضارة إيطاليا، حضارة إنجلترا، أو بلجيكا، أو حضارة فرنسا، وتلقبون كل لغاتها باللاتينية، فلو أن الحياة توقفت فجأة في أوروبا اليوم، وجاء علماء الآثار بعد ألفي عام ينقبون بين آثارها، فهل ترى أنه يحق لهم تسمية ما كتب من اللهجات الإيطالية (لغات)؟ وإذا وجدوا أن (ميلانو) كانت تتكلم الإيطالية و(باريس) الفرنسية، فهل يحق لهم الكلام عن حضارة ميلانية وأخرى باريسية؟! وهل ترى اليوم أن بينهما اختلافاً حضارياً يذكر (موسيقى) لاشك أن للغرب عيناً ساهرة تخاف وحدة العرب والإسلام. يقول الباحث الفرنسي "بيير روسي" حول تركيز الغرب على إبراز السلالات الفرعية للشعب العربي السوري: (إن هوسنا المحب للخصام، هو الذي فرق الشعب إلى شعوب أقرباء كالمؤابيين والعموريين والكنعانيين والأراميين والسومريين ...إلخ، ولماذا؟ لأننا نتقصد أن نميز فيهم خصوصيات عرقية أوطائفية تجبرنا على أن نضع بينها العبرانيين، وذلك لكي نقدم الدليل بأي ثمن على صحة العهد القديم.
يقول الكونت الرحالة جان بوتوسكي :
"من المؤسف حقاً أن الرحالين لا يملكون سوى النظارات التي جاءوا بها من بلدانهم و يهملون تماماً أن يصنعوا زجاجها في البلد الذي يذهبون إليه" (موسيقى)
نزل الصديقان المدرّج العريض المؤدي إلى الساحة الإسبانية، التي زينت بمئات أصص الأزهار ذات الألوان المتناغمة، يجدان السير نحو ساحة الشعب (البوبولو) يبحثان عن مسكن ﻟ "مكسيم" الذي هو "فراس"، والذي يحمل اسم "دون مكسيميليانو" (الدوق) أحد أحفاد دوق ألبا.
وفي مسكنه الجديد في حديقة (فيلا بورغيزه) الجميلة ، يتنبه "فراس" إلى صندوق كبير مقفل، يحتوي على غلافات جلدية مذهبة لمصاحف كريمة نادرة مبطنة بالقطيفة الحمراء، فيظن أنه إرث تتناقله الأسرة منذ فتح الأندلس، وخاصة أنه وجد أيضاً بضع صفحات مبعثرة كفهرس لمخطوطات محفوظة في غير هذا المكان ، لمع من بينها اسم عبد الرحمن بن خلدون وعنوان كتابه (خلاصة النظر في فلسفة العبر).
ما كان الفنان النحات العجوز صاحب البيت ليبوح بسره الدفين، إلا ليقينه بأن "الدوق مكسميليانو" في مقام قريبه الكاردينال الذي كلفه بالسفر إلى القسطنطينية وشراء جميع ما يستطيع من كتب ومخطوطات قديمة بأي ثمن شرعي أوغير شرعي يصل حتى حد الانتشال أوالسرقة إذا اضطر الأمر ذلك من كل المكتبات والجوامع أومن البيوت التركية العريقة وأحياناً من الأديرة القصية البعيدة، مخطوطات بلغات شرقية وأغلبها باللغة العربية من دمشق والقاهرة والقيروان ، محدثاً إياه قائلاً : إن لدىَ في داري عدداً قيماً منها، لشعراء لا يعرفهم من العرب، وأستطيع أن أؤكد لك أيضاً أنه ما من مخطوط عربي هام في حوزة العرب اليوم ، إلا جرت عليه رقابة صارمة زادت هنا أو حورت هناك، بما كانت تقتضيه مصلحة الغرب (موسيقى)
إن حملة نابليون وحدها إلى مصر لم تترك في ذلك البلد المسكين، إلا قصص ألف ليلة وليلة ، وكتب الشعر والتاريخ الهزيل، حتى لايفلت زمام القيادة الروحية للعالم من أيدينا ، ولو أنها نشرت تحت أسماء مؤلفيها العرب ، لغاب القصد من ورائها ، ولأصبحت قراءتها ترفع من شأن الدين والعقل الإسلامي ، بينما المقصود كان خدمة العقل الأوروبي وعقيدته اللذين ظلا عاطلين عن العمل طوال ألف عام.
لقد كان الإسكندر المقدوني أول من قام بهذه الفعلة في التاريخ ، إنها أكبر عملية سطو منظم ، فقد علمه أستاذه العظيم أرسطو، أن في الشرق كنوزاً أثمن من الذهب والفضة ، وهي كنوز الفلسفة والحكمة والعلوم، فطلب منه جمعها وإرسالها إليه، فأسس عليها ما نسميه بالحضارة والفلسفة الإغريقية، وجعلها جميعها تحت أسماء يونانية بحتة، مهملين ذكر غيرها من الأسماء الشرقية ، حتى نسب إليهم جميع الشعر و الفلسفة القديمين، هكذا بكل بساطة."
" ثم يصرخ النحات العجوز أن هناك في شمال فيرونا وعلى رأس صخرة شاهقة الارتفاع وفي أحد الأديرة في الشمال الذي يشرف عليه الراهب اليهودي الأصل ".دميانو"، يوجد دائرة كاملة للنسخ، نسخ وتحوير وتزوير المخطوطات القديمة حسب المصلحة، وحسب ما تتطلبه مكتبات العالم أجمع، والتي تعمل بدأب مستمر منذ سقوط الأندلس.
بهذا التزوير والتحوير المدروس بدل اسم "ابن خلدون" وأصبح "ابن ميمون" وبدل اسم كتابه "خلاصة النظر في فلسفة العبر" ليصبح "كتاب العبر في أيام العرب والعجم والبربر" وأضيفت فصولاً بكاملها في مدح البربر، وحذفت فصول بكاملها في ذكر مآثر العرب، مما كتبه" ابن خلدون" الفخور بأصله العربي، بل أكثر من ذلك في الحط من شأن العرب (موسيقى) وضاعت كتب كثيرة ﻠ"ابن حزم" و"ابن رشد" و"ابن طفيل" وحوّرت وانتقلت جهود ودراسات "ابن خلدون" في الفلسفة وأصبحت الأساس الذي استند إليه "ديكارت" في أشهر مؤلفاته (مقالة الطريقة ، والتي أصبحت فيما بعد خميرة الفكر الفلسفي التي ارتكزت عليها أذهان معظم فلاسفة أوروبا إن لم نقل جميعهم.. رحمك الله يا "ابن خلدون"، يا سيد الفلاسفة، وأنبل المفكرين العرب، لقد فتح أمام فلسفة الغرب باب الفلسفة الروحية من جهة، والفلسفة الواقعية، من جهة أخرى" (موسيقى).
يقول "أنطونيو غالا" في كتابه القيم (المخطوط القرمزي) على لسان "عبد الله الصغير" آخر أمراء الأندلس (موسيقى) :
"في ساحة باب الرملة أحرقوا الكتب، الكتب التي تركتها في الحمراء والكتب التي وجدوها في البيوت، لم يٌحترم شيء،(موسيقى) لاالعلم ولا الفلسفة ولا الطب، الكتب التي تمثل قروناً من الحب والانكباب.. صلواتنا، قصائدنا،.. صوفيتنا،.. موسيقانا،.. كله اشتعل. (موسيقى) إذا ما أغمضت عيني رأيت الدخان المتصاعد مثل شجرة من الحماقة والحرقة والتناقض يستصرخ سماء غرناطة الصافية، أرى النار تلتهم كتباً فاخرة مثل عصافير ملونة مزخرفة ملبسة بالفضة موشاة،(موسيقى) صوراً، تأخرت عناية ثقافتنا مئات السنوات حتى ابتدعتها، (موسيقى) كل ذلك الجمال، غارق في الدم والنحيب...(موسيقى)
ياللزيف في تقنيع السياسة باتكاءات دينية !!(موسيقى) ما الذي يقوله هذان الملكان ليلاً لإلاههما (موسيقى) ، إذا كان هناك إله يُسعد لما يفعلانه، فإنني لا أرغب بمعرفته إطلاقا"ً(موسيقى) .
"آه أيها الأندلسيون، (موسيقى) بذرتكم ودمكم اليوم، مثل معارفكم بالأمس، منثوران بغير حساب في العالم ، كما تذرى الغلال بالمذراة " (موسيقى)...
"وفي طريق عودة فراس وصديقه من الدير الواقع في شمال فيرونا (حيث شاهدا عن كثب دائرة التحوير والتزوير وعثرا على "الوثيقة التاريخية" التي تثبت هذا التزوير)
وفي ستر ظلام الليل، والسيارة تسبح بهم عبر طرقات جبال الألب إلى النمسا ، جال في ذهن "فراس" ما حدثته به جدته أيام طفولته ورد فعلها عليه وهو يحدثها باللغة الإنجليزية! فتبسم طويلاً إذ تصور المشقة التي سوف يلقاها في بناء الجسور مع ابنه (الأوروبي المنشأ) ".
و لكنه ولده ... و لعله الآن على مثل ما كان هو في الماضي التصاقاً بالغرب، يطفو كزهرة النيلوفر يبحث عن أرض تمتد جذوره فيها ... ماذا لو نجح في قيادة ابنه إلى تراب الأجداد ! سوف تكون مهمة شاقة ، لكنه ولده ، رغم غرابة ولادته و نشأته !
و لو كانت جدته أم تاج العارفين ماتزال على قيد الحياة لقالت له :
لا بأس عليك يا بني، دعه يزور غرناطة، ثم خذه إلى دمشق، إلى دمشق القديمة، دون أن تسدي له النصائح، دعه يطوف فوق جذوره ، دعه يزور الجامع الأموي و قبر صلاح الدين، و تمشى معه أمام مدفنكم ، و أطلعه على أن دماً شريفاً يسري في عروقه ، مهما قل شأن ذلك الأمر في نظر الآخرين ، و أعلمه يا بني أنه من أحفاد أهل البيت "رضوان الله عليهم أجمعين"
المصدر:
http://www.walidalhajjar.com/pres/03.htm