كيف أصبحت الديمقراطية “حلالاً” في الشرق الأوسط العربي؟
هذا كان العنوان الذي اختاره الباحث الأمريكي رؤول غريشت لمقالة نشرتها “نيويورك تايمز” قبل يومين (6 فبراير/ شباط) .
المقالة مهمة، لأن صاحبها مهم، إذ هو أحد أبرز خبراء الخدمة السرية في وكالة الاستخبارات الأمريكية ال (سي .آي .إيه) حول الشرق الأوسط، وهو موقع خوّله لعب دور سياسي كبير من وراء الكواليس، في منطقة عربية “كانت” تحكمها أجهزة الأمن علناً ومن “أمام” الكواليس، بتصفيق حماسي من ال “سي .آي .إيه” .
المقالة تدل على ثقافة واسعة لصاحبها . فهو يعود بنا إلى القرون الوسطى الإسلامية ليُفنّد الادعاء بأن الاقطاع العسكري هو الذي منع تطور الحكومات الدستورية، قائلاً إن ذلك ليس حجة مقنعة لا للتاريخ ولا للعصر الحاضر .
لماذا؟ لأن هذا برأيه، كما برأي إدوارد سعيد وصحبه من خصوم الاستشراق، تُسقط عن المجتمعات العربية والإسلامية سمة التطوّر والتغيّر، وتسجنها في معتقل تاريخ أبدي يعيد انتاج نفسه إلى مالانهاية .
الحقيقة هي أن هذه المجتمعات تتغيّر، وهي فعلت ذلك خلال العقود الثلاثة الأخيرة، حين بدأت فكرة الديمقراطية تتحرر من التُهم التي ألصقها بها الثوريون العرب القوميون واليساريون والإسلاميون على حد سواء كونها خدعة أو أداة لإدامة الهيمنة الغربية، أو سلعة غير ضرورية لأنها تبطئ مسيرة نهضة الأمة وتوّحدها وتحررها .
ماحدث خلال هذه العقود أن الشعوب العربية، اكتشفت أن من خُدِعَ بالفعل كانت هي، حين قامت النخب “الثورية” الحاكمة بإحلال الأتوتوقراطية مكان الديمقراطية، والسلب والنهب مكان التنمية، وحين بنت زنازين السجون بدل زرع زهور الحرية، وهذا ما أعاد الاعتبار كاملاً لفكرة الديمقراطية .
رؤول غريشت لم يُشر إلى كل هذه التطورات في المجتمعات العربية، واكتفى بالإشارة إلى محصلاتها: الانتصار غير المرئي لفكرة الديمقراطية . وهذا (وهنا جوهر مقالته) شمل حتى جماعة الإخوان المسلمين التي وجدت نفسها هي الأخرى وجهاً لوجه أمام موجة شبابية واسعة النطاق تُعطي الأولوية لا للإديولوجيا الدينية بل للحرية السياسية، وهذا ما دفعها (الجماعة) قبل سنتين إلى وضع أول برنامج سياسي لها في تاريخها، يتحدث عن التزامها العمل الديمقراطي والدستوري، وهكذا أصبحت الديمقراطية “حلالاً” .
فكرة جميلة، أليس كذلك؟
أجل . وخطيرة أيضاً، لأنها تعني أن الغرب بدأ يستفيق على الحقيقة بأن الشرق العربي قد استيقظ مجدداً على أنغام الحرية، وأن التحالف المُشين بين الغرب الديمقراطي والشرق الاستبدادي الذي دام نيفاً و70 عاماً يجب أن ينتهي وبسرعة .
أجل أيضاً . الشعوب العربية تريد أن تكون جزءاً من النظام الاقتصادي والسياسي العالمي، لكنها تبغي أن تفعل ذلك ليس وهي مقيّدة بسلاسل العبودية والاستبداد والإرهاب، بل بقواعد سيادة القانون، والحريات السياسية والمدنية، والتداول السلمي للسلطة . فهل هذا “كفر”، كما قال أحد المتظاهرين في ميدان التحرير؟
الكرة الآن في ملعب الغرب، الذي يتعيّن عليه أن يعيد النظر كلياً الآن في ممارساته اللاأخلاقية مع الشرق، والتي كانت السبب الرئيس وراء خلق وحوش التطرف الأصولي سواء منه المُتدثّر بالدين أو الملتحف عباءة السلطة، والتي حوّلت المنطقة برمتها إلى مايشبه مدينة دمرتها “عاصفة كاملة” لم تُبقِ ولم تذر .
وإذا ما فعل، فهذا سيكون إزهاقاً ل “حرام” دام أمده، وإحقاقاً ل “حلال” استحقّ منذ وقت طويل .