قراءة إستراتيجية في الثورة التونسية
عبدالوهاب محمد الجبوري
ثورة تونس مفخرة ثورات العرب في الزمن الصعب وعصر التحديات الكبيرة ، في وقت بات اليأس شبه مسيطر على الآمال العربية بحدوث تغييرات جوهرية في الأوضاع العربية بسبب ضعف الموقف الرسمي العربي نتيجة الظروف التي مرت بها المنطقة العربية والعالم بعد نكبة فلسطين وما تلاها من أحداث وتطورات كان فيها معسكر الأعداء أكثر تنظيما وتآمرا وعدوانا مقابل موقف عربي هش يفتقر إلى التوحد والتماسك والرؤية السليمة للأحداث وبالتالي انعدام القدرة أو ضعفها على اتخاذ قرارات إستراتيجية لصالح الجماهير العربية وقضاياها العادلة ، هذا باستثناء حالات نادرة في بعض الأقطار العربية التي مازالت ترفض التبعية والرضوخ للمخططات الامبريالية والصهيونية فكان أن اشتد الضغط عليها وراحت تتعرض إلى شتى أنواع التآمر للتأثير على مواقفها الإستراتيجية الثابتة من القضايا العربية المركزية وفي المقدمة منها قضية فلسطين ، وكلنا ثقة بان هذه الأقطار والحركات والتنظيمات ماضية بثقل جماهيري ورؤية إستراتيجية صحيحة لطبيعة التحدي ومواجهته بكل شجاعة ومسؤولية ..
ما جرى مؤخرا في تونس يشكل مفخرة للعرب ، وهو يدل على أن الشعوب الواعية لمصيرها وحاضرها ومستقبلها شعوب حية لا تموت أبد الدهر، ربما تسكين قليلا كاستراحة مقاتل لسبب أو آخر لكنها سرعان ما تنشط وتنهض من جديد مفجرة طاقات أكبر..
الشعب التونسي اثبت بجدارة منقطعة النظير بأنه النموذج الأصلح والأقوى والأكثر دراية ووعيا بين أبناء امتنا العربية ، نموذج راق يصلح للإقتداء به، وأسلوب أنجح وأسهل للتخلص من الطواغيت، والمضي قدما حتى بزوغ فجر الحرية ..
قادة الثورة يعرفون تمام المعرفة أن ثورتهم وطنية النكهة والطعم والرائحة لا أثر فيها لنفس عنصري ومذهبي وقومي، لم تكن بحاجة إلى مرجع ديني وآية عظمى يوجه مسارها أو يحرفه لطائفة ما ( مع احترامنا لكل العلماء الأجلاء ) ، ولم يروج ثوارها إلى تعاليم مذهبية زائفة وشعارات بمظلومية فئوية تخص الثوار فقط، بل مظلومية التونسيين جميعا ، وهذا يشكل احد عناصر قوة الثورة التونسية ..
فالعلماء التونسيون معروفون بحكمتهم ووعيهم وتفهمهم لحقيقة أوضاع بلدهم وماسيه وهم خير خلف لأجدادهم الصحابة وآل البيت، فالجوامع والمساجد هي ساحة عملهم والوعظ والإرشاد وتوعية الناس من صلب واجبهم، وعندما شجعوا الثوار في مسعاهم المبارك لم ينطلقوا من قاعدة مذهبية وإنما من قاعدة سماوية بتحدي الظالم والوقوف بقوة أمام سلطان جائر، لم يفكروا بثروات أو مكافآت ولا مقاعد برلمانية ولا مناصب لأبنائهم ، فما إن استتبت الأمور حتى قفلوا راجعين إلى مساجدهم وصومعاتهم مباركين الثورة ورجالها ليؤدوا وظائفهم الدينية تاركين شؤون السياسة لمن هم أدرى منهم بها .. هكذا فهمنا الأوضاع التونسية من خلال وسائل الإعلام وما ترشح من أحاديث ومواقف عن كل أطياف الشعب التونسي من الثورة ..
لم تكن ثورة تونس بحاجة إلى منظرين سياسيين وخطباء ، طالما هناك وعي عميق يمثل القاسم المشرك بين الجماهير الثائرة ، مقومات الثورة مذهلة تكاد أن تكون ضربا من الخيال، قصة الثورة لا تتجاوز بضعة أسطر - كما يقول الكاتب علي الكاش – خريج جامعة لم يتمكن من الحصول على وظيفة حكومية فتوجه إلى القطاع الخاص وأستخدم مسطر صغير لبيع الخضروات لإعالة أسرته الكبيرة، لكن الشرطة لم تسمح له بذلك، وخلال مناقشة حادة معهم لشرح ظروفه القاهرة صفعته شرطية على وجهه .. الرجل استخدم الوسائل القانونية لرد الاعتبار لنفسه وولج إلى أبواب السلطات الحكومية فلم تسعفه وأقفلت الأبواب بوجه .. أراد أن يلفت الانتباه إلى قضية أمة وليس قضية خاصة تتمثل بمارد البطالة الذي يهدد خريجي الجامعات واعتداء عناصر الشرطة عليه وفشله في الحصول على حقه فأشعل نفسه دون أن يدرك إنه أشعل معها فتيل ثورة كبرى، قصة بسيطة كبساطة الثائر نفسه لكنها كبيرة المعنى ..
ثارت المدينة تلو المدينة بطريقة الأواني المستطرقة وتساوى الغضب الجماهيري في كل بوتقة تونسية دون أن يسأل الثوار عن هوية ودين ومذهب وقومية وعشيرة الشهيد ، إنه مواطن تونسي أضطهد بطريقة مجحفة من قبل السلطة الغاشمة ، الوعي الجمعي يكفي لاندلاع شرارة الثورة ولا حاجة إلى أسباب أخرى..
ثورة تونس صناعة وطنية خالصة وليس بضاعة مستوردة فالثوار الحقيقيون ليسوا بحاجة لأن يصبحوا عملاء ليشحذوا وقود الثورة من محطات المخابرات الأجنبية أو يقدموا المعلومات الإستخبارية عن دولهم للأعداء لتكون لقمة سهلة للابتلاع ..
لما كانت هذه أسس ودوافع وخلفيات الثورة التونسية فإننا نتوقع أن تتعرض إلى محاولات اختراق ( فاشلة بإذن الله ) من القوى الامبريالية والصهيونية والمحلية المعادية لها وكل القوى التي تشكل انتفاضات الشعوب خطرا عليها وتهدد مصالحها وتضربها في الصميم ، لذلك ننبه من باب الحرص والغيرة على ثورتنا العربية التونسية أن تستمر في زخمها الوطني وتحافظ على النجاحات الكبيرة التي حققتها مع إدراكنا لوجود عناصر وكوادر سياسية متفهمة وواعية لهذه الحقيقة وهي تعمل بالتأكيد على تفويت الفرصة على أي متسلل داخلي أو خارجي للنيل من الثورة ومكتسباتها التي تحققت أو التي يتوقع أن تتحقق بعون الله في الفترة القادمة ..
وكي تكون الثورة بأمان فإننا نرى ما يأتي ضروريا لتماسك الثوار وثورتهم والتفاف الشعب حولهم وهو كفيل بإفشال كل المخططات المعادية بإذن الله :
1 . إعادة تنظيم الشعب التونسي لنفسه بما تفرضه المرحلة من التزامات ترضي الجميع مع توفر حسن النية والثقة بين النخبة الوطنية التي انتفضت وفجرت الانتفاضة / الثورة ..
2 . الحذر من تسلل العناصر الخارجية أو المشبوهة للنيل من الثورة واختراقها ..
3 . التعددية وعدم إهمال أي طيف وطني من المشاركة السياسية مع التأكيد على نبذ الطائفية والتحسب للقوى المضادة ..
4 . الوعي والثقافة الوطنية وثقافة التسامح ، إلا مع أعداء الثورة فيجب الحزم
( والحزم هنا لا يعني العنف أو القسوة بل الموقف المسئول الشجاع من كل عنصر أو فئة تحاول شق الصف التونسي بدفع من الخارج أو لأغراض فئوية مشبوهة )
5 . عدم إشهار سيف العداء منذ البداية لكل قوة خارجية قد لا تتفق مع الثورة ، بل يجب إتباع سياسة متوازنة وحكيمة تعبر عن مصلحة الشعب وأهداف الثورة ، فالثورة في تونس بحاجة خلال هذه المرحلة ، إلى صفاء ذهن وإستراتيجية متوازنة وحكيمة وتطبيق سياسة كسب الأصدقاء وتحييد الأعداء أو إيقافهم عند حدهم وهذا العامل متروك لتقدير الثورة وقادتها وكيفية التعامل مع مثل هذه الحالة المهمة ..
تمنياتنا للثورة التونسية مواصلة خطواتها بالوعي والحكمة والإرادة الصلبة والتكاتف الجماهيري والقرارات الإستراتيجية الصحيحة التي تخدم عملية تحقيق الأمن والاستقرار لحين تحقيق كامل أهدافها الوطنية والجماهيرية بإذن الله ..