http://www.alriyadh.com/2005/04/14/article56455.html
[web]http://www.alriyadh.com/2005/04/14/article56455.html[/web]
وتجنبا للخلل المحتمل أثبت نص الموضوع.
العبادي موسوعة العروض الحيّة...
د. عبدالملك مرتاض
(وكتاب «ما هكذا يكتب الشعر» خير دعاية حديثة لعلم العروض الذي قد يجهله كثير من الشعراء الشادين، لأنّ الكسل الذهني، نتيجة الترف الذهني، مثل الكسل البدني، نتيجة الترف البدني، يحرم المرء كثيراً من نتاج الحركة البدنيّة والفكريّة، وتسبّب هذا في أن يقْصر الشادون قراءتهم على بعض صفحات الجرائد، أو المجلاّت، أو البرامج التلفزيونية، والآتي بسهولة يذهب بسهولة).
(د. عبدالعزيز بن عبداللّه الخويطر)
وما أكثرَ ما يشتكي الشباب من إهمال الشيوخ إيّاهم، وعزوفِهم عن الاحتفال بكتاباتهم، وجنوحهم إلى الاستهانة بما يبدعون. ولقد اغتدى هذا الشأن ديدناً مألوفاً، ودأباً مأْنوساً. ولعلّ هذا التشكّي الذي يصدر عن الشباب، على نحو مسرف، هو الذي يُغري النقّاد الشيوخ في السنّ على الأقلّ، إن لم يكونوا في العلم، بتناوُل بعض كتاباتهم فيقدّمونها للقرّاء في إحدى الصحف السّيّارة، أو في إحدى الدّوريات الطّيّارة...
لكن لم يخطر على خلَدِ أحدٍ أن يكتب الشيوخ كتابة ثقيلة رصينة فلا يحتفل بهم أحد، ولا يكاد يتلفّت إليهم متلفّتٌ؛ بحكم أنّ أولاء الشيوخ ربما يكونون قد نالوا حقّهم فتبوّؤوا منزلتهم التي نُزِّلوها، فماذا، بعد ذلك، كانوا يودّون؟!
غير أنّ هذا الرأي ليس كمِثْله في الخطَل شيء؛ فمِن الشيوخ مَن لا يزال يكتب ولا يكاد يظفَر بمن يكتب عنه، إمّا تهيّباً من علمه وتجربته في الكتابة، وعلوّ كعبه في الثقافة؛ وإمّا وقوعاً فيما عرضْنا له في الفقرة السابقة؛ وإمّا لوقوع الهوى في هذه العلاقة فيتحيّز الكاتب لكاتب يماثله في الرأي فيعزف عمّن لا يوافقه في هواه الْتماساً لإخمال صِيتِه، ورغبة في تضْئيل شأنه. وفي الأطوار الثلاثةِ تظلّ مثل تلك الكتابة مهملةً أو منبوذة لا تكاد تتفاعل مع القرّاء، في غياب تقديمها إليهم، إلاّ بالمقدار الذي يبخسها حقّها، ويغمطها مكانتها في سلّم الثقافة والفكر.
وهذا علاّمة الطّائف، وأكاد أقول علاّمة المملكة، العروضيّ الكبير، الأستاذ عليّ بن حسن العبّاديّ، يرمي الشعراء بكتاب لم يقرءوا له مثيلاً، ولم يجدوا له صِنواً بديلاً، وهو: «ما هكذا يُكتب الشعر»! تناصّاً مع قول النَّوَار بنتِ جَلِّ بن عَديّ حين عرّض سعد أخو مالك به إذ شُغل عن إيراد إبله بعِرْسه النوار، في بيت من الشعر، فقالت نيابةً عن بعلها المزعفر، وهي تسخر من سعد:
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمِلْ
ما هكذا تُورَد يا سعدُ الإبلْ!
فضربتْها العرب مثلاً شَروداً بين النّاس. فكان عنوان الكتاب انطلاقاً من معنى هذا المثل العربيّ القديم.
علي حسن العبادي
والعلاّمة العبّادي حين يتحدّى الشعراء بأن لا يقولوا الشعر على ما يَهْوَون، فهُم في كثير مما يقولونه مخطئون في عَروضه، فلأنّه لم يقل ذلك إلاّ بعد متابعة لأشعار الشعراء، وإلاّ بعد أن رأى من استخفافهم بالعَروض ما جعل أشعارهم تشتبه بالنثر فلا تكاد تتميز عنه إلاّ بشقّ الجهد، وإلاّ بإعنات النّفْس، وإلاّ بإيذاء الذوق...
وعلى أنّا نودّ أن نَلفِت الخاطر إلى شأن، وهو أنّ من الشعراء الحداثيّين مَن لهم إلمام صالح بالعروض، فهم إن شاءوا أن يكونوا عَموديّين كانُوهُمْ، وهم إن شاءوا أن يكونوا حُرِّيِّينَ كانوهم أيضاً ولا حرج. وكأنّ الشّأنَيْنِ الاِثنين في ذلك عليهم سَواءٌ. ولكنّ منهم مَن قعدتْ به همّته عن الْتماس العلم، وأغراه حبّ الكسل بالزهد في تحصيل العروض، فراح يكتب شيئاً من الكلام يحسبه هو شعراً، وهو عند النقّاد مجرّد كَلام!... ولعلّ الشيخ العبّادي إِيَّا هؤلاء كان يتقصّد، وإيّاهم كان يعني...
ودعْ ذا، وهذا كتابه الذي أهدانِيه ثمّ كبّلني في كلمة الإهداء بأن أكتب عنه شيئاً ولو كان سيّئاً، وكأنّي - من تواضع الشيخ العلاّمة - في المكانة التي أستطيع أن أعلوَ على الشيخ وأنا دونه علماً وتحصيلاً؛ وأنا، بعدُ، لست رجلاً متخصصاً في علم العروض، وهو علم شريف عزيز تَظلَع في سبيله أكابرُ النّقّاد، ويُبْدَع في شِعابه بخناذيذِ الشعراء؛ فتراهم يتوقّفون في نصف الطّريق فلا يُمْعِنون في التَّظعان إلى منتهاه، فيُلقُون عصا التَّسْيار وهم مُقْصِرُون... غير أنّ كتابة الشيخ العبادي لم تكن فقط تقطيعاً وتضريباً وتعريضاً؛ ولكنّها كانت فكراً وتساؤلاً وتطلّعاً. فكتابه هذا لا يدعو الناس كافّة إلى تعلّم العروض، ولكنّه يخُصّ الشعراء وحدهم بهذا الدّعاء. فلكلّ علم قواعده، ولكلّ فنّ أركانه، ولا ينبغي لِمُلتمِس ذلك العلم، أو هذا الفن، أن يكون أجهل النّاس بها. فالعازف على العود لا يمكن أن يجهل مبادئ الموسيقى، ولا أن يُقْصر في التّحكّم في أوتاره، إن لم يكن عالماً بها متبحراً فيها متمكّناً منها. مثلُه مثل الْمُقرئ (المرتّل للقرآن الكريم) - فهو إذا لم يكن عارفاً بقواعد التجويد، مُلِمّاً بالقراءات، ضارباً في خصائص النّطق العربي بسهم، بكلّ ما في ذلك من تقارب وتداخل وتباعد أيضاً في الأصوات: من مجهورة ومهموسة، ومستعلية ومُسْتَفِلة، ومُطبَقة ومفتوحة، وشديدة ورخوة... ما كان ليجوز له طرْقُ هذا المجال. ولْيُقَسْ على ذلك في عامّة الفنون والعلوم... فما بالُ بعضِ الشعراء المعاصرين يستسهلون الْحَزْن، ويستيسرون الوعر، ويَغُرّهم بالشعر الغَرور، فإذا هم يُقْبلون على كتابته ولا زادَ لهم منه، إلاّ ما يجهلونه من قواعد العروض، وإلاّ ما لا يحفظونه من شعراء الفحول: قدمائهم ومُحْدَثيهم.
وهذه المسألة لا ينبغي التهاون فيها، ليس لأنّنا لا نريد الحداثة الشعريّة ولا نشجّع على كتابتها، ولكنّا نريد من الشاعر الحداثيّ أن يُثبت للناس أنّه حافظ لأشعار سَوائه من الشعراء، وأنّه أديبٌ حقّاً ذو ثقافة عربيّة موسوعيّة، أو متخصّصة على الأقلّ. ولا يقع ذلك الإثبات بالمهاترة والادّعاء، ولا بالتطاوُل والتّنافُج؛ ولكنْ بأن يبدُوَ على شعره الحداثيّ ما يثبت أنّه ذو معرفة بالتراث الشعريّ العربيّ...
يقال: إنّ بعض الأمم الآسيويّة العظيمة قبل أن تعرف النهضة العملاقة كانت تَحمل شبابها في المدارس التقنيّة على تفكيك أجزاء المحركات التقليديّة، وحتّى البدائيّة، كيما يعرفوا أسرارها ووظائفَها، ومن هنالك ينطلقون إلى البحث في إمكان تجاوز تلك التقنيّة البدائيّة إلى تقنيّات أعلى وأحدث... فحتّى لو افترضنا أنّ شعراء الحداثة الذين لا يعرفون إلاّ الحداثة، لا يودّون أن يتكلّفوا كتابة الشعر العموديّ، فلا أقلّ من أن يعرفوا أسسه وخصائصه الإيقاعيّة، ويحفظوا من نصوصه طائفة، وبعد ذلك فلْيفعلوا ما يشاءون... ولهم أن يَعُدّوا ذلك شأناً من الثقافة الشعريّة ليس غير.
أمّا أن يتمرّد الشعراء الحداثيّون فيرفضوا تعلّم العروض، ويعزفوا عن الإقبال على حفظ النّصوص الشعريّة القديمة لينصقل بها شعرهم، وتجزل بألفاظها نسوجهم؛ فلا نرى ذلك إلاّ من قبيل الإقصار والمكابرة معاً. ومع أننا نُقرّ بأنّ العروض لا يعلّم الشعر ولا يظاهر عليه؛ فإنّه، مع ذلك، السبيلُ الْمُثْلَى لكتابته كتابة صحيحة، حتّى لمن آثر أن يكتب كلاماً يسمّيه قصيدةَ نثرٍ، والقصيدة لا تكون نثراً أبداً!...
والحقّ أن كتاب «ما هكذا يكتب الشعر» للأستاذ العبادي بمقدار ما هو استفزازيّ في عنوانه، هو ممتع في عرضه، أنيق في أسلوبه، جزل في لغته. فأن تقرأ كتاب العبّادي فأنت إنّما تتعلّم العروض، وتتعلّم الأدب، وتتعلّم اللّغة الجميلة، جميعاً. ذلك بأنّ العبّاديّ ثقة في لغته، ولا بدّ من الإيماءة إلى هذه المسألة حيث إنّا كثيراً ما نُلفي كتّاباً كباراً طائري الصِّيتِ، وهم مع ذلك قد يصطنعون من اللّغة سوقيَّها فلا يكونون ثقاتٍ فيما يصطنعون من ألفاظ اللّغة التي بها يكتبون. في حين أنّك نادراً ما تظفر، بعد الرافعي، والمنفلوطي، وقلّة آخرين من كتّاب القرن العشرين، بمن لا يصطنع لفظة إلاّ بعد أن يكون قد حقّقها في معجم موثوق، أو حفِظها في شعرٍ صحيح... وإلى بعض ذلك أومأت وأنا أتحدّث عن لغة العبادي التي هي لغة موثوقة لا يأتيها، أو لا يكاد يأتيها، الخطأ من بين يديها ولا من خلفها، لأنّ صاحبها حفّاظة للنصوص من وجهة، ولأنّه حريص على تحقيق ألفاظها قبل الاستعمال، غير مجتزئٍ منها بما يدور في سوق العصر، من وجهة أخرى...
وقد كنت، مع ذلك أودّ، وأنا أقرأ هذا الكتاب الكبير، لو أنّ العبادي تكلّف لمقالاته عناوين تسِمُ موضوعاتها، كما جرت عادة المؤلّفين، حتّى ييسِّرَ على قرّائه أن يعودوا إلى ما شاءوا دون أن يُضطرّوا إلى قراءة الكتاب من أوّله إلى آخره، وهو شأن لا يكاد يعدو المتخصّصين أو المحبّين. وعسى أن يتدارك الشيخ ذلك، إن اقتنع به، في طبعات لاحقة.