السقوط التاريخي للاستعمار الصهيوني: ..ومن سيحمي اسرائيل غدا؟!
جورج حداد*
اذا تجردنا عن الادعاءات الدينية ـ القومية التاريخية، السخيفة والكاذبة والمثيرة للسخرية، لليهودية والصهيونية العالمية، فإن عملية ظهور الحركة الصهيونية، ومن ثم "صناعة" "الوطن القومي اليهودي" الذي اعطوه اسم "اسرائيل"؛ ـ هذه العملية لا تنفصل بتاتا، بل هي ولدت تماما في رحم الظاهرة الاستعمارية، التي طبعت العالم بأسره ببصماتها الدامية، منذ الارهاصات الاولى للثورة الصناعية، وما تمخضت عنه مما يسمى "عصر التنوير" في اوروبا، وظهور البروتستانتية، والثورات البرجوازية الاوروبية وظهور الشيوعية، و"اكتشاف" اميركا، والحروب النابوليونية، ، واستعمار الشرق، وصولا الى الحرب العالمية الاولى وظهور الفاشستية والنازية وانهيارهما، وظهور وانهيار النظام الكولونيالي (الاستعماري) القديم معهما وفي اعقابهما.
ولذلك فإن الفهم او محاولة الفهم الصحيح للظاهرة الصهيونية ودولة اسرائيل، لا يمكن فصله عن الظاهرة الاستعمارية.
فما هو الاستعمار؟
ـ يرتبط الاستعمار بنشوء الانظمة الطبقية الاستغلالية القائمة، من جهة، على استغلال الانسان للانسان، ومن جهة ثانية، على التفاوت في التطور الاقتصادي والعسكري والنزعة القتالية ـ العدوانية، في مختلف المجتمعات الانسانية، على خلفية وجود الانظمة الطبقية الاستغلالية:
في البدء تنشأ الفئة او الطبقة الاستغلالية، داخل مجتمع انساني معين (قبيلة، اتنية، اتحاد قبلي، قومية، دولة الخ)، وتغتني وتتقوى وتقيم نظامها الاستبدادي، اولا عن طريق استثمار واستغلال "جماهيرها" الخاصة، اي جماهير المجتمع ذاته الذي نشأت فيه. وحين تجد هذه الفئة او الطبقة الاستغلالية انها قد اتخمت بالامتيازات، ولم يعد استغلال "مجتمعها" الخاص يكفيها، (وهذا في حال الازدهار)، او ان امتيازاتها قد شحت لاسباب طبيعية او اجتماعية ـ اقتصادية (وهذا في حال الافتقار)، فإن تلك الفئة او الطبقة تعمل على تشجيع "مجتمعها" (القبيلة، الاتحاد القبلي، الاتنية، القومية، الدولة الخ) الى غزو "المجتمعات" الاخرى وسلبها ونهبها، واخيرا: استعمار ارضها وبلادها وشعبها.
وبسبب قانون التطور المتنوع والمتفاوت لمختلف "المجتمعات" البشرية، كنتيجة منطقية لارتباط كل مجتمع بالزمان (والتاريخ) وبالمكان (والجغرافيا)؛ فإن الظاهرة الاستعمارية كانت تمثل عملية "قطع استمرار" للتطور "الطبيعي" لكلا المجتمعين: المستعمـِر والمستعمـَر.
وحينما يجري الحديث عن الاستعمار، يذهب التفكير عادة الى افريقيا واسيا، والشرق الادنى والشرق الاوسط والشرق الاقصى، والهند والهندوشين والجزائر وجنوب افريقيا الخ. وننسى (او نتناسى) ان اهم (بالنسبة لتطور النظام الرأسمالي العالمي والتاريخ العالمي برمته) وابشع وافظع استعمار عرفه التاريخ البشري هو استعمار اميركا.
فاستعمار اميركا وظهور "الدمقراطية الاكبر" او ما يسمى "الولايات المتحدة الاميركية" كان هو "الاستعمار الكامل" الناجح الوحيد (واذا لم يكن الوحيد، فهو الاكبر والانجح بين جميع عمليات الاستعمار الاخرى) في التاريخ العالمي. فبعد ان "اكتشف" القراصنة الاستعماريون ما سمي "اميركا"، وبدأ الزحف الاستعماري اليها، تمت الابادة الكاملة للسكان الاصليين (الهنود الحمر) الذين كان "عددهم يزيد على 112 مليون انسان لم يبق منهم في احصاء اول القرن العشرين سوى ربع مليون" (منير العكش، اميركا والإبادات الجماعية، دار رياض نجيب الريس، بيروت، 2002، ص 11).
ولن ندخل كثيرا هنا في تحليل ظاهرة استعمار اميركا. ونكتفي بطرح هذه "المسألة البسيطة" وهي: لماذا ينسى العالم ان اميركا هي "بنت الاستعمار" و"الابادة الكاملة" للسكان الاصليين، اي انها بلد اقامه (وبالطبع لا يزال "يحافظ عليه" و"يسيطر عليه") جزارون ساديون، "وحوش بشرية" و"اكلة لحوم بشر"؟
اننا نجد الجواب على هذه "المسألة البسيطة" عند الوحشين التوأمين: ستالين وهتلر:
في مواجهته للمعارضة داخل الحزب الشيوعي، والجيش الاحمر، والبلاد السوفياتية، كان ستالين يقول: "يوجد شخص، يوجد مشكلة؛ لا يوجد شخص، لا يوجد مشكلة". اي: اقضوا على كل معارض وعلى جميع المعارضين، فتنتهي المعارضة. وحكم ستالين الاتحاد السوفياتي حوالى 30 سنة، قضى خلالها على 30 مليون شيوعي (اولهم لينين)، وجندي احمر ومواطن سوفياتي؛ اي بمعدل مليون ضحية كل سنة؛ اي انه كان يلزمه ان يحكم 150 سنة حتى يقضي على كل الشعوب السوفياتية، ما عدا فرق الولادات. وطبعا هذا مستحيل. ولكن اذا كان ستالين غير قادر على القضاء على الشعوب السوفياتية، فقد قضى على المعارضة لحكمه المعادي للسوفيات وبالتالي فتح الطريق امام انهيار الاتحاد السوفياتي.
وكان هتلر يقول: يوجد يهود، يوجد مسألة يهودية. فاتخذ الحزب النازي سنة 1941 ما يسمى "قرار الحل النهائي"، اي القضاء التام على كل اليهود. ولكن "المسألة اليهودية" هي جزء من الحالة الامبريالية والاستعمارية التي اوجدت هتلر ليخدمها لا لتخدمه. و"اليهود" الذين وجه لهم هتلر "محرقته" هم "اليهود" الذين رفضوا الرحيل الى فلسطين بعد صدور "وعد بلفور"، اي "اليهود اللايهود" وكان كل هدف "المحرقة" ـ بالتنسيق مع الصهيونية العالمية ـ "التخلص" من اليهود الشيوعيين والاشتراكيين والدمقراطيين اللاصهيونيين، و"اقناع" اليهود العاديين باللجوء الى "ارض الميعاد". وبالتالي فإن محرقة هتلر ضد اليهود كانت جزءا من اللعبة الامبريالية والاستعمارية ليس اكثر. اي: كان مستحيلا على هتلر ان يقضي على "اليهود اليهود"، لانه كان من المستحيل عليه ان يقضي على الامبريالية التي اوجدته.
ومن المرجح ان ستالين وهتلر كانا يستفيدان من التجربة الاميركية في التصفية التامة للهنود الحمر، ولكنهما فشلا في تحقيق مثل ذلك "النجاح الاميركي" الذي ظل وحيدا كظاهرة استعمارية "كاملة" ناجحة.
كم يوجد من "الذكاء" (بقياس تاريخ غير محدد الى الان) في تدمير مجتمع الهنود الحمر وابادة 112 مليونا منهم، من اجل اقامة دولة عنصرية "منحطة وسافلة" بكل المقاييس الجمالية والاخلاقية والانسانية كالولايات المتحدة الاميركية؟؟!
ـ ان التاريخ لم يجب بعد على هذا السؤال. وهو سيبقى سؤالا للتاريخ، الذي ستخطه الاجيال القادمة بكل تأكيد. لأن التاريخ لا يَنسى ولا يُنسى!
ولكن اذا اخذنا مقياس "النجاح" لوحده لقياس "الذكاء"، فإن استعمار اميركا وابادة سكانها الاصليين كان استعمارا كاملا "ناجحا"، اي "ذكيا"! (حتى الان، على الاقل).
اما باستثناء المثال الاميركي، فإن ظاهرة الاستعمار اجمالا تتصف، او على الاصح قد اتصفت بالفشل، اي بالغباء.
فلا هي نجحت في ابادة السكان الاصليين ابادة كاملة كما جرى في اميركا، ولا هي كانت قادرة على الاستمرار في ان تحكم الشعوب المستعمرة كما تحكم بلدانها الاصلية، اي اقلية طبقية استغلالية تحكم اكثرية شعبية مستغلة.
ففي "الاطار الوطني" للمجتمعات الطبقية الاستغلالية يوجد فقط حاجز طبقي (اقتصادي ـ مالي ـ اجتماعي) بين الطبقة السائدة والشعب المسود. وحتى هذا الحاجز الطبقي لم يكن بالامكان ان يكون "تاما"، "جامدا" و"نهائيا"، بل هو كالسلم المتحرك: فدائما يوجد مستغـَلون ومستغـِلون، ولكن: دائما يوجد حكام يتحول اولادهم او احفادهم الى محكومين وبالعكس، اغنياء يتحولون الى فقراء وبالعكس، برجوازيون يتحولون الى حرفيين او بروليتاريين وبالعكس؛ ومن ثم كان ولا يزال يوجد اساس واقعي لتضليل قطاع شعبي واسع بـ"حسنات" النظام الاستغلالي القائم على التمييز الطبقي، على اعتبار ان "الارتقاء الى فوق" هو مسألة "نعمة من السماء" و"حظ" و"اجتهاد فردي" و"شطارة" و"فلهوية" وغير ذلك من الاوهام والخرافات السخيفة، ولكن الواقعية، والتي لا تغير شيئا في طبيعة المجتمعات الطبقية (حتى الدينية) القائمة ليس على الاخاء الانساني (والديني)، بل على التمييز بين الاخ واخيه واستغلال الانسان للانسان، داخل "المجتمع الاهلي" او "المجتمع الوطني" او "المجتمع الديني" ذاته. وتتولى الايديولوجية الطبقية الاستغلالية عملية التبرير الفلسفي ـ الاجتماعي ـ الديني للنظم الاستغلالية التمييزية: نظريات "المبادرة الفردية" و"حرية السوق" و"انا خلقناكم طبقات طبقات" الخ. ولكن في هذه المجتمعات يبقى المستغـَلون والمستغـِلون ابناء جنس واحد، اتنية واحدة، لون واحد، دين واحد، "وطن" واحد الخ.
اما في اطار المجتمع الاستعماري، فإن الاستغلال الطبقي القائم على التمييز الانساني يستمر، ولكن يضاف اليه التمييز بين الناس على اساس الدين والعرق واللون والانتماء "الوطني"، ويتولى الاستعمار عملية قسرية للمطابقة بين "المحتوى الاستغلالي" مع "الشكل البشري" بالذات، اي ان الاستغلال يتخذ "شكلا" عنصريا محددا: الاقلية الاستعمارية هي من جنس او عنصر او دين معين، والاكثرية المستعمرة هي من جنس او عنصر او دين آخر. وهنا يتخذ الصراع المتولد عن الاستغلال والاستعمار لا شكلا طبقيا ـ اقتصاديا ـ اجتماعيا ـ ثقافيا ـ ايديولوجيا فقط؛ بل ـ وبالاضافة الى كل ذلك ـ شكلا قوميا، عنصريا، فئويا ـ دينيا؛ وتصبح العلامة المميزة بين الطرفين المتصارعين ليس فقط نوعية وحجم الملكية ودفتر الحسابات الخ، بل الانتماء الفئوي ـ الديني، والقومي، والاتني، واللغة ولون البشرة الخ.
وبالطبع لقي الاستعمار بعض "الشعبية" الاضافية في المجتمع الاستعماري ذاته، لان بعض فتاته كانت تلقى الى بعض جماهير البلد الاستعماري. فكانت، مثلا، زوجة عامل منجم بريطاني قتل ابنها الوحيد مع الجيش الملكي الاستعماري في الهند، تدعو آخر الشهر من كل قلبها بطول العمر للملك او الملكة، ليس لان هذه الام الثكلى يهمها كثيرا الكومنولث البريطاني، بل لان التعويض الشهري الذي كانت تتلقاه، عن دم ابنها القتيل، من وزارة المستعمرات البريطانية، كان يفوق الأجر الشهري الضئيل لعامل المنجم الذي هو زوجها. كما ان الشباب الانكليز كانوا يفضلون الانضمام الى الجيش الاستعماري البريطاني والقيام بـ"مغامرة العمر" في الهند او قبرص او غيرهما والتمتع بامتيازات وملذات ومغامرات نسائية استثنائية والحصول على ضمان شيخوخة وتعويض اصابة او وفاة واجور عالية، لا تقاس بأجور "العمل الشاق والقذر" في المناجم او سكك الحديد او افران الصلب والحديد.