قراءة في المشهد السوري لتأطير النقاش.. روايتان تتناحران على احتكار تفسير المشهد.. ونزيف الدم السوري هو الحقيقة القاطعة الوحيدة
أرجو أن يُسْمَحَ لي بوضع إطار أحسبه وأميل إلى اعتباره موضوعيا نتناقش من خلاله في المسألة السورية.. وفي هذا الإطار لن نعرضَ موقفا نهائيا ولا حاسما للمسائل الخلافية في المشهد السوري.. وننتظر أن يُثار النقاش بمنتهى الموضوعية والتجرد في ضوء هذا الإطار.. ومن يرى من الأصدقاء أن هذا الإطار غير موضوعي، أو أنه غير مناسب ليتم الحوار في حدوده ومن داخله، فليعرض علينا إطارا آخر يراه أكثر تجردا وموضوعية كي نناقشَه فيه.. فنحن في نهاية الأمر طلاب حقيقة، ولسنا عشاق جدل بيزنطي..
من الواضح أن المواطن العربي عموما لم يعوِّد عينية إلا على لونين فقط هما الأسود والأبيض، وأن عيني أي مواطن من مواطني هذه الأمة مصابةٌ بعمى ألوان من النوع الذي يحول بينها وبين استقبال الألوان "المركبة"، وتحديدا "اللون الرمادي". بينما الواقع يؤكد لنا على الدوام أن من يريد أن يتعاطى مع السياسة أو أن يفهمها على أقل تقدير، فإن أول ما يجب عليه فعله، هو أن يُحَرِّرَ نفسه من ثنائية الألوان المضلِّلَة هذه، ألا وهي ثنائية "الأسود والأبيض"، وأن يبدأ بتكييف عينَيْ دماغه كي تتجاوبا مع اللون الرمادي.
دعونا نحترم عقولنا وعقول قرائنا ومناقشينا، ونقرر أن نتحدث في السياسة، وليس في أكلة "كِبِّة" أحدنا يريدها نيِّئَة والآخرون يريدونها على خلاف ذلك. السياسة أمر كبير، وسوريا دولة ذات موقع جيوسياسي خطير، والشعب السوري شعب عربي عريق وأصيل وطليعي دائما، وفلسطين ليست لي وحدي، ولا لأيِّ كان من الفلسطينيين منفردا، بقدرٍ أكبر أو أقل مما هي لأي مواطن سوري، بل ولكل الشعب السوري، كما أن سوريا من "درعا" إلى اللواء السليب "الإسكندرونة"، ليست لأيِّ مواطن سوري دمشقي أو حموي أو حلبي.. إلخ، بقدرٍ أكبر مما هي لي ولك وله ولنا، ولكل فلسطيني وأردني ولبناني، وبالتالي عربي.
فخلال الثلاثينيات من القرن الماضي، قاد ثورة عام 36 على أرض فلسطين، مواطن سوري هو "عز الدين القسام"، واستشهد على ثرى أرضها. وكل بيانات ثورة "عبد القادر الحسيني" المقدسي الأصل، والذي كان يقود تنظيم "الجهاد المقدس" من عام 35 ولغاية عام النكبة، كانت تصدر بالترويسة التالية.. "بيان صادر عن ثورة جنوب سوريا". فكلنا سوريون إذن بالمعنى التاريخي لسوريا الطبيعية التي قسمتها اتفاقية "سايكس بيكو". وبالتالي فكلنا فلسطينيون. فلا أيُّ مواطن سوري ولا الرئيس بشار الأسد نفسه يزاودان علينا بسوريتهما، ولا نحن ولا كل فلسطين تزاود على أيِّ سوري بفلسطينيتها. أرجو أن تكون هذه البداية مفهومة للجميع، وإلا فإن حديثنا اللاحق سيفقد معناه كليّة. إذن فأنا وأنت وهي وهو ونحن في الأردن وفي سوريا مواطنون سوريون، نتحدث ونتناقش حول وطننا "سوريا"، ونحن أيضا "فلسطينيون" نتناقش ونتحدث حول وطننا "فلسطين".
مبادئ الإطار التي نرى أن يقوم عليها النقاش
بداية يجب أن نعترف بالمبادئ التالية التي أصبحت قواعد في علم الثورات، وفي سنن ونواميس وقوانين الحراك الشعبي..
1 – لا يوجد شعب في العالم يتحرك ويطالب بالإصلاح أو يثور بناء على أجندة أجنبية، ومن يعتقد ذلك هو طرف – مع الأسف – جاهل بالحقائق وبحركة التاريخ، ويصور الشعب الثائر أو المتحرك بأنه شعب خائن وعميل لطرف أجنبي، وأن النظام وحده هو الوطني والنزيه.
ولكن يوجد أشخاص أو توجد فئات داخلية أو خارجية لها أجنداتها الخاصة المستقلة أو المرتبطة، تحاول أن تستغل ظرف الثورة وأن تركب الموجة وأن تقفز، إما على الثورة أو من خلالها لتحقيق أهدافها. وهذا موجود في كل الثورات. بل حتى الأنبياء المدعومون من الله مباشرة، كانوا يعانون من هذه الفئات. ولعل فئة "المنافقين" التي تحدث عنها القرآن الكريم كثيرا، هي نموذج من نماذج الوصولية والارتزاق ومحاولات القفز على ثورة الإسلام العظيمة منذ بداية تكوينها وتشَكُّلِها، وهي الفئة التي عانى منها المسلمون كثيرا حتى وهم قوة ممثلة في دولة.
إذن فلا قيمة حقيقية لادعاء وجود وصوليين وأصحاب أجندات يحاولون القفز على حراك الشعب واستغلاله وإفقاده قيمتَه وتجييره، إذا كان الهدف من وراء هذا الادعاء، التشكيك في الحراك الشعبي والتأصيل لمواجهته ومقاومته، لأن هذه الظاهرة مرافقة لكل حركات المجتمعات وثوراتهم في كل مكان وزمان، ومع ذلك فالشعوب كانت تثور وتتحرك وتطالب وتضحي وتُقْمع، وأحيانا كانت تنتصر وتحقق ما تريده بتضحيات قليلة أو كبيرة، وأحيانا كانت تفشل، وأحيانا كان أصحاب الأجندات يوفقون في تحقيق أهدافهم لسبب أو لآخر، وأحيانا كانوا يفشلون.
2 – إن ثورة أو تحرك شعب ما من أجل مجموعة مطالب، ليست "موضة" ولن تكون، ولا يوجد شعب يثور بعد ثورة شعب آخر، لأن هناك مصممي أزياء أقنعوه بأن هذا الثوب الجديد الذي هو الثورة أجمل وأنسب، ولكن قد يتأثر شعب كان خائفا أو غير مقتنع بأمر ما، أو مترقبا أو صابرا، بعد أن يرى شعبا آخر ثار قبله وحقق نتائج، فيقرر أن يأخذ زمام المبادرة مثلما فعل غيره.
فآخر ما يفكر فيه شعب من الشعوب أن يثور ويقدم الضحايا إذا كان بإمكانه تحقيق مطالبه بدون تضحيات. فتاريخ الثورات والأنظمة القمعية والاستعمار، يثبت لنا هذه الظاهرة بلا مواربة. لا يوجد شعب يفضل الموت على الحياة، ولا الحلول الصعبة على الحلول السهلة، ولا الصدام على التجاوب المثمر. ولا يوجد شعب في التاريخ بدأ مطالبه بالثورة والصدام، بل هو ينهي مطالبه بها.
بل حتى الثورات العربية في مصر وتونس، بل وفي ليبيا واليمن، وأيضا في سوريا، بدأت مطلبية ثم تطورت إلى الصدام بسبب الأنظمة التي تعاملت معها بعنف ودموية. وكذلك هي في الأردن والمغرب والجزائر وغيرها من الدول العربية الأخرى التي ما تزال شعوبها تتململ.
وإن من يتصور الأمر على غير هذا النحو، فهو في الواقع لا يعرف شيئا عن المجتمعات والشعوب، ولا عن التاريخ وحركته، ناهيك أن يعرف شيئا عن السياسة والاقتصاد. والأجدر به أن يقبل بدور المتفرج والمتلقي، بدل أن يقحم نفسه في أدوار المنظرين والمتفلسفين وأصحاب المواقف والآراء بغير علم ولا هدى.
3 – لقد أصبح هناك فرع علمي يُدَرَّس في كليات "علم الاجتماع" وكليات "التاريخ" وكليات "العلوم السياسية" هو "علم الثورة"، تكونت قواعده وأساساته من خلال استقراء تاريخ الثورات على مدى آلاف السنين من حركة الشعوب والمجتمعات في مختلف بقاع الأرض. وبالتالي فعلى من يريد التحدث في ثورة أو حركة أو مطالب شعب من الشعوب، أن يكون علميا، وأن يرتكز إلى قواعد هذا العلم، تماما مثلما يرتكز الطبيب في أي حديث أو حوار طبي له إلى قواعد علم الطب.
ومن أهم قواعد "علم الثورة"، أنه لا يوجد شعب في العالم يتحرك ويثور بكامله أيا كانت الظروف. فالفئات الصامتة والمترددة أو حتى المتعاطفة بصمت، مع هذا هذا الطرف أو ذاك، تشكل دائما الأغلبية العظمى من المجتمع. ولقد بين استقراء تاريخ الثورات، أن كل الفئات التي ثارت وتحركت وكافحت وضحت ونزلت إلى الشوارع واعتصمت وخرجت في مسيرات معادية للأنظمة التي ثارت ضدها، في كل الثورات التي عرفها البشر، وحتى في القرن العشرين عصر الاتصالات والفضائيات والإنترنت، كانت تتراوح بين 1% و5% من مجموع أفراد الشعب.
وكانت هذه النسب هي التي تحقق النتائج وتسقط الأنظمة وتعيد بناء المجتمعات من جديد، وكان المجتمع يعتبر نفسه قد ثار وانتصر بمجرد أن هذه الأقلية النشطة والفاعلة ثارت وأسقطت النظام. ولم يحدُث أن قال أحد بأن الثورات كلها ساقطة وفاشلة لأن الذين فجروها وحققوها هم قلة قليلة. وبالتالي فكل من يردُّ على ثورة ما أو على حراك شعبي ما بأنها أو بأنه قلة بسبب عدم تجاوز هذه النسبة، هو جاهل بالتاريخ وبالثورات، ولا يعتبر رده علميا على الإطلاق، وعليه أن يعيد النظر في مواقفه.
فالصمت والحياد والسلبية ليس موقفا. فعندما يخرج مليون سوري إلى الشوارع يطالبون بإسقاط النظام، فهذا لا يعني أن الـ 22 مليون الذين لم يخرجوا إلى الشارع هم مع النظام، فكما أن من كان ضد النظام خرج وعبر عن موقفه، فمن كان مع النظام لا يعتد به إلا إذا خرج إلى الشارع وعبر عن موقفه. في أي انتخابات لا يعتدُّ بمن لم ينتخب، بل بمن انتخب فقط، لأنه وحده الإيجابي والفاعل، أما من آثر المكوث في بيته فهو سلبي لا أثر له في الفعل وفي النتيجة. فأكبر عدد احتواه "ميدان التحرير" خلال الثورة المصرية هو 2 مليون متظاهر، وهذا العدد يشكل "2,5%" فقط من تعداد الشعب المصري. ومع ذلك فهذه النسبة هي التي أسقطت النظام دون أن يتهمها أحد بأنها أقلية.
4 – في ثوراتنا المعاصرة ثبت أن أهم سلاح هو سلاح الإعلام، ومن يملكه يحقق نتائج أفضل من خصمه، ويكون أكثر قدرة على إقناع المراقبين من غيره. وبالتالي فنحن كمراقبين ومشاهدين معنيون ببناء مواقفنا من أي حراك شعبي أو ثورة شعبية على أساس نقطتين رئيسيتين..
الأولى.. ما يمكننا تكوينه من الزخم الإعلامي المتساقط على رؤوسنا من صورٍ لما يحدث.
الثانية.. ما يمكننا فهمه من خلال وعينا السياسي التاريخي بموقع الحدث وبمكونات هذا الموقع على جميع الأصعدة والمحاور.
وبالتالي فلا مكان لمتحدث يدلي بدلوه بدون إيراده لحقائق مقنعة وحجج دامغة سياسا وإعلاميا، وإلا فإن الاستماع إليه مضيعة للوقت.
4 – لا يحق لأي كان أن يفرض على شعب معين أجندة لا يريدها، أو أن يحرمه حقوقه بحجة أجندة معينة هو يريدها. فكل الأجندات التي يتبناها النظام الحاكم لشعب ما يفترض أن تكون منبثقة من الشعب وأن تكون هي ذاتها أجندات ذلك الشعب، وألا يزاودَ عليه النظام بتلك الأجندات، لأن النظام أساسا إنما تبناها كأجندات له، تجاوبا منه مع إرادة الشعب الذي اعتبرها أجنداته الخاصة، قبل أن تكون أجندات ذلك النظام، وهو ما يعني أن الشعب قَبِلَ بالنظام عندما قبل به لأنه تبنى تلك الأجندات.
والخلاصة أن الشعب لا يزاوَدُ عليه في الأجندات، ولا يقال له وهو يثور ويتحرك: "لو سقط النظام" ستضيع هذه الأجندات!! لأن من يقول هذا إنما يتهم الشعب بأنه غير معني بتلك الأجندات، وأنه يريد أن يفرض على الشعب أجندة لا يريدها ولا يتبناها، في الوقت الذي يفترض أن ينبثق كل شيء عن الشعب وعن الشعب وحده، بما في ذلك كلُّ أجندات النظام.
ففي سوريا مثلا، فإن النظام السوري يعتبر نفسه ويعتبره الكثيرون "نظاما ممانعا" و"يدعم المقاومة"، ويطرح أجندة "معادية لأميركا وإسرائيل"، وهو إذا كان بالفعل كذلك فلأن الشعب السوري كذلك، وليس رغم أنف الشعب السوري. كما أن هذا التوصيف بالممانعة للنظام السوري يعني في حال صحته، أن هذا الشعب رضي بهذا النظام طيلة الفترة السابقة لأنه هو الذي يريد ذلك، أي الشعب السوري نفسه.
وبالتالي فمن يزاود على الشعب السوري بالقول بأن المقاومة في خطر، وبأن الممانعة في خطر إذا سقط النظام، فكأنما يقول للسوريين: إنكم غير ممانعين وغير معنيين بالمقاومة، وبالتالي فلكي نحافظ على المقاومة والممانعة يجب أن يبقى النظام. أي أن الشعب السوري ليس قوميا ولا وطنيا في جوهره، وأن هذه الوطنية وهذه القومية مفروضة عليه بهذا النظام، وأن القومية والوطنية نزلت عليه من السماء عندما جاء هذا النظام. وهذا خطأ ولا يجوز في حق السوريين، ولا في حق أي شعب، لأن فيه امتهان له وعدم احترام لقوميته ووطنيته وانتمائه.
5 – عندما يستطيع نظام معين يواجه حراكا شعبيا أو ثورة شعبية، أن يثبت أن هناك من يستغل حركة الشعب وثورته ومطالبَه كي يخدم أجندات معادية، فعليه أن يتعاون مع هذا الشعب على تخليص حراكه أو ثورته من أنصار وأتباع تلك الأجندات، لا أن يعتبر ذلك الأمر حجة لقمع الحراك والثورة وقتل الناس، مستخدما هذه النقطة قميص عثمان لتبرير ما يفعله.
فكل مدني يسقط خلال الفعل الثوري حتى لو كان برصاص هؤلاء الذين يتهمهم النظام بالعدوان، يتحمل مسؤوليته النظام والنظام وحده، لأن حماية المواطنين حتى وهم يثورون ويتظاهرون ويتحركون في الشارع، هي مهمة النظام وحده. ومع ذلك فالنظام معني بإثبات دعواه بوجود مستغلين يريدون تحقيق أجندات خارجية معادية، وألا يكتفي بمجرد الادعاء دون دليل مقنع، لأن الأمر سينقلب عليه ويفقده مصداقيته فيما يفعله. ولا أحد معني بتصديقه في روايته أو تبنيها أو الدفاع عنها بدون إثباتات قاطعة تتقبلها معايير هذا الزمان.
6 – في ضوء كل الحقائق السابقة دعونا نتحدث الآن عن الحالة السورية مستخدمين ما قعدناه وثبتناه حتى الآن للوصول إلى تكوين صورة أقرب ما تكون إلى الواقع حول ما يحدث في سوريا..
بداية نعترف ويعترف معنا كل عاقل بأن النظام السوري قد يكون مستهدفا أميركيا وإسرائيليا وسعوديا وخليجيا لأكثر من سبب. نستطيع تلخيصها بحسب وجهة نظر من يتبنون "أن النظام السوري مستهدف"، فيما يلي..
1 – موقفه الإيجابي من المقاومة في لبنان وفلسطين.
2 – موقفه المساند لإيران في مواجهتها للولايات المتحدة في الإقليم على خلفية الملف النووي الذي يعتبر مدخلا للتنافس الإقليمي بين قوى إقليمية كبرى، هي "إسرائيل" و"تركيا" و"إيران"، تحاول إيران أن تكون لاعبا أساسيا فيها.
3 – عدم توقيعه لمعاهدة سلام مع إسرائيل حتى الآن، مع العلم بأن ليس لديه أي مانع في ذلك، إلا أن الظروف وعدم مصداقية إسرائيل وأميركا حتى الآن بسبب بعض الأجندات الإقليمية هي التي حالت دون تحقيقه.
ولا يوجد في تصورنا سبب آخر يجعل هذا النظام مستهدفا من قبل هؤلاء.
فهو مستعد إلى الانفتاح وإلى ترتيب أوضاع الإقليم بدون صراعات وصدامات وحروب وللاعتراف بإسرائيل، ومشاركته في مؤتمر مدريد أكدت ذلك، وهو مستعد لقبول ما يقبله الفلسطينوين في فلسطين حتى لو كان حكما ذاتيا هزيلا على جزر متباعدة في الضفة. فالقضية الفلسطينية بالنسبة له شأن فلسطيني صرف. وليس هنا مجال قراءة التاريخ لإثبات ذلك، ولكن منذ عام 1974 وهو تاريخ قبول العرب بتمثيل المنظمة للفلسطينيين والأمر يسير على هذا النحو. والكل قد مارس دوره في اللعب بالمنظمة وبالقضية بما يخدم أجنداته الخاصة، لا فرق في ذلك بين سوريا ومصر والأردن والعراق وليبيا والسعودية، ولكن كل بطريقته.
وفي المقابل يعتبر نظام حكم البعثيين في سوريا – وهو ما لا يختلف عليه عاقلان بمن فيهم الرئيس بشار الأسد نفسه، مع أي شخص في العالم - أقدم حكم حزبي فردي دكتاتوري تسلطي حتى الآن في عالمنا المعاصر. فمدة تقترب من الخمسين سنة من حكم الحزب الواحد، حتى لو كان مؤسسو هذا الحزب ملائكة وأنبياء مرسلين، ستخلق حتما – وهذا ما حدث فعلا – نوعا من البلادة السياسية والاجتماعية، وقدرا من انعدام هرمونات التجدد والتطور في قمة هرم النظام وفي قواعده أيضا، فضلا عن أبشع أنواع الفساد المالي والإداري والأخلاقي، في رجال السلطة وفي المجتمع الخاضع لهكذا سلطة، بناء على ما يقول به علم النفس الاجتماعي، وعلم السلوك السياسي.
أي أن قدرة هذا الحزب وهذه الفئة المتسلطة على إدارة دولة حساسة جيوسياسيا، يفترض أن تكون متطورة وتنعم بالحرية، أصبحت في ذمة التاريخ، أعني بذلك القدرة على الإدارة. لذلك أقرَّت كل الأنظمة السياسية في العالم المتحضر مبدأ التقاعد السياسي، الذي يمنع حتى شخص الرئيس من الترشح لأكثر من مرتين متتاليتين لمنصب الرئاسة.
ولا يفوتني أن أذكر في هذا المقام أن أنظمة التقاعد المهني في الدول المتقدمة وعلمية التوجهات، توصلت إلى ضرورة فرض التقاعد على العسكريين والمعلمين والذين يتعاملون بموجب مهنهم مع الحشود والنفوس البشرية، في وقت مبكر. فالمعلم والعسكري يتقاعدان بعد مرور مدة تتراوح من 12 إلى 16 سنة من العمل، أعني في تلك الدول المتحضرة، بسبب طبيعة العمل الذي يجعل العاملين في تلك الحقول المهنية، يفقدون القدرة على العطاء المفيد إذا ما استمروا على رأس أعمالهم لمدد تزيد عن ذلك الحد.
فما بالك بالرؤساء والقياديين الذين يعتبر عملهم من أشق الأعمال.
بل ما بالك بحزب سياسي تسيطر على أفراده بالضرورة المنافسات والشلليات كلما تقدم الزمن به وبهم؟! ولسنا بحاجة في هذا المقام لأن نورد أمثلة على ما فعله الحزب الحاكم - المتبلد سياسيا بالضرورة - بعد كل هذه العقود بالشعب السوري العظيم.
لا يختلف عاقلان إذن على أن إعادة إنتاج الدولة السورية بما يجعلها دولة ديمقراطية ودولة حريات وتعددية هو مطلب مشروع، ولا يمكن للشعب السوري أن يكون مادة لتحرير أرضه من إسرائيل، ولا لدعم المقاومة في لبنان وفي فلسطين، ولا لتفعيل المشروع القومي الوحدوي لسوريا، ولا لمساندة إيران ضد البرنامج الأميركي الصهيوني، ولا لمواجهة القوى الرجعية في الخليج بل وفي الأردن أيضا، إذا لم يكن هو – أي الشعب السوري – حرا وسيدا أولا وقبل كل شيء.
وبالتالي فكل مطالبه مشروعة، وعلى رأسها إسقاط النظام، فهذا القرار قراره وحده، ولا يحق لأحد أيا كان أن يستدرك عليه شكلَ الحل في معركته ضد نظام حكمِه المستبد. فالأجندة الوطنية للشعب السوري لا يحددها له أيُّ أردني ولا أيُّ لبناني ولا ايُّ فلسطيني، ولا أيُّ عربي آخر من حيث المبدأ.
ومن جهة أخرى، لا يختلف مراقبان نزيهان أيضا، على أن سوريا مستهدفة بصفتها مشروعا قوميا وتحرريا وممانعا ومقاوما للعلاقات الإمبريالية في الإقليم، بسبب وضعها الجيوسياسي الحساس والخطير الذي تمثله الجغرافيا والديموغرافيا والتاريخ، وليس بالضرورة بسبب النظام الذي ما تزال ممانعته محل شك وريبة من حيث الجوهر والنتيجة.
ولا تناقض بين هذا وذاك.
أي أنه لا يجوز أن يُفرض على الشعب السوري، إما القبول بفقدان الحرية داخل وطنه وبقبول الاستبداد والفساد والاستلاب كي يستعيدَ حرية أرضه، ولكي تتمكن سوريا من دعم المقاومة، والوقوف ضد الإمبريالية، أو بالحصول عليها داخل هذا الوطن بالشكل الذي يطالب به، ليفقدَ بموجبها أرضَه، ولتفقد المقاومة دعمَه لها، ولتتجزأ بلده، وتغرق في حربٍ أهلية، وتستقوي الإمبريالية عليه وعلى كل العرب.
هذه معادلة خاطئة وقميئة وممجوجة حاول الدفاع عنها كل الطغاة بلا استثناء، ولا يجوز لنظام يطرح نفسه نظاما ممانعا مثل النظام السوري أن يجعلها خيارا أمام شعبه، لأن نظام مبارك قبله فعلها، ولأن نظام القذافي قبله يمارسها، ولأن نظام علي عبد الله صالح المقيت ما يزال يفعلها حتى بعد طرد الرئيس نفسه.
مع الأسف، وبقدر ما نعلن ثقتنا بأن قناة مثل قناة الجزيرة فقدت الكثير من مصداقيتها في تشخيص وعرض ملف ثورة الشعب السوري لأسباب نفهما جيدا، بحيث أنه يمكننا القول ربما أن أكثر من نصف ما يأتينا عبرها وعبر قنوات الإعلام الأخرى غير صحيح، وهو من قبيل التهويل والمبالغة والتوجيه، فإننا لم نعد نملك أيَّ مبرر منطقي يجعلنا نثق في رواية النظام السوري عما يحدث، ليثبت لنا هذا النظام والإعلام السوري الرسمي المساند له، أنهما لا يختلفان عن الجزيرة في التهويل والمبالغة إن لم يتفوقا عليها، ولكن على الجانب الآخر من ميدان الحدث وساحته!!!
فقد قامت رواية النظام السوري لكل ما يحدث في سوريا على فكرة مختصرة هي..
"أنه لا يقتل المدنيين السوريين المتظاهرين سلميا. وأنه يتدخل بدباباته ومدرعاته ومدفعيته ليقاتل مجموعات وعصابات مسلحة تقوم هي بقتل المواطنين وترويعهم. وأنه يخرج من المدينة أو البلدة التي يدخلها بعد إنجاز المهمة وتخليص المواطنين من تلك العصابات، التي تقوم أيضا بقتل رجال الأمن والجيش السوري المشاركين في تخليص المدن والقرى والمواطنين من تلك العصابات"، بل إن النظام يذهب بعيدا في روايته، عندما يؤكد على أنه في الكثير من الأحيان يتدخل بطلب من الأهالي أنفسهم لحمايتهم.
فيما تقوم الرواية الأخرى المقابلة، وهي رواية الثوار، وما يسمى بالمعارضة، وما يسمى بشهود العيان، على المعنى الضد والمقابل، وهي تقدم تفسيرا غير تفسير النظام لما يحدث، فنسمع ما يلي..
"لا يوجد مسلحون إطلاقا، وكل المظاهرات سلمية لا تحمل أي سلاح، ولا وجود للعصابات المسلحة، ولا أحد يطلق النار على قوات الأمن والجيش، وهي وحدها التي تطلق النار على المتظاهرين سلميا. ومن يُقْتل من رجال الأمن أو الجيش، إنما يُقْتل من زملائه أو ممن يطلقون عليهم "الشبيحة"، عندما يرفضون إطلاق النار على المتظاهرين السلميين". ولقد أصبح وجود "الجيش الحر" في الأشهر الأخيرة، واحدا من الأسباب التي تؤدي إلى موت جنود الجيش النظامي بسبب الصدامات التي تنشب بين الجهتين من حين لآخر.
دعونا الآن نتساءل كمراقبين محايدين يسعون إلى معرفة ما يحدث على وجه الحقيقة..
هناك روايتان متناقضتان، ونحن لا نملك مصدرا لرواية ثالثة مادام النظام السوري يمنع كل وسائل الإعلام من الوصول إلى ساحة الحدث لنقل الصورة كما هي.. من نصدق ولماذا وعلى أساس؟
ولا نجد أنفسنا معنيين في هذا المقام بإعارةِ أيِّ انتباه لادعاء أن هناك قنوات فضائية ووسائل إعلامية تغطي الأحداث، فالدنيا والمنار والعالم وغيرها، هي وسائل إعلامية غير محايدة على الإطلاق. وبالتالي فلا ننتظر منها تصويرا حقيقيا لما يحدث، دون أن يكون هذا الموقف منا مساسا بمهنية تلك القنوات وحرفيتها التي لا نراها متحررة من التحالف مع الشريك الأيديولوجي.
في الواقع على صاحب كل رواية أن يسوق أدلته وإثباتاته كي يقنعنا بصحة روايته. فماذا ساق الثوار والمعارضون من أدلة؟ وماذا ساق النظام السوري من أدلة؟
ونحن عندما نطالب بذلك في هذا المقام، فليس لأننا – في هذا العرض الإطاري – مع هذا الطرف أو ذاك، بل لأننا مع الحقيقة، ومع سوريا الممانعة والمقاومة والمشروع القومي، ومع الشعب السوري وحقه في الحرية والديمقراطية والتعددية، والحياة الكريمة في أرقى معانيها التي تليق بهذا الشعب العريق.
لن نتعرض لذكر الأدلة التي ساقها كل واحد من الطرفين. فعرضٌ إطاريٌّ كالذي نقدمه هنا لنتناقش في المشهد السوري من خلاله، لا يحتمل سوق الأدلة، ونترك الأمر لمن تتاح له الفرصة ليقرأ عرضنا هذا والتعليق عليه وعرض رأيه في ضوئه، كي نفهمَ كيف يفكر المراقبون والمحللون والمهتمون والأصدقاء. ثم ربما يكون لدينا رأي ندلي به في حينه. فعذرا ألف عذر على التوقف عند هذه النقطة الآن. ونحن جميعا في انتظار التعليقات والمداخلات.
وإذا كان هناك اعتراض على هذا الإطار نفسه، فنحن نرحب بأيِّ إطار منطقي ومحايد لمناقشة المشهد السوري، نقبل به جميعا كمرجعية.
ولكم بالغ الشكر والتقدير على سعة الصدر والقراءة حتى النهاية.
https://www.facebook.com/note.php?note_id=246571625421229