كـَبـِرتُ في هذه المدينة ..ذكراها لن تذوب أبدا في داخلي..
ستظل تعذبني مثل ترنيمة رتيبة لها صدى خاص تفاجؤني كل صباح
كانت العصافير تنتفض وتصطخب فوق اسيجة مزارعها المملوءة بالنخيل التي تشم رائحة جذوعها حينما تصهدها الشمس طوال النهار ..
بيوتها الصغيرة الدافئة تشرق وراء أبوابها أمهات يخبزن العجين ..ويسخنّ حليب أطفالهن اللذين يتجولون حول الأزقة يلعبون..وجوههم الصغيرة تحمل صفو البراءة ..العالم بالنسبة لهم ساحة لعب ..كنا نكره اقتراب الليل لأنه يؤجل الفرح إلى الغد..ذلك الغد الذي نصحو فيه على رائحة خبز التنـّور ورائحة الزعتر مع أكواب الشاي والحليب ..وهكذا يتجدد يومنا..نضع رؤوسنا على وسائد نظيفة و نحلم..
مـرّت أكثر من عشر سنوات منذ لعبنا في هذه الشوارع التي تبدو لنا كمهد للذهب ..الآن..نرى أعشاب ضارة تتفجـّر خلال الشقوق في الشوارع وأرصفتها...البيوت الدافئة لم تعد تحتضن بأمهات آمنات ..ولا بأطفال سعداء ..ضاقت الدروب
بل أضحت كالملاجيء من قسوة الانفجارات مرة للهجوم ومرة للإنتقام..خلفت سديم طويل..منعت دفء الشمس من السطوع ..تركت نوافذ محطمة وخزانات مياه جافة وآثار دمارالإنتقام مخلفا عالما مأساويا تحول لمصحة عقلية ومستشفى وسجون ..
وهكذا وجدت مدينتي التي يحتضنها نهرين امتلآ بالرصاص تقف مرتبكة ..حزينة حين وضعت ثقتها في وعود ترنمت بإيقاع الخديعة .
**