بسم الله الرحمن الرحيم
{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ* يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
الحمد لله الذي أنزل القرآن بلسانٍ عربي مبين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين، المبعوث رحمة للعالمين، وبعد.
يعالج هذا البحث موضوع "السلام" كمصطلحٍ قرآني، تحديداً وتأصيلاً وتفصيلاً.
مفهوم السَّلام، التحديد:
السَّلام هو: كمالُ الأمن والأمان وتمامهما.
والمقصود بالأمن: العوامل الذّاتيَّة التي تؤمِّن للذَّات استقرارها ونموَّها دون خوف أو وجل؛ سواءٌ أكانت هذه الذَّات فرداً أم جماعةً أم أمَّة.
وأمَّا الأمان: فهو العوامل الخارجيَّة التي تنعكس على الذات، فتؤمِّن لها أيضاً استقرارها ونموَّها دون خوف أو وجل.
الأمن ذاتيٌّ، والأمان بينيٌّ؛ فالأمن الفكريُّ – على سبيل المثال – هو العوامل التي تُشعر الذات بالاستقرار، وهي هنا التفكير السليم المبني على الحجَّة والمنطق، وامتلاك الأدوات التي بها يتمُّ تحصيل العلم والمعرفة؛ فالجهل لا يُؤمِّن للذات أمنها الفكري.
أما الأمان الفكري فهو العوامل الخارجية التي تساعد في نموِّ الذات من خلال تأمين البيئة المناسبة للتواصل الفكري مع الآخر، كحريَّة التفكير واحترام الرأي الآخر وحفظ حقوق الملكيَّة الفكرية وغيرها؛ فالقمع وعدم احترام الرأي الآخر لا يؤمِّن للذات أمانها الفكري، وبالتالي يُفقدها أمنها الذاتيَّ تدريجياً لأنه يمنعها من النموِّ والتطوُّر، والفكر الذي لا ينمو ويزدهر يصبح عديم الفائدة لأنه يتخلَّف عن غيره في التطوُّر.
كما أنَّ الفقر يؤدي إلى انعدام الأمن الاقتصادي، وهو عاملٌ ذاتيٌّ كما ذكرنا لأن سببه – أي الفقر - الافتقار للأدوات أو المؤهِّلات التي تدفعه، أما الغش أو الاحتكار أو التدليس فهي عوامل تؤدي إلى انعدام الأمان الاقتصادي، وهي عواملُ بينيَّة خارجيَّة كما ذكرنا؛ فقد يكون المرء غنيَّاً قد حقَّق أمنه الذاتيَّ في الجانب الاقتصادي، لكنه لا يشعر بالأمان بسبب انعدام العوامل التي تحقِّق له الأمان كانعدام الأمانة، أو انعدام الصدق في التعامل، أو تفشّي الغشّ أو السرقة؛ ومثل هذا المرء لا يمكن له أن ينمِّيَ ماله أو تجارته أو صناعته رغم امتلاكه لأدواتها ومؤهِّلاتها.
بهذاالمعنى يكون الأمن عامل تحصين واستقرار (حماية)، ويكون الأمان عامل إنماء وازدهار (رعاية).
أما المقصود بالكمال: فهو اجتماع العوامل الذاتيَّة والخارجيَّة (الأمن والأمان)، بحيث يغطيان كافة الجوانب التي تحتاجها الذات؛ كالجانب النفسي والفكري والاقتصادي والاجتماعي والعسكري و ... دون انتقاص لأيِّ جانب.
وأما التَّمام: فيقصد به النوع، أي نوع الأمن في كل جانب من الجوانب التي تحتاجها الذَّات.
فالفرق بين الكمال والتَّمام هو أن الكمال يُعنى بالجانب الكمِّي، فما من جانبٍ من جوانب الذَّات إلا وهو مغطى بالأمن؛ بينما يُعنى التمام بالجانب النوعيِّ، أي بنوعيَّة هذه التغطية ومدى مناسبتها للإنسان، وليس بمساحتها، فالمساحة أو الكمية هي من مفردات الكمال.
فالسلام إذاً:
هو توافر الأمن والأمان في كل جانبٍ من جوانب الحياة التي تحتاجها الذات، بكمالٍ وتمامٍ، وسواء أكانت هذه الذات فرداً أم جماعةً أم أمَّةً.
ولابدَّ من بيان أن السلام هو نتاج فعلٍ دائمٍ متصاعد؛ لأن الإنسان، أو الجماعة، أو الأمَّة، بحاجة دائمة لتطوير ورفع مستوى الأمن والأمان؛ وهذا يتطلب حركة فاعلة دؤوبة لحماية السلام ورعايته.
لقد وردت في القرآن الكريم ثلاثة تصاريف تشترك مع كلمة السلام في الجذر اللغوي، بيد أنها تختلف في مفهومها عن السلام، وفق التحديد المراد ههنا، وهذه التصاريف هي: السِّلْم، والسَّلْم، والسَّلَم.
1- السِّلْم: هي حالٌ أدنى من حال السلام، أو هو طورُ ما قبل السلام؛ يكون فيها نقصٌ بكمال الأمن أو تمامه. فقد يكون السِّلْم تاماً في جانبٍ أو أكثر من الجوانب التي تحتاجها الذات، أو قد يكون كاملاً في عدد جوانبه إلا أنه لم يصل في كل جانب لحدِّ التمام. كما أن السِّلْم يكون بين أطرافٍ متكافئة، ومتضامنة فيما بينها بهدف حمايته وتطويره ليبلغ طور السلام.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
2- السَّلْم: هي حالٌ يدعو فيها أحد الأطراف لإقامة السِّلْم مع طرفٍ آخر، يظن فيها الداعي نفسه أنه مكافئاً له، بينما يكون واقع الأمر أن الطرف الآخر أقلَّ تكافؤاً معه. ولأن السِّلْم لا يستقيم حاله إلا بين أطرافٍ متكافئة، فإن الدعوة في مثل هذه الحال تتطلَّب تنازلاتٍ من الطرف الداعي الأقوى .... ولم يرد هذا المصطلح في القرآن الكريم إلا مرة واحدة في سورة محمَّد -عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم- في الآية رقم: 35: {فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ}.
3- السَّلَم: هو الخضوع لمتطلبات إقامة السِّلْم والمباشرة فيه؛ ويكون بين طرفين غير متكافئين، يكون فيها الطرف الخاضع هو الأضعف. ويكون السَّلَم في حالةٍ لا يكون فيها أمام الطرف الخاضع خياراتٍ أخرى؛ أي أن خضوعه ليس نابعاً من قناعةٍ بالسِّلْم، ولكن واقع الحال يفرضه؛ وهو ما يُعبَّر عنه اليوم بالاستسلام.
{إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} النساء90
{سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَـئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } النساء91
{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} النحل28
{وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} النحل87
إذاً، وبناءً على ما تقدَّم، فإن السَّلْم والسَّلَم هما حالتان متشابهتان من حيث الشكل في الدعوة للسِّلْم، بينما الاختلاف يكون في حال الداعي من حيث مكافأته للطرف الآخر، فإن كان الداعي هو الأقوى فإن دعوته تسمَّى سَلْماً، وإن كان الداعي هو الأضعف فإن دعوته تسمَّى سَلَماً.