بين ليلة وضحاها اختفوا من شوارع مدن المحافظة الشمالية الوادعة وأريافها !
فلم تعد تلحظ مظهراً يدل على وجودهم ..السيارات الحديثة (غير المسجلة )
تحتل الطرقات ، والأرصفة يحتلها أصحاب المحال التجارية ، وما بين هنا وهناك ينسلُّ المارة تائهين محاصرين .
طبعاً لن يقول قائلٌ أن مشكلة الفقر قد حُلّت .. فدون ذلك طريق طويل يمر عبر نفق العدالة الاجتماعية المظلم ، وتكافئ الفرص الذي ما زال البعض يذكره بالخير رغم وفاته منذ زمن بعيد ..
وما حصل أن مظاهر الفقر والفقراء هي التي باتت غائبة ، وفي الداخل (داخل البيوت وفي الداخل الإنساني ) تفاقمت وبلغت الذروة .
شريحة واسعة من الناس لم تعد تخرج إلى عملها صباحاً لتعود بالخبز مساء كما هو حالها منذ سنين ، شريحة قالت دائماً : نحن يومَ نعمل نأكل ويوم لا نعمل ينام أطفالنا جائعين .وها هم اليوم لا يعملون ، وبالتالي لن يأكلوا ،
سكان محافظة إدلب المليون والنصف لم يعودوا يستيقظون على أصوات الدراجات النارية وذات الثلاث عجلات التي كانت تميز المحافظة ، الآن تخلصنا من الضجيج السمعي ، فمنذ أيام وقوات الأمن الداخلي مدعومة بعناصر حفظ النظام تمشط مدن وقرى المحافظة وتصادر كل شيء يسير على عجلتين أو ثلاث ، تصادرها ولا تصادر أصحابها ، بل تتركهم لعجزهم وجوعهم وحيرتهم ، القوات نفسها تمر بالسيارات الفارهة التي لا تحمل لوحات التسجيل ، وتمر ببسطات التبغ المهرب غير عابئة .
أنا أيضا أستاء من ضجيج الدراجات وأعاني ربما أكثر من غيري نتيجة قرب بيتي من السوق والشارع الرئيسي في مدينتي ، ولكني أعاني أكثر من جوع الناس الذين لم يعودوا قادرين على احتمال الجوع .
سيقول البعض إن السلطات المعنية تطبق القانون .. فلنقل .. إذاً أين السلطات المسؤولة عن عيش المواطن وتأمين البدائل القانونية ، ثم من يُدخل هذه الدراجات بالآلاف إلى البلد ويبيعها للفقراء؟ ونزيف الدراجات هذا ما زال مستمراً منذ سنين ( وعلى عينك يا تاجر ) ، إذاً كالعادة يثري التجار الكبار من الصفقات الممنوعة ، ويدفع( الصغار) الثمن الذي لا يملكونه أصلاً ..
أليس من القانون أيضاً مكافحة التهريب الأخطر .. التبغ الذي لا نعرف مصدره ، ودراسة حالات السيارات غير المسجلة نتيجة المبالغ الخيالية المتوجب دفعها كرسوم للتسجيل والرفاهية .. وبما أنني لست من المرفهين وليسوا بحاجة للدفاع عنهم ، أعود إلى أصدقائي الفقراء ، أحدهم موظف تجاوز الخمسين ويبعد مكان عمله عن سكنه ثلاثة كيلو مترات ، كان يستعين عليها بالله وبدراجته النارية الخردة ، ما عساه يفعل الآن ؟!
لن يستطيع الرجل أن يدفع ما يقارب 70 ل. س يومياً أجور انتقال بالتاكسي، ولو مشى على رأسه ..
وهذه حال الموظفين وهم أكبر شريحة تعتمد الدراجات ذات العجلتين وسيلة غير مقنعة للوصول إلى أعمالهم ، هذا في غياب ( السرفيس ) كوسيلة نقل شعبية في سائر أرجاء الساحة الإدلبية .
أما الشرائح الأخرى التي تعتمد الوسيلة ذاتها فهم صغار المزارعين وأصحاب المحال والمهن الصغيرة لقضاء حوائج أعمالهم ، وهم الآن ليسوا أفضل حالاً من الموظف ، وربما ينظرون إليه بعين الحسد !
أما الطامة الكبرى فتكمن بمصادرة الدراجات ذوات العجلات الثلاث ، والتي تشكل جزأ من ذاكرة وحاضر المحافظة ، فقد كانت منذ عقود مضت وما زالت وسيلة أساسية لنقل (البضائع ) فالطريق بدونها لن يكون سهلاً من سوق الهال إلى سوق الخضرة ، ومن سوق الخضرة إلى البيوت ، وصولاً إلى مهامها الأساسية في نقل الأشياء الصغيرة التي لا تستوجب الاستعانة بشاحنة ، هكذا تعوّد الناس هنا ، طبيعة الحياة أجبرتهم ولقمة العيش غير مختارين ولا راضين .. ولكن هذا هو الممكن ، الذي لم يعد ممكناً اليوم ..
السلطات ليست بحاجة لاقتراحاتي لتسوّي أمر هؤلاء ، فهي تعرف أن الشاحنات الصغيرة تحل المشكلة ، ولكن ليس في ضوء الأسعار والضرائب الراهنة ..
فرفقاً بالقوارير .. واتقوا الله في الضعفاء ، كي لا ينطبق عليهم قول الشاعر
ويحُ الفقير فما تراه يلاقي
سُدتْ عليهِ منافذ الأرزاقِ
عصفتْ بهِ وبسربهِ ريحُ الشقا
فتساقطوا كتساقط الأوراقِ