المثير للدهشة أن الكثير من آثارنا، وأهمها وأعزّها، موجودة في متاحف أوروبية، وكذلك أهم مخطوطاتنا المكتوبة ومراجعنا التاريخية الموثّقة، نجدها في تلك الدول الأجنبية.
فما بالك، والشهادات العليا في الأدب العربي، والتاريخ العربي، والجغرافيا العربية تأتيك أيضاً من الجامعات الأوروبية! وأن المستشرقين «وهم من الأجانب» مرجعنا المصدّق والموثّق في قراءة تاريخنا!
إن الظروف المأساوية من احتلالات وغزوات، التي مرّت على بلادنا العربية، استهدفت الأرض والبشر والتراث والذاكرة، وتلك الموجودات في المتاحف الأوروبية وصلتهم عن طريق السرقة الموصوفة، ولو استطاعوا سرقة أهرامات الجيزة، وقلعة حلب، والبتراء، وسدّ مأرب لما توانوا لحظة عن التنفيذ.
ولعل ما جرى ويجري في خضم هذا «الربيع العربي» من تقصّد في استهداف وتدمير وسرقة المتاحف والتراث والأوابد الوطنية والتاريخية في سورية، وفي قتل الرموز من الأعلام والمثقفين والعلماء، هو الذي دفعني لسرد هذه الحادثة التي كانت قبل بداية الأحداث في سورية، وقد كتبت عنها في حينه، عندما اضطرتني دراسة، كنت أعمل عليها، للرجوع إلى مرجع ورد ذكره في كتاب صدر في منتصف القرن قبل الفائت، وبدأت أبحث، دون جدوى، إلى أن أرشدني صديق لمراجعة مراكز المعلومات الأجنبية المنتشرة في بلادنا!
وقد أوصلتني جولاتي المضنية تلك إلى أحد المراكز، وإليكم تفصيل ما جرى.
دخلت مركزاً «أوروبياً» أدخله لأول مرة، مكاتب رحبة وصالات مطالعة وتعليم لغات وعروض أفلام تعليمية وغيرها، طالعتني لوحة مكتوبة بلغة عربية فصيحة تتحدث عن إرشادات كيفية طلب الكتب، «أن يتخلص الداخل إلى المكتبة من كل ما يحمله من كتب أو أغراض وذلك بتسليمها إلى مكتب الأمانات، وألا يلبس ملابس فضفاضة، وأن تجري المطالعة حصراً في صالة المركز».
نزلت إلى القبو، حيث توجد النفائس، طالعتني لوحة أخرى:
(تستطيع استعارة الكتب المطبوعة بعد عام 1920 للمطالعة والتصوير، أما الكتب المطبوعة قبل هذا التاريخ فيمكن استعارتها للمطالعة داخل المركز، ويمنع تصوير أكثر من كذا صفحة منها).
المفاجأة عندما سألت عن كتاب قديم جداً، أرشدتني القوائم المكتوبة بالموجودات أنه موجود، وممنوع تصوير أيّ صفحة منه، تقضي التعليمات أن أتقدم بتبيان سبب طلبي لذلك المخطوط بالذات، مشفوعاً بطلب ذكر اسمي وعملي واختصاصي والغاية من رغبة الاطلاع، وهذه المعلومات تدخل إلى المسؤول، الذي لم أتمكن من رؤيته، وهو الذي يقرر الموافقة من عدمها.
قلت، هو النظام.. لكن سؤالاً ظلّ يطرق في رأسي:
- لماذا وكيف يمتلك مركز معلومات أجنبي قائم على أرضي وفي بلدي مخطوطات نادرة تخصُّ تراثنا وأدبنا وثقافتنا، ممنوعة عني، وممنوعة عن أهم مراكز المعلومات الوطنية، وليست موجودة في مكتباتنا؟ ومن هي المرجعية الوطنية التي تستطيع ضبط هذا الأمر؟
وأنا في تجوالي في ذلك الصرح، رأيت بالعين المجردة رجلاً بسيطاً، يقترب من نهاية العقد الخامس من عمره، يرتدي «شروالاً» كالحاً، ومعطفاً رثّاً، يضع على رأسه حطّة بيضاء، يخفي تحتها خطوط شيبه، وعلى كفيّه الخشنتين آثار الأرض التي يعمل فيها بالزراعة والفلاحة، رأيته يحمل بين يديه رزمة من الأوراق الصفراء القديمة، يربطها بحبل رفيع، وكأنها دستة من صحون البيض، دخل يحملها إلى غرفة في ركن المركز بدا لي أنه يعرفها جيداً لأنه لم يتردد في الدخول إليها، ولم يلبث بعد قليل أن خرج يحمل في يده رزمة رقيقة من أوراق نقدية.! حشرت رأسي من الباب الموارب استكشف سرّ الغرفة الخفيّ، فوجئت برؤية رجل يحمل ملامح أوروبية لافتة، وأن رزمة الأوراق الصفراء.. اختفت!
متى فقدت الأمّة ثقافتها، وذاكرتها، وتراثها، وتاريخها، ستفقد بالتالي هويتها الوطنية والقومية، وهذا ما تسعى إليه قوى الشر في الخفاء، وفي العلن.