أهمية الأمن وضرورته

تكمن أهمية الأمن بحاجة النفس البشرية إليه بما لا يقل عن حاجتها إلى الطعام والشراب ؛ فكما أنه بالطعام والشراب يسدّ المرء جوعته، ويروي ظمأته، ويقضي بهما نهمته، فيشحذ عزمه، ويشتد عوده، ويقوى صلبه، فيتهيأ بذا جسده لمزاولة مختلف نشاطاته ومتطلباته الدينيه والدنيويه على السواء، فكذلك يفعل الأمن؛ ففي ظلاله تتهيأ نفس المرء لمزاولة نشاطه الإنساني على وجه أكمل، ووجهة أفضل، وإتقان أدقّ وأمثل.
أما إذا رفع الأمن من بين الناس وضاع، وحلّ مكانه الخوف وشاع، عندها لايستسيغ المرء ما في الحياة الدنيا من متاع، ويظل في خضم الاضطراب والصراع، ولجة الخصومة والنزاع، فيتكدر صفو عيشه، ويصير كلّ امرئ خائفاً يترقب، يخشى الآخر من بطشه وطيشه ... فتنعدم من بين الناس الثقة، وتتسع بينهم الهوّة، وتزداد الشقة.

من هنا كان الأمن ضرورة حياتيه لابدّ منها، ولا يسع المرء تجاهلها وغضّ الطرف عنها، وحسبك دليلاً على ما ذكر أنّ القرآن الكريم قد قرنه بنعمة الطعام والشراب وهو يسجل على قريش نعمته ، ويظهر منته فقال تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف}([1]) أي: أطعمهم بدلاً من الجوع الذي تقتضيه بيئة البلاد، وآمنهم بدلاً من الخوف الذي تقتضيه قلتهم، فـ (من) هنا بدليّة([2])، وتنكير {خوف} للتعظيم؛ أي: من خوف عظيم([3])، كخوف التخطف في بلدهم ومسايرهم([4])، فدلّ ذلك أن رغد الرزق والأمن من الخوف من أكبر النعم الدنيوية الموجبة لشكر الله تعالى([5]).
وإذا ما حفّ الأمن أجواء العبادة فقد تقلد العُبّاد مقاليد السعادة، فكما جاء الأمن في القرآن الكريم مقترناً بالطعام والشراب كذلك تجده قد اقترن بأجواء العبادة، كما في قوله تعالى: {وإذ جعلنا البيت مثابة للناس وأمناً}([6]) فلئن كان في الطعام والشراب يكتسب المرء الغذاء الماديّ للجسد؛ ففي العبادة يكمن الغذاء الروحي الذي لامناص منه لكل أحد.
وقوله تعالى {مثابة}: مصدر([7])، (من ثاب يثوب إذا رجع، ويقال مثابة مثاب مثل مَقامة ومُقام)([8]). قال ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ ( لا يقضون منه وطراً، يأتونه ثم يرجعون إلى أهليهم ثم يعودون إليه)([9]). وبمثل ذلك قال مجاهد([10])، والضحاك([11])، وسعيد بن جبير([12]).
وارتبط جعل البيت مثابة للناس بالأمن، لأن الأخير ركن ركين في كون البيت مثابة ، فقوله {وأمنا} أي : (أمنا للناس) على نحو ماذكر ابن عباس([13]) - رضي الله عنهما - بمعنى (موضع أمن)([14])، لذا نبّه القرآن الكريم أهل مكة إلى هذه النعمة الجسيمة التي يرفلون بها وهم عنها غافلون ، وعن شكرها معرضون ، نعمة الأمن على العبادة وأجوائها ومكانها وأمن مكة وسكانها ، فقال {أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون }([15]).
قال الضحاك - رحمه الله تعالى -: ( هي مكة وهم قريش أمّنهم الله تعالى فيها )([16]) فجعلها مصونة من النهب والتعدي سالما أهلها من كل سوء([17]) ، والحال أنه { ويتخطف الناس من حولهم} والخطف ( الأخذ بسرعة )([18]) ، فيسلب من حولهم ويختلس قتلا ونهباً([19]) ؛ إذ ( كانت العرب حول مكة يغزوا بعضهم بعضا ويتغاورون ويتناهبون وأهل مكة قارّون آمنون فيها ، لايُغزون ولا يُغار عليهم مع قلتهم وكثرة العرب)([20]) فكانوا في بحبوحة من الأمن([21])، لذا قال قتادة - رحمه الله تعالى - : ( كان لهم في ذلك آية أنّ الناس يغزون ويختطفون وهم آمنون )([22]) ، ومع ذلك كان موقفهم إزاء هذه النعمة وتجاه هذه الآية ما حكاه الله تعالى عنهم { أفبالباطل يؤمنون } . قال قتادة : ( أفبالشرك )([23]) بمعنى ( فكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد )([24]) وبنعمة الله يكفرون ويجحدون . وفي آية أخرى نظيرة للآية السابقة فنّد الله تعالى مزاعم المبطلين الذين أتوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وألقوا معاذيرهم الباطلة ، وتعللاتهم العاطلة لصدهم عن سبيله ونكوبهم عن صراطه أنّ العرب ستتخطفهم من أرضهم إن هم آمنوا به واتبعوا هداه([25])، فقال سبحانه : {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا أو لم نمكن لهم حرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقا من لدنا ولكن أكثرهم لايعلمون }([26]) .
( فكيف يكون هذا الحرم أمْنا لهم في حال كفرهم وشركهم ولايكون أمْنا لهم وقد أسلموا واتبعوا الحق )([27]) ترى ( أفمن أمّنهم وهم عصاة يدع الناس يتخطفونهم وهم تقاة؟!)([28]).
ويلحظ المتأمّل في الآية الكريمة أنّ نعمة الأمن جاءت مقترنة بأجواء العبادة وبجبي أي: جلب([29]) الثمار إلى تلك الديار رزقا من العزيز الغفار ، فمن أسرار ذلك أن الأمن ركيزة أساسية لأداء العبادة الربانية وتنشيط الحركة الاقتصادية.


([1]) سورة قريش الآيتان (3،4).

([2]) انظر: ابن عاشور، التحرير والتنوير 30/561.

([3]) انظر: الأندلسي، أبوحيان محمد بن يوسف: البحر المحيط في التفسير10/550.

([4]) انظر: أبو السعود: إرشاد العقل السليم 5/905و الزمخشري: الكشاف: أنوار التنزيل 5/196. أبوحيان: البحر المحيط 10/550.

([5]) انظر: السعدي، عبدالرحمن بن ناصر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 4/676.

([6]) سورة البقرة آية (125).

([7]) انظر: التيمي، أبوعبيدة معمر بن المثنى: مجاز القرآن، 1981م، 1/205.

([8]) ابن عاشور: التحرير والتنوير، 1/708. وانظر: الفراء، أبوزكريا يحيى بن زياد: معاني القرآن ، 1/76. الزجاج، أبواسحاق إبراهيم بن السري: معاني القرآن 1/205. الشوكاني: فتح القدير، 1/177.

([9]) الطبري، ابن جرير: جامع البيان عن تأويل آي القرآن1/533

([10]) انظر: ابن عيينه، سفيان: تفسير سفيان بن عيينة ص210.

([11]) انظر: السمعاني، أبوالمظفر منصور بن محمد: تفسير القرآن العظيم

([12]) انظر: الثوري، سفيان بن سعيد: تفسير سفيان الثوري ص49. والصنعاني، عبدالرزاق بن همام: تفسير القرآن 1/59

([13]) انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 1/146. الشوكاني: فتح القدير 1/179.

([14]) الزمخشري: الكشاف 1/185. الشوكاني: فتح القدير 1/177.

([15]) سورة العنكبوت آية (67)

([16]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 13/363.

([17]) انظر: أبوالسعود: إرشاد العقل السليم 4/267.

([18]) القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 13/363. والشوكاني : فتح القدير 4/265.

([19]) انظر: أبوالسعود: إرشاد العقل السليم 4/267. الطبري: جامع البيان 11/18. الشوكاني: فتح القدير 4/265.

([20]) الزمخشري: الكشاف 3/365. وانظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 21/34. الشوكاني : فتح القدير 4/265.

([21]) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 21/34.

([22]) الطبري: جامع البيان 11/18.

([23]) الطبري: جامع البيان 11/18. القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 13/364. الشوكاني : فتح القدير 4/265.

([24]) ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/394.

([25]) انظر: الواحدي: أسباب النزول ، ص284. والقاضي عبدالفتاح: أسباب النزول عن الصحابة والمفسرينص169. والطبري: جامع البيان 11/115. والقرطبي: الجامع لأحكام القرآن 13/300. وابن كثير: تفسير القرآن العظيم 3/370. والشوكاني: فتح القدير 4/224.

([26]) سورة القصص آية (57).

([27]) ابن كثير: نفسير القرآن العظيم 3/370.

([28]) قطب، سيد: 5/2704.

([29]) انظر: ابن عاشور: التحرير والتنوير 20/149. والشوكاني: فتح القدير 4/224.