إذا نطق السفيه فلا تجبه
د. محمود نديم نحاس
كتب يسألني: يبتلى المرء في حياته بأناس لا تنفع معهم كل وسائل التعامل الراقي لأنهم تربوا على السفاهة! فكيف يتصرف تجاههم؟
السفاهة هي الخفة والطيش والجهل، وسفه علينا أي جهل، وسفّهه أي جعله سفيهاً أو نسبه إلى السفه. والسفيه هو الجاهل الطائش الوقح، وهو أيضاً الذي يبذّر ماله فيما لا ينبغي، وجمعها سفهاء، وهي سفيهة. والجهل كما إنه نقيض العلم وضد المعرفة، فإنه أيضاً نقيض الحلم وضد الرشد. ونقرأ في القرآن الكريم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً. قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا؟ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)، أي أستجير بالله أن أجعلكم موضعًا للسخرية والاستخفاف أو أن أستهزئ بكم.
والسفيه طويل اللسان، سيء الكلام، قبيح الجواب. فإن كان غلاماً يافعاً نعلل ذلك بأنه لم يأخذ نصيبه من التربية في بيت أبيه أو في مدرسته أو في مجتمعه، أو إنه لما يفهم معنى الحياة بعد، ولذلك فهو لا يعرف كيف يتعامل مع الناس لجهله بأقدارهم. وقد تعركه التجارب وتطحنه السنون فيتعلم ويصبح من أهل الأحلام والنهى. لكن المصيبة تكون عندما يتجاوز سن الطيش ويبقى سفيهاً فمتى نتوقع منه أن يرشد؟
فإذا ابتليت بسفيه، فأفضل وسيلة للتعامل معه هي تجاهله وعدم الرد عليه، فلا تضرك أذيته، بل الأفضل ألا تلقي له بالاً حتى لا تشغلك كلماته، ولا تعتمل في فكرك عباراته فتأخذ من وقتك وجهدك واهتمامك وتملك مشاعرك. وفى ذلك يقول الامام الشافعي:
اذا نطق السفيه فلا تجبه *** فخير من إجابته السكوت
فإن أجبته فرّجت عنه *** وإن تركته كَمَداً يموت
وقال غيره:
يخاطبني السفيه بكل قبح *** فأكره أن أكون له مجيبا
يزيد سفاهة فأزيد حلما *** كعود زاده الإحراق طيبا
وقال سالم بن ميمون:
سكتُّ عن السفيه فظن أني *** عييتُ عن الجواب وما عييتُ
شرار الناس لو كانوا جميعا *** قذى في جوف عيني ما قذيتُ
وقال الصفدي:
واستشعر الحلم في كل الأمور ولا *** تسرع ببادرة يوما إلى رجل
وإن بليت بشخص لا خلاق له *** فكن كأنك لم تسمع ولم يقل
وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يقْبَل الميّسر الممكن من أخلاق الناس وأعمالهم، وأمره بكل قول حسن وفِعْلٍ جميل، وأمره أن يعرض عن منازعة السفهاء ومساواة الجهلة الأغبياء فقال له (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ). والإعراض يكون بالترك والإهمال، والتهوين من شأن ما يجهلون به من التصرفات والأقوال، وعدم الدخول معهم في جدال ينتهي بالشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد. وفي هذا صيانة له ورفعا لقدره عن مجاوبتهم.
ولكن إذا تجاوزوا الحد وأثاروا غضبه فماذا يفعل؟ لقد أمره المولى سبحانه بأن يستعيذ بالله ليهدأ ويطمئن (وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ. إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ). ونزغ الشيطان وساوسه. و "ينزغنك" أي يصيبنك ويعرض لك عند الغضب وسوسة بما لا يحل. فأمره الله أن يدفع الوسوسة بالالتجاء إليه والاستعاذة به. والتعقيب (إنه سميع عليم) يوضّح أن الله سبحانه سميع لجهل الجاهلين وسفاهتهم، عليم بما تحمله النفس من أذاهم. وفي هذا ترضية وتسرية للنفس، فحسبها أن الجليل العظيم يسمع ويعلم.
وقد دخل رجل على عمر رضي الله عنه فقال: يا ابن الخطاب، والله ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل! فغضب عمر حتى همّ بأن يقع به. فقال له جليس عنده: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه عليه السلام (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) وإن هذا من الجاهلين. فما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافا عند كتاب الله عز وجل.
وفي الحديث (وإن امرؤ شتمك وعيّرك بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه، فإنما وبال ذلك عليه).
وقد قيل: لا تجادل السفيه فيخلط الناس بينكما.