الصمت حسن الاستماع
حدثني رجلٌ فاضلٌ عن قصةٍ حدث لشابٍ في إحدى القرى الصغيرة في أيام
آبائنا، وهي ما سأنقلها لكم بلسان ذلك الشاب:
رفعتُ يدي وصوتي بالسلام، وأنا أتجه إلى ذلك الرجل الوقور، شيخ قريتنا، والذي ألقى ظهره على سور جدار بيته مُفترشًا بساطًا صغيرًا قُبيل صلاة العصر، وقد وضع بجواره أباريق الشاي ودلال القهوة العربية مُستقبلاً ضيوفه من عامةِ الناس، كعادته كل يوم ..
فلما جلستُ بين يديه، قلتُ له بعد التحية:
جئتكُ يا شيخنا طالبًا منك المشورة، فوالله إني في حالٍ سيءٍ منذ أن تزوجتُ في العام الماضي ..
تطلع الشيخُ إليَّ باسمًا، ثم قال:
ولمَ يا بني ؟ أراكَ بحمدِ الله في أحسنِ حال!
قلتُ وأنا أهزُّ رأسي يمنةً ويسرة، خافضًا صوتي قدر المستطاع :
زوجتي يا شيخ .. زوجتي .. مجنونة!
منذ أن أدخلُ بيتي في المساء، أطلبُ شيئًا من الراحة، حتى تنفجرَ في وجهي صارخةً:
لماذا تأخرت؟
لماذا لم تحضر ما طلبته منك؟
لماذا لم تُحسِن اختيار البضائع التي جلبتها معك؟
ما الذي أتى بك باكرًا اليوم ؟ ألا يكفيني رؤيتك طوال المساء؟؟
ثم تنطلقُ يا شيخ؛ فلا تُبقي في كلِ مرةٍ كلمةً شاردةً ولا واردةً في قاموسِ العذابِ، إلا وصبتها على رأسي!
وقد كنتُ أتجاوزُ عنها في البدء، غير أني لم أستطع مواصلة ذلك، فأصبحتُ كلما قالت زوجتي كلمةً، رددتُ عليها باثنتين ! فتمضي الدقائقُ والساعات في جدالٍ وخصامٍ .. فعراك ..
ثم بتنا نقضي كثيرًا من الليالي؛ أشدُ في شعرها، وتمزقُ بأظافرها وجهي!!
وقد مللَّتُ يا شيخ .. وكرهتُ هذا الحال .. وأريد أن أطلق هذه المجنونة .. قبل أن أقتلها!
هزَّ الشيخُ رأسه وقال:
عرفتُ يا بني سبب مشكلتك ! وإني أعرفُ لك علاجًا سوف ينهي كل مآسيكَ
مع زوجتك!
قلتُ للشيخِ وأنا أتعجبُ:
يا شيخ .. أيُ علاجٍ ستمنحنيه، وهي من به الجنون!
أنا أرغب الآن بطلاقها .. فإن كان من علاجٍ، فهو لها يا شيخُ وليس لي!
وضع الشيخُ يدهُ على كتفي متبسمًا وقال:
دعنا يا بني نمضي الآن لأداء صلاة العصر، وحينما نرجعُ سوف أخبركَ بما تفعله بإذن الله!!
أشار لي الشيخُ بالجلوس، فور دخولنا (مجلسه) بعد أدائنا صلاة العصر، ثم دخل إلى وسطِ بيته قبل أن يخرجَ حاملاً معه قارورةً صغيرةً محكمة الإغلاق .. ثم جلس إلى جواري وقال وهو يُشيرُ إليَّ بالاقتراب:
تعال يا بني .. هذا هو العلاج الذي وعدتك به .. وأريدك في كل مرةٍ تصل فيها إلى باب بيتك، أن تقف قبل الدخول، ثم تُسمي بالله وتشرب مقدار (غطاءٍ) واحدٍ من هذه القارورة، ثم تبقيه في فمك لمدة نصف ساعة، دون أن تبلعه أو أن تمجه، إلا بعد مُضي هذا الوقت!
وأريدُ أن تواصل ذلك لمدة عشرةِ أيام .. ولن ترى بعدها زوجتك إلا كما تحبُ بإذن الله!
قلتُ وأنا أهزُّ رأسي عجبًا:
حسنًا يا شيخ .. سأفعلُ ما أمرتني به .. وأسألُ اللهَ أن يجعل شفاء زوجتي من جنونها، على يد قطراتِ قارورتك التي سأشربها!!
وقفتُ أمام باب بيتي، قبل أن أُخرج تلك القارورة الصغيرة من جـيـبي لأسمي
بالله مبتلعًا مقدار غطاءٍ من السائل الذي تحتويه، ولكم تعجبتُ حينما كان أقربُ ما يكون إلى الماء، فقد كان دون طعمٍ ولا لونٍ .. ولا رائحة!
دخلتُ إلى البيت وكلي حرصٌ على تنفيذ ما وصاني به الشيخ .. وصلتُ إلى المطبخ، لتنظر إليَّ زوجتي نظرتها المعتادة كلما دخلت، رافعةً حاجبها الأيسر وخافضةً لحاجبها الأيمن .. قبل أن تنطلقَ قائلةً:
أخيرًا وصلت؟
هاه؟ هل أحضرت ما طلبته منك؟ أم أنني كالعادة أُتعب نفسي دون نتيجة؟
هيا .. هات ما أحضرت .. دعني أرى ..
ثم نظرت إلى عينيَّ مستغربةً من صمتي، قبل أن تهزَّ سبابتها أمام وجهها لتشير إلى فمها وهي تقول:
لماذا لا ترد؟ تكلم ! هل ابتلعت لسانك؟؟
ثم انطلقت في (ضجيجها المعتاد) دون توقف، لانسحبَ في صمتٍ إلى غرفةٍ صغيرةٍ مجاورة، وأنا أفكرُ في أن علاجَ الشيخِ لم يثمر شيئًا بعدُ .. في هذا اليوم!
ومن الغد، كررتُ نفس ما فعلتهُ بالأمس، فشربتُ من القارورة الصغيرة قبل
دخولي البيت، لتأتي زوجتي لتصب على رأسي كلامها المعتاد، وأنا مُطبقٌ شفتيَّ حرصًا على بقاء العلاج في فمي!!
وزوجتي تُكثر من التوقف والتطلع إليَّ مستغربةً من حالي.. قبل أن تصمت لحظاتٍ لتقول لي:
هل تريدُ أن أضع لك طعامًا ؟!
(وبعد خمسة أيام):
سلمتُ على الشيخ قبل أن أجلس بجواره وأنا أسأله:
يا شيخ .. ماذا حوَتِ القارورة التي أعطيتني؟!
تبسم الشيخُ في وجهي وهو يقول:
أخبرني أولاً يا بني ، هل نجح العلاج؟!
قلتُ وأنا أهزُّ رأسي للأسفل:
هذا ما حدث بحمد الله .. لقد عادت زوجتي ــ منذ يومين ــ كما كانت ليلة العرس!!
أخبرني يا شيخ .. ماذا وضعت في القارورة؟
لقد سميتها بـ( قارورة الحلول )!
ضحك الشيخ ضحكةً قصيرة قبل أن يقول:
يا بني .. لقد سكبتُ لك في تلك القارورة ماءً فقط.. ماءً من (الكوز) بداخل البيت!
قفز حاجباي إلى أعلى جبيني، وأنا أقول مُتعجبًا:
ماء ؟ مجرد ماء ؟؟ ألم تضع في قارورتك علاجًا أو .. ثم ازدردتُ لُعابي قبل أن أردف:
ماء .. كيف شُفيت زوجتي إذن ؟!
تبسم الشيخ مجددًا وقال لي:
يا بني .. إن مشكلتك كانت تتمثل في أمرين:
الأول : أنك كنتَ تصل إلى بيتك متعبًا بعد عملك طوال النهار .. تطلب الراحة والسكون، دون استعدادٍ لأي جهدٍ داخل المنزل ..
والثاني : أن زوجتك كانت تعاني من الوحدةِ ، ومن الصمت والمللِّ طوال
النهار وحدها ..
وكانت تحاولُ أن تتحدث معك كلما وصلتَ إلى البيت، غير أنها في الغالب لا
تجد موضوعًا لتبدأ به الحديث، سوى اللوم على أي أمر، وكان السيئ في الأمر
أنك لا تتحملُ تساؤلها ولومها ورغبتها في الحديث، فكنتَ حينما ترد عليها
تقسو في الرد، ولا تتجاوز عن أي خطأ لها في مخاطبتك، بل ولعلك أحيانًا تتجاوز المقبول بما يُفضي إلى ما جعلك تفكرُ بطلاق زوجتك ..
وقد كان ينبغي عليك يا بني، أن تنصتَ لزوجتك، وأن تدع لها المجال لتقول لك ما يجيشُ بصدرها، وأن تصمتَ لتمنحها الفرصة لذلك ..
لذا كان العلاج الذي منحتك إياه في القارورة، مجرد ماءٍ من الكوز .. لكي تُغلق فمك فلا تردَ عليها وأنت متعبٌ منزعجٌ مُستاء .. فأنا لم أرغب إلا أن أجعلك تتعلم الصمت لتمنح زوجتك الفرصة لتحكي، فإن فعلتَ ذلك، فستكون قد منحتها الفرصة لأن تُـفرغ لك ما في قلبها، لتراك قد أسديتها معروفًا بالاستماع لها دون مقاطعة، وهو الأمرُ الذي لم تعهده النساءُ ممن تحادثهن عادةً، من مثيلاتهن النساء!
وحينها سوف يثبتُ في قلبها أنك ما فعلت ذلك إلا حبًا لها .. ولسوف تحرص على رد ذلك المعروف بأن تمتنع عن قولِ أي أمرٍ يسببُ إزعاجك وتضايقك .. وأن تمتنع عن أي فعلٍ يؤدي لذلك بالتالي!
لقد قلتُ لك يا بني .. أن علاج زوجتك ينبغي أن يكون منك أنت .. وأظن أنك
الآن قد أيقنت بصحة كلامي!
إن علاج زوجتك يا بني .. هو في (إكسير الزوجية) .. الصمت!!
تعليق بسيط واضافة مني
لواستطعت ان تعود نفسك على سماع الطرف الاخر الى الاخير فسوف تكسب كثيرا
من دون ان تشعر فبعض الناس فقط بحاجة لمن يسمعهم واغلب الاحيان لايطمعون بالتجاوب من
قبل المستمع فقط يكفي ان تصمت وتستمع لمن هو امامك لتكسبه
إلى هنا .. وأترككم أيها الأحبة بحفظ الله ..
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ..
منقول للعبرة والفائدة