قضاء الاحتلال يبرئ جيشه من قتل راشيل كوري التي دهستها جرافة الجيش في رفح حيث كانت كوري تقف أمام الجرافة العسكرية محاولة منعها من هدم بيوت الفلسطينين عام 2003..

لمن لا يعرف شهيدة الإنسانية ريشيل كوري:




مقال سابق لي عن ريشيل كوري


ريشيل كوري ملهمة الأحرار

أحمد أبورتيمة

في عام 2003 اقترفت القوات الصهيونية جريمةً بشعةً بحق ناشطة السلام الأمريكية ريشيل كوري إذ سحقت جرافات الاحتلال جسد ريشيل كوري النحيف في مدينة رفح الفلسطينية التي قدمت إليهالتتضامن مع أهلها في مواجهة جرافات الاحتلال وهي تدمر بيوتهم وتشردهم في العراء..

لم يرحم الاحتلال ضعف ريشيل، ولم يراع أي اعتبار لخلق أوإنسانية أو قانون فسحقت جرافاته جسدها النحيل سحقاً، لا لذنب اقترفته إلا لأنهاأجابت داعي الحق والعدالة وجاءت من أقصى الدنيا لتتضامن مع شعب مظلوم مقهور،ولتغسل شيئاً من العار الذي لطخ به بوش وإدارته اسم بلادها.

قتلت ريشيل لكن مقتلها لم يكن خسارةً لمبدئها الذي عاشت منأجله، فقد استطاعت برحيلها أن تفضح مدى بشاعة وجه الاحتلال وإجرامه ولا أخلاقيته،وأن تثبت أن كل المساحيق التي يحاول أن يجمل بها وجهه لا تخفي حقيقة وجهه القبيحوأنه لا يقاتل مجموعةً من الإرهابيين كما يزعم، بل إنه يحارب قيم الإنسانيةوالحرية والحياة التي كانت تمثلها ريشيل..

لا يسع المرء إلا أن يخشع أمام هذا النموذج الإنساني الرائعالذي قدم البرهان على أن البذل والعطاء لا تحده الحدود..فما الذي كان يجبر هذهالفتاة الأمريكية المنعمة في بلادها أن تترك حياة الرفاهية وتأتي إلى مخيمات البؤسوالحرمان لتناصر شعباً لا يربطها به رابطة دين أو جوار أو قومية..

تذكرني راشيل بالآية القرآنية "وممن خلقنا أمة يهدونبالحق وبه يعدلون"..فهي مثال بأنه لا يزال في الأرض بقية من حق وعدل، وأنهناك من البشر من لا تزال قلوبهم تنبض بحب الخير والعدالة، لم تتلوث فطرتهمالسليمة في زمن علت فيه لغة المصالح وحسابات السياسة وساد الجشع والطمع وانعدمتالأخلاق..

كانت راشيل وهي الفتاة العشرينية تستطيع أن تظل في حياةالرغد والرفاهية.. كان يمكنها أن تتصرف مثل الشباب الطامحين في بلادها فتسعىلتحقيق ذاتها عن طريق الجامعة أو تنضم لمؤسسة الفضاء أو تسعى لتكون مخترعةً أو تشقطريق الثروة والشهرة..كانت أيضاً تستطيع أن تناصر القضية الفلسطينية بالكتابةوالأنشطة الثقافية من مكتب مريح في بلدها، وكان يمكنها أن تشارك بين الحين والآخربمسيرات تأييد أمام البيت الأبيض دون أن تضطر إلى المجيء إلى مكان يتهدده الخطروالموت من كل مكان..

لكن نداء الإنسانية المنبعث من أعماقها أبى عليها وهي ترىصور الأشلاء والدمار وتسمع آهات المعذبين إلا أن تشاركهم محنتهم وتتقاسم معهملحظات الألم والصمود فخلعت عن نفسها دثار القعود والإخلاد إلى الأرض ونفرت إلىميدان المعركة وهي لا تملك عدةً للمواجهة سوى قلب نابض بحب العدالة وإرادة تأبىالتسليم بواقع الظلم والاستعباد.

لقد أدركت ريشيل أن الحياة موقف، وأنه لا معنى لها إلابالجهاد في سبيل الحق والعدل والإنسانية، وأن حياة النعيم والترف لا تحقق إنسانيةالإنسان..

صحيح أن الحياة من أجل المبادئ تجلب للإنسان المتاعبوالصعوبات وتحرم جسده من الراحة والتنعم، وربما يفقد حياته في سبيل مبدئه، لكنهاهي الحياة الوحيدة الحقيقية لأن الإنسان حينها فقط سيشعر بتحرر روحه من الأغلال،وسيشعر بلذة روحية لا تعادلها كل ملذات الجسد الفاني.

لقد علمت راشيل أنه لا خير في حياة يتمتع فيها أناس بينماإخوة لهم آخرون من بني البشر يعانون ويتألمون، فحق لها أن تكون مفخرةً لبنيالإنسان..

أليس جديراً بنا أن نتواضع أمام هذا المثال المشرق للعطاءبلا حدود

إن راشيل وأخواتها وإخوانها من أحرار العالم قد أقاموا الحجةعلى المخلفين القاعدين في بيوتهم الذين تنقضي سنين عمرهم وهم يتمتعون ويأكلون دونأن يقدموا لأمتهم أو للإنسانية شيئاً نافعاً.

شتان بين من يذكره التاريخ في صفحات المجد والخلود، وبين منيكتب في سجل المتخاذلين القاعدين في أسفل سافلين..

لقد قدمت لنا تجربة ريشيل البرهان بأن الحرية والكرامة لاتحدها حدود دين أو لون أو عرق، فلنتواضع قليلاً ولنكسر كبرياء أنفسنا فنحن بشر ممنخلق، ومن قعدت همته عن تقديم العون لإخوانه فلا أقل من أن يشكر من يقدمه بدل أنيسلقهم بألسنة حداد لأنهم ليسوا على مذهبه ولونه، والله عز وجل لا يضيع أجر منأحسن عملاً أياً كانت ملته "إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئينمن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هميحزنون"..

ظن الاحتلال حين قتل ريشيل بأنه سيقتل روح الإرادة الحرة فينفوس أحرار العالم ليخلو له الجو بعد ذلك فيواصل جرائمه كما يشاء.. لكن ظنه قد خاب.وهكذاهي قوى الظلم والاحتلال عبر التاريخ تقع في الحسابات الخاطئة، فيحيق بهم مكرهمالسيئ من حيث لا يشعرون..إنهم لا يملكون أكثر من القمع والإرهاب..فيستعلمون أدواتإرهابهم ظناً منهم أنها توهن من عزيمة الأحرار، لكنها على العكس من ذلك فهي تزيدهماستشعاراً بضرورة الصمود والانتصار..وها هي ريشيل تنتصر على أصحاب الأخدود فيؤمنمعها كل صاحب فطرة نقية محبة للخير، وتتنامى حركة التضامن الشعبية العالمية معالقضية التي قتلت من أجلها، فهي لا تزال حيةً في قلوب أحرار العالم يستلهمون منهامعاني الحرية والعطاء..

إننا نراها قادمةً مع نشطاء السلام وهم يركبون البحارويواجهون الأخطار ويصرون على خوض المواجهة مع آلة الاحتلال والعدوان لا يملكونسلاحاً في المواجهة سوى إرادة الحق والانتصار..

لقد سجل التاريخ مشهد المواجهة غير المتكافئة بين جالوتالظالم المدجج بالسلاح وداود الفتى الإسرائيلي الذي لا يملك سوى الإيمان والحجر..لكنالغلبة كانت للإيمان الأعزل على الظلم المدجج "وقتل داود جالوت"..

وها هو التاريخ يستعيد دورته، ويرتسم مشهد المواجهة بين داودوجالوت من جديد..لكن جالوت اليوم ليس هو جالوت الأمس..فقد أصبح جالوت نووياً يمتلكأسلحة الدمار الشامل..ولعل من عجائب التاريخ أن جالوت اليوم هو إسرائيلي بعد أنكان الإسرائيلي هو داود في الزمن الغابر..

ويقف داود الأعزل ممثلاً هذه المرة بنشطاء الحرية الذين لايمتلكون أي سلاح سوى سلاح الحق والإرادة يواجهون بصدورهم العارية آلة الموتوالدمار وهم يستلهمون من روح ريشيل التي حملت إحدى سفنهم اسمها معاني الحريةوالإنسانية ويخوضون المواجهة، وينتصروا فيها ليسوءوا وجوه إسرائيل، ويكشفوا حقيقةكونهم مجرمي حرب، وليقدموا برهاناً آخر على قوة الإيمان في مواجهة الطغيان..

لقد تحولت ريشيل بعد رحيلها إلى كابوس يقض مضاجع الصهاينةويلاحقهم في محاكم التاريخ والعدالة..

إن أصحاب المبادئ لا يموتون، وحين تصيبهم سهام الظلم تكونتلك هي اللحظة التاريخية الضرورية لبث روح الحياة في نفوس الشعوب..

سلام على ريشيل في الخالدين..