إطلالة على أدب الأطفال الإسرائيلي


معطيات وتساؤلات:
لاشك أن الأدب الموجه للأطفال والشباب يعتبر واحدا من أهم الأجزاء التي يتشكل منها أدب أي أمة من أمم العالم، ذلك أن متلقي هذا الأدب ما يزال صفحة بيضاء قابلة لكل ما يُخَطُّ عليها، والأخطر أن هذا الذي يُخط عليها يساهم، وإلى حد كبير، في تشكيل جزء هام وثابت تقريبا من التركيبة النفسية والفكرية والعقيدية لصاحبها، والتي لابد أن تؤثر على سلوكياته حين يكبر. ومن الثابت علميا أن محاولة إحداث أي تغيير في مكونات هذه التركيبة، بعد تجاوز سن الرشد، أمر صعب إلى درجة الاستحالة، في معظم الأحيان، كما يؤكد علماء النفس المحدثون، وقديما قالوا في المثل العربي: (من شبَّ على شيء شاب عليه).
ولإدراك المشرفين على الثقافة، في أي أمة من أمم العالم، لمدى ما ينطوي عليه أدب الأطفال والناشئة الموجه إلى أبناء أمتهم من خطورة، نراهم يبذلون جهودا مكثفة وكبيرة من أجل ألا يصل إلى أولئك الأبناء ما يمكن أن يشوه نفسياتهم وعقولهم، ويحرصون أشد الحرص على أن يغرسوا في تلك النفسيات والعقول كل ما يعتقدونه صالحا من مثل وأخلاق اجتماعية وأفكار ومبادئ سامية... وقلما نعثر، في أدب أي أمة، على نصوص تحاول تشويه نفسية الناشئين فيها، بشكل قصدي.
في ضوء هذه المعطيات التي ترقى مصداقيتها إلى مستوى البديهة التي لا يختلف عليها اثنان، يمكننا طرح جملة التساؤلات الهامة التالية:
ماذا قدم كتَّاب أدب الأطفال في إسرائيل لأطفالها وناشئتها؟ وهل حرصوا فيما قدموه لهم على غرس المثل النبيلة والأخلاق الإنسانية والمبادئ السامية في نفسياتهم، أم وظفوا مواهبهم من أجل تحقيق هدف آخر مختلف؟ وإذا كانوا قد فعلوا ذلك من أجل هدف مختلف، فما هو هذا الهدف؟ ثم ما تأثير ما غرسوه فيهم، حتى الآن، على نفسياتهم وممارساتهم السلوكية، صغارا، وبعد أن كبروا، سواء في علاقاتهم مع بعضهم، أو مع العرب؟
ظاهرة أدبية شاذة:
يعتبر الأدب الموجه للأطفال والشباب في إسرائيل، ظاهرة لافتة للانتباه بشذوذها عما هو شائع في آداب العالم عموما، إذ يلقن النشء الإسرائيلي الكثير مما يعتبره القيِّمون على هذا النوع من الأدب في العالم، مشوِّها لنفسية أي طفل أو شاب، ولفكره. ولكي لا يبدو هذا الكلام أشبه بالافتراء على الإسرائيليين وأدبهم، دعونا نورد الدليل على صحته ومصداقيته مما كتبه، ذات يوم، أديب وسياسي إسرائيلي معروف هو (أوري أفنيري)، عضو الكنيست سابقا، وصاحب مجلة (هعولام هزه) التي تعد واحدة من أشهر المجلات السياسية والاجتماعية في إسرائيل....
كيف تربي في بيتك فاشيا صغيرا؟
في مقدمة مقاله المنشور، في العدد (2289)، من مجلته (هعولام هزه)، والصادر بتاريخ 15/7/1981، كتب أفنيري، مخاطبا قراءه من الإسرائيليين، ومثيرا دهشتهم ودهشة غيرهم ممن قرأوا مقاله ذاك:
(أنت أيها المواطن الإسرائيلي إذا أردت أن تربي في بيتك فاشياً أو نازياً صغيراً، فما عليك سوى أن تذهب إلى مكتبات الأطفال، وتشتري واحداً من كتب عضو الكنيست جيئولا كوهين أو رفاقها في العنصرية والإرهاب والتطرف، من أمثال أفنير كرميلي الكاتب العنصري الذي يدعو في مؤلفاته إلى تمجيد العرق اليهودي، في مقابل احتقار العرب باعتبارهم عرقا متخلفا..).
بهذه الكلمات القليلة، قدم لنا أفنيري توصيفا غريبا ومثيرا لمضمون الأدب الموجَّه للأطفال والشباب في إسرائيل، وفي ضوء كلماته هذه نفسها، يمكننا القول: إن المحور الأهم الذي يدور حوله هذا المضمون، هو توجيه الشريحة الأهم، في إسرائيل، توجيها عنصريا ليـس ضد العرب وحدهم، ولكن ضد كل من ليس يهوديا بشكل عام.. وبالطبع لا يمكن النظر إلى هذا التوجيه على أنه مجاني أو عفوي، إذ تدل الدراسة الموضوعية المتأنية لمضامين أدب الأطفال الإسـرائيلي، على أنه توجيه مقصود ومخطط له بدقة وعناية فائقتين، سواء على صعيد الدوافع، أو على صعيد الأهداف التي تلتقي جميعا، في المحصلة، عند نقطة واحدة، هي شـحن النفسية الإسرائيلية بالحقد العنصري ضد العرب بشكل عام، وضد الفلسطينيين بشكل خاص...
ولكن لماذا اختار أفنيري كتابات (جيئولا كوهين) الموجَّهَة للأطفال، كمثال على هذا النمط من أدب إسرائيل العنصري؟
اختيار قصدي:
من الواضح أن اختيار أفنيري لكتابات جيئولا كوهين، كان اختيارا قصديا، الهدف منه هو الربط، بشكل غير مباشر، بين مضمون هذا النمط من الأدب الإسرائيلي ووظيفته السياسية، من خلال شخصية كاتبته التي مارست السياسة والتأليف الأدبي معا. فمن هي كوهين هذه؟
جيئولا كوهين، والتقاء الممارسة العنصرية، في السياسة والأدب:
من مراجعة الملف الحياتي لهذه الكاتبة والسياسية الإسرائيلية، نتبين أن التأليف الأدبي كان الاهتمام الثاني في حياتها وتفكيرها، أما محور اهتمامها الأول فكان موجها في جلِّه إلى النشاط السياسي.. فهذه اليهودية اليمنية الأصل التي تصفها الأدبيات الإسرائيلية نفسها بأنها وقفت، وما تزال، في أقصى اليمين الإسـرائيلي المتطرف، ابتدأت نشاطها السياسي بالانضمام، وهي ما تزال في الثانية عشرة من عمرها، إلى حركة بيتار (المنظمة العسكرية للشبيبة الصهيونية) التي أنشئت قبل قيام إسرائيل، ثم انضمت عام 1946 إلى منظمة الليحي التي انبثقت عن تلك الحركة.. وقد اشـتهرت (الليحي) التي ارتكبت العديد من الأعمال الإرهابية في فلسطين قبل قيام إسرائيل على أرضها، والتي كان من أشهرها، مجزرة دير ياسين التي نفذتها بالمشاركة مع عصابة (الإيتسل) في نيسان من عام 1948. وبعد قيام إسرائيل أصبحت كوهين عضوا في حركة حيروت، ثم دخلت الكنيست عام 1973، ضمن قائمة حيروت التي انفصلت عنها فيما بعد، لتشكل حركة هَتْحِيَّا اليمينية المتطرفة، وبنتائج انتخابات عام 1979، دخلت كوهين الكنيست كممثلة لهذه الحركة التي تعتبر قمة التطرف في إسرائيل، سواء في طروحاتها وممارساتها العنصرية، أو في مجاهرتها بتأييد الحركات الإرهابية الصهيونية.
من هذه الخلفية العنصرية / الأيديولوجية والسياسية، انطلقت جيئولا كوهين في محاولة كتابتها للأطفال والناشئة الإسرائيليين، وانطلاقا من هذه الخلفية نفسها التي يعرفها أوري أفنيري معرفة قوية، في عضو كنيست مثله، كتب عن مؤلفات كوهين محاولا، من خلالها، إلقاء بعض الضوء على جوانب من التربية العنصرية الفاشية التي يتلقاها الأطفال اليهود، على يد كتَّاب اليمين الصهيوني، عبر ما يقدمونه لهؤلاء الأطفال من قصص ومؤلفات تملأ الأسواق.
استطراد توضيحي لابد منه:
لكي لا يتبادر إلى أوهام البعض أن انتقاد أفنيري ومعارضته لمؤلفات كوهين وغيرها، من الأدباء الإسرائيليين الذين تخصصوا في الكتابة العنصرية للأطفال والناشئة، يعبر عن موقف معاد لإسرائيل أو لأيديولوجيتها الصهيونية، قد يكون من الضروري تقديم التوضيح التالي لحقيقة موقف أفنيري وكل من هم على شاكلته، ممن يوصفون بدعاة الاعتدال في إسرائيل.
ولعل أول ما ينبغي توضيحه والتنبيه إليه، في هذا المجال، أنه من الخطأ اعتبار موقف أفنيري من مؤلفات كوهين العنصرية وأمثالها، موقفا معاديا لطروحات الصهيونية وأهدافها، أو داعيا لإنهاء استمرار وجود إسرائيل، ككيان قام، أصلا، على اغتصاب أراضي الغير، والعدوان على حقوقهم... فمثل هذا التفسير، بعيد كل البعد، عن تفكير أفنيري وموقفه، هو وغيره ممن يسمون بدعاة الاعتدال في إسرائيل، بدليل أنه لم يتخذ مثل هذا الموقف ضد سائر الأدباء الإسرائيليين الذين تزخر كتاباتهم بالمغالطات التاريخية والوقائعية في حديثهم عن مختلف قضايا الصراع العربي/ الإسرائيلي... وهذه الحقيقة، بحد ذاتها، تطرح السؤال الهام التالي:
لماذا إذن يعارض أفنيري ما تحاوله كوهين، من شحن مقصود لنفسية الناشئة في إسرائيل، بمشاعر الحقد العنصري ضد العرب؟
اختلاف الوسائل، ليس دليلا على اختلاف الأهداف:
ثمة إجابات مختلفة عن هذا السؤال، لعل أهمها أن أفنيري، ومن هم على شاكلته، ينطلقون في معارضتهم لمؤلفات دعاة العنصرية في الأدب الإسرائيلي، بشكل عام، من اعتقادهم بأن صراحة هذه المؤلفات وتطرفها في الدعوة إلى العنصرية، ضد العرب، بشكل مباشر، قد يؤثر سلبا على ما يمكن توصيفه بـ (جمالية الصورة الدعائية لإسرائيل)، وعلى استمرارية خرافة توصيفها بـ (واحة الديموقراطية والمساواة)، في شرقنا الذي لا تكف أجهزة الإعلام الصهيونية والإسرائيلية عن توصيف بلدانه العربية بالمتخلفة، ظلما وافتراء..
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ينطلق أفنيري ومن ينحو نحوه من مفكري إسرائيل وأدبائها، في معارضتهم لاستمرار شحن نفسية أطفال إسرائيل وشبانها بمشاعر العنصرية، ينطلق من القلق على مستقبل الناشئة فيها، جرَّاء ما يمكن أن يتركه هذا الشحن العنصري المتواصل من آثار ونتائج سلبية على نفسية الإسرائيلي عموما، وعلى سلوكه الذي لابد أن يتسم بالعنف ليس ضد العرب فقط، كما أراد له الذين شحنوه، بل ضد اليهود أنفسهم أيضا، وهو ما أثبتته معطيات الواقع، فيما بعد، كما يدل على ذلك ارتفاع مؤشرات الجريمة بمختلف أنواعها داخل إسرائيل، وبين يهودها أنفسهم، بل هو ما أكده أفنيري نفسه، بقوله في ثنايا مقاله آنف الذكر:
(في مكتبات الأطفال، في إسرائيل، تجدون عشرات من هذه الكتب المعدة للأطفال اليهود، حتى سن العاشرة. وإنه ليؤلمني ويحز في نفسي أن يلجأ الكتاب الإسرائيليون إلى التنافس، فيما بينهم، من أجل تأليف مثل هذه الكتب الرخيصة، العنصرية والشيطانية، التي تنشر روح الإرهاب والتطرف والتعصب، بين جيل الأطفال اليهود، وتنمي فيهم بذور الحقد والكراهية والجريمة)...
إذن، وكما هو واضح، ليست معاداة إسرائيل والصهيونية هي محرِّض أفنيري على انتقاد مؤلفات كوهين وأمثالها، من أدباء اليمين الإسرائيلي المتطرف، بل الخوف على الأطفال والشبان الإسرائيليين من التشوه النفسي، ومن انعكاس هذا التشوه على سلوكهم، عنفا وإرهابا، يمارسونهما تجاه بعضهم، وتجاه البنية المجتمعية التي يعيشون فيها ككل، جراء مطالعتهم لهذه المؤلفات... لذا، وعلى خلفية الاعتقاد بصحة هذا التفسير لموقف أفنيري المعارض لتلك المؤلفات العنصرية، ربما يبدو من المثير للدهشة والسخرية، في آن معا، أن نراه يتساءل مستغربا:
(كيف تسمح وزارة المعارف والثقافة الإسرائيلية ببيع مثل هذه الكتب في كافة مكتبات الأطفال، وكيف تجيز هذه الوزارة طبع ونشر هذه الكتب وكيف لا يعترض أحد على بيعها؟)..
إن مصدر السخرية التي يثيرها طرح هذا السؤال من صهيوني مثل أفنيري، أنه يعرف إجابته ويتصنع الجهل بها، ذلك أنه بوصفه كان واحدا من أعضاء الكنيست، يعرف تمام المعرفة أن التوجيه العنصري لا يقتصر على مؤلفات كوهين وأمثالها فقط، ولا على ما تبثه وسائل الإعلام الإسرائيلية من برامج لأطفال إسرائيل وشبانها أيضا، بل هو موجود حتى في مناهج التدريس الإسرائيلية التي وضعتها هذه الوزراة نفسها ليُربَّى عليها أولئك الأطفال والشبان..؛ ومادام الأمر على هذا النحو، فهل يُعقل أن تمنع هذه الوزارة طبع ما يماثل مناهجها، من القصص والمؤلفات العنصرية، أو أن تعترض على بيع هذه القصص وانتشارها بين الناشئة الإسرائيليين؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!!
كلمة أخيرة:
وبعد، نخلص من مجمل ماسبق، وعلى ضوئه، إلى تأكيد الحقيقة القائلة بأن أدب الأطفال والشبان في إسرائيل هو، في معظمه، أدب عنصري، يستمد جُلَّ مادته، من منابع مختلفة، بعضها ديني، وبعضها أيديولوجي، كما نرجو أن نبين في حلقة قادمة، وجميع هذه المنابع، على اختلافها، تروج لطروحات عنصرية ذات طابع عنفي/إرهابي، وتدعو إلى ممارستها على أرض الواقع، ليس ضد العرب وحدهم، بل ضد كل من ليس يهوديا بشكل عام، وهو ما يمكن أن نستشفه، بوضوح ويسر، من خلال مقارنة مضامين أدب الأطفال الإسرائيلي، مع تعاليم التلمود وغيره من كتب الدين اليهودية المتشددة، من جهة، ومع طروحات الأيديولوجية الصهيونية من جهة أخرى..