مجهول المعلوم
يسألني كثير من القراء، عن طريقتي في الكتابة والقراءة، وكأني بهم يودون أن ينحو نفس المنحى، أو يسيروا على ذات النهج والطريقة، ويدهشني بعض ممن يعلق على أعمالي، دهشة استغراب، تأخذ طريقا مني للتأمل والتبصر، فيما كتبت وفيما اكتب، بحثا عن نفس وفكرة وأسلوب استقرت جميعها في المقال أو القصة أو الخاطرة.
ولست مدعيا حين أقرر وأثبت، بان قراءتي لا تعتمد على طريقة أو نهج، ولا تتبع أسلوبا أو طريقة، فانا امسك بالكتاب وأبدأ بالقراءة، تماما كما يمسك الإنسان بالجريدة ليقرأ الأخبار ويعرف الأحداث، دون أن يخطر بباله أن يعتمد التركيز والتدقيق، فان رأيت بالأسلوب غنى ووفرة وقدرة صياغة للفكرة والشعور، أكملت الشوط فيه، وان رأيت غير ذلك، أقفلت الصفحات وطوحت بالكتاب بعيدا، تطويحا لا عودة إليه، وان اجمع كل أدباء ومفكري الأمة على ما فيه من جودة وإبداع.
ولكني بالجانب الآخر استطيع أن ادعي – ولذاتي فقط – بان فيً من القدرة على استشفاف المعاني والصياغة والأسلوب والمشاعر والأفكار المدونة على صفحات الكتب، ما يمكنني من استبطان المعنى والفكرة، وما يؤهلني للغوص بالمشاعر والأحاسيس، دون الاستناد إلى رأي ناقد أو الاستماع إلى أراء المكتوب سلبا وإيجابا عن الكتب والكتاب.
وكانت هذه "الحاسة" هي التي تقودني نحو الكتاب ونحو الكتب، دون الاعتماد أو الانصياع للآراء المدونة في كتب النقد، ومع تقدم الأيام، واندفاع العمر، كانت ثقتي بتلك "الحاسة" تكبر وتتعاظم، وكانت الأحداث التي مررت بها، والأحداث التي خبرتها من سير الكتاب وظروف شهرتهم وعلو أسمائهم، تقودني نحو تثبيت " حاستي " وتثبيت الثقة إلى حد تضاءلت فيه ثقتي بالحركة الأدبية وما يترتب عليها من ظهور أسماء واختفاء أسماء.
وكانت الحركة الأدبية الفلسطينية، والحركة الأدبية الإسلامية، خير مثال لتوجيهي نحو الالتحام " بحاستي " واعتبارها هي المرشد والموجه لكل قراءاتي وكتاباتي.
فالحركة الأدبية بفلسطين ، والشتات ، خضعت وبشكل مكشوف لمفهوم الولاء أكثر من خضوعها لمفهوم النقاء والإبداع، وكانت الانتماءات السياسية والحزبية ، والتوجهات العصبية والشللية ، هي التي تساهم وبشكل كامل في تقرير اسم الكاتب وإبداعه، بعيدا عما تحمل كتاباته من رصانة ومن قدرة على التعبير الصادق الممزوج بقدرة الإفصاح والتبيين.
وظلت الحركة الأدبية تأخذ نفس الطريق ونفس المنحى، دون أن تتوقف لتحاول التقاط أنفاسها، أو إعادة نظرها بمكونات وجودها وتكوينها، إلى أن أصبحت الشهرة متعلقة تماما بمدى الولاء للحزب والحركة.
بل ووصل الأمر، بخوف الناقد الفلسطيني والعربي، من التعرض لفجاجة الأدب المطروح وهزاله، لان النقد الموجه للأسلوب والصياغة في تلك الفترة – وما زال – يعتبر نقدا لفكرة التحرر والنضال والكفاح، وكم من ناقد حاول التعرض لتلك الأعمال، فوجد نفسه على رصيف مهجور متهما باللاإنتماء، وأحيانا بالخيانة.
وكان للحركة الأسيرة في تاريخ القضية الفلسطينية، نفس التأثير السلبي على نضج الأدب وانطلاقه نحو مراتب الشموخ والإبداع، لان الأسير كان يعتبر ذاته مقدسا، وكان ينظر لتجربته على أنها تجربة خاصة مميزة، وانه يستحق من اجل ذلك، أن يفرض نفسه على الأدب والمجتمع بالطريقة التي ترضيه وتدفعه نحو القبول بالثمن الذي حدده والثمن الذي يريد.
وظلت الحركة الأدبية تتنازعها التجاذبات الحزبية والحركية، إلى درجة أفرزت فيها الساحة كما من " الكتاب والمفكرين والشعراء " لا يستهان بعدده أو تعداده.
وكان الشعور العربي البريء الكامن في النفوس العربية، للقضية ومن يمثلها، يدفع إلى تحوير وتزييف الحقائق، ببراءة أحيانا، وبحماس وجهل واندفاع في أحايين أخرى، الأمر الذي ساعد على توجيه النقد نحو جهة يتمناها المواطن العربي بالشعور والإحساس، لكنها على الأرض معزولة ومفقودة.
والدليل على ما نذهب إليه، أن الحركة الفنية العربية، في فترة ما، ولا زال بعض من آثارها حتى اليوم، تحاول من اجل إنجاح العمل الفني تمرير القضية الفلسطينية وما يمر بها من أحداث، بلقطات وصور من خلال المسلسل أو الفيلم، حتى أصبحت تلك اللقطات والصور نوعا من الدعاية الذاتية للمخرج والكاتب والممثل.
ولم تكن الحركة العلمية والأدبية الإسلامية، انضج من الحركة الأدبية الفلسطينية، بل زادت عليها وقررت بان الأدب مرهون بالنظرة الإسلامية التي تقررها الحركة أو التنظيم الإسلامي، وقامت برفع شعارات فضفاضة واسعة، لا يستطيع المسلم العادي أو المتعلم استنباطها أو الاستدلال إلى ما تحمل تلك الشعارات من معنى.
لذلك توزع المفكر والأديب المسلم، بين مساحات تلك الشعارات المتسعة، إلى حد فقد فيه السيطرة على إمكاناته وأدواته، وتسلل مفهوم القدسية والتبعية وبشكل خطير إلى نفوس الناس، من خلال فكرة القدسية التي دفعت بها الحركات الإسلامية بطريقة ماكرة محشوة بالدهاء إلى عقول تابعيها وعقول الناس المفطورين على حب الدين وحب الله جل شأنه.
ففقدت الحركة مفهوم الإبداع والتميز والخلق والاستنباط، وسارت خلف مفهوم الولاء لفكرة الحركة وفكرة الأفراد الذين تميزوا في القيادة وفي تعميم مجموعة الأفكار التي تخدم رؤيتهم نحو استنهاض الحاضر من اجل صياغة المستقبل.
ووصل الأمر إلى اعتبار المخالف للرأي والنهج، شاذا عن طريق النضج وربما أحيانا شاذا عن طريق الإيمان، وعملت الحركات والتنظيمات الإسلامية، على تغذية المجتمع بنظرية الموالاة للخالق والشريعة، من خلال الموالاة للحركات والتنظيمات التي تسعى لتثبيت المجتمع الإسلامي في رؤيتها المعاصرة.
ودفعت بطاقات المفكرين والأدباء نحو تأصيل هذه القاعدة، وكان الكاتب أو المفكر الذي يأخذ هذا المنحى، يرفع إلى أعلى الدرجات والمراتب، ومن خالف أو رأى غير ذلك، فليس أسهل من طمسه ومحوه من قائمة الكتاب والمفكرين.
والدليل على ذلك، أن الحركة الإسلامية برمتها لم تخضع حتى اليوم الذي نحن فيه إلى مساءلة نقدية لتاريخها الفكري والأدبي، بل زادت على ذلك، بأنها وضعت المؤسسين الأوائل في مرتبة ومكانة من التقديس تحرم على الأقلام والعقول الاقتراب منها أو من سيرتها الفكرية.
كل ذلك كنت أراقبه وأنا أنمو عقليا وذهنيا، ولكني كنت في تلك الأوقات مشغولا بالتوجه نحو مسار لم يحدده عقلي أو ذهني، مسار كنت ابحث فيه عن توجه استطيع الدخول فيه والانتماء إليه دخول المقتنع وانتماء الواثق، ولكن النتيجة ظلت مرهونة بواقع لا يمكن الدخول فيه أو الانتماء إليه.
بهذه الطريقة كنت اقرأ ، فليس هناك مؤسسة فكرية يمكن الوثوق بها أو الالتجاء إليها، فالمؤسسة الفلسطينية تتعامل بالولاء، والمؤسسة الدينية تتعامل بالتبعية، والمؤسسة العربية تتعامل بالعبودية.
الشك والاضطراب قاداني نحو تركيز "حاستي" والوثوق بها، وبذلك كانت طريقتي في القراءة، هي طريقة "الحاسة" التي تشك بكل شيء وتضطرب وتتلاطم مع اضطراب الشك وتلاطمه.
وهذا ما قادني نحو كتاب عرفوا بالاستقلالية والثبات، وعرفوا بقدرتهم على استخراج مدلولات الفكر والثقافة من بواطن القديم ، بطريقة عصرية تشهد بها مؤلفاتهم وكتبهم وموسوعاتهم التي لم تأخذ حقها حتى اليوم.
وكان أول هؤلاء، عباس محمود العقاد، الذي دخلت إلى عالمه الرحب الواسع، المجلل بالعناء والتعب والسهر، ليخلق نهجا وإبداعا متميزا سبق مرحلته وسبق عصره، فخلعت " حاستي على عتبات عالمه " واندفعت بكل ما املك من طاقة لتأمل مساحات قدرته واقتداره، فذهلت.
ومنه انطلقت إلى عالم آخر عالم، المازني، زكي نجيب محمود، محمد عبده، جمال الدين الأفغاني ، زكي مبارك، احمد زكي، ، ومنه انتقلت إلى عوالم أخرى.
فأدركت وأيقنت بان " حاستي " كانت اصدق وأقوى وامتن من كل النقاد والباحثين الذين ارتضوا الانضمام إلى مفهوم الحركة والتنظيم والدولة، مفهوم الولاء والتبعية والعبودية، واستعطت من خلال العقاد أن ارسم طريقي نحو مفهوم الولاء للفطرة الممنطقة بالعقل والفكر.
وما زلت حتى اليوم، اعرف ثقتي " بحاستي " التي تقودني نحو تكوين رأي عن كاتب أو مفكر، دون الاعتماد على رأي ناقد أو باحث.
وما يدفعني اليوم، وبعد تقدم العمر نحو الالتحام بالحاسة، والابتعاد عن غيرها، إلا فيما يتوافق معها، المواقع والمنتديات، والمجلات والصحف، والفضائيات التي جمعت العلم على شاشة الحاسب وشاشة الرائي في منزل يحاط بجدران ضيقة.
فدخول احد المنتديات أو المواقع، يقودك نحو الدهشة والاستهجان، بل ويقودك نحو الإفراط في الدهشة والاستهجان، فليس عليك إلا أن تضرب الفأرة على موضوع اثر موضوع، لتعرف معنى الهزال في مستوى الفكرة ومستوى الكلمة – إلا قليل القليل – ولتعرف معنى النصيحة التي وجهت لي من احد النقاد، حين قال بان الناس لا تملك اليوم وقتا لقراءة قصة قصيرة أو مقالة تمتد إلى سبع أو ثماني صفحات، وأننا نعيش بعصر السرعة، وعصر " الساندويتش " لذلك علي العودة لاختصار القصة أو المقالة إلى صفحة أو صفحتين، تنفيذا لرغبة قارئ عصر السرعة وعصر "الساندويتش ".
وربما يصل الأمر أحيانا أن يطلب مني أن انساق وراء ما يسمى بالقصة أو الأقصوصة الكامنة بسطر أو سطرين، والتي تريد حسب كتابها قارئ متميز يستطيع أن يستجلي المعاني الخفية المستترة بين الكلمات والحروف، وهي في الحقيقة لا تحوي سوى غرورا وخواء يشابه غرور وخواء كاتبها وناقدها الممجد لبراعتها ومتانتها.
وإذا ما ابتعدت قليلا ونقرت بالفأرة مرة أخرى، ستجد مقالا لا يحمل من معنى المقال أو اللغة أو الأسلوب أو الفكرة شيئا، لكنك ستجد المعلقين المادحين الفخورين بقوة اللغة والأسلوب والفكرة، تمتد صفحات وصفحات.
وفي الجانب الآخر تجد مقالة أو قصة، تخرج من رحم المعاناة والعذاب، تقطر عرقا وسهرا وعناء ومشقة، تجدها بغير تعليق أو تذييل.
لا لشيء، سوى لصدق مقولة عصر السرعة، وصدق زمن " الساندويش ".
ولو أدرت جهاز التحكم بالرائي، وانتقلت من محطة إلى محطة لوجدت الكتاب والمفكرين المنتشرين والمنشورين، وهم يلوكون الأحاديث ويمضغون الجمل، دون رأي أو مبدأ، لأنهم وفور انتقالك إلى محطة أخرى يقولون عكس ما قالوا بالمحطة السابقة، متعللين بتغير الظروف وتغير المستجدات.
ولكنك لن تشاهد أحدا ما يتابع ندوة ثقافية زخمة تناقش مستعصيات الفكر والثقافة.
كل هذه الأمور، جعلتني التصق " بحاستي " وبطريقتي في القراءة، يقينا مني بان الحاسة التي قادتني نحو العقاد ونحو الغزالي، ومحمد عبده، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد إقبال، وعبد الله النفيسي، هي حاسة يمكن الركون إليها والاستماع إلى همسها ونصائحها.
وحين كنت أغوص بكتب التراث والمتوارث من أدب العرب القديم ، كنت اشعر بنوع من الصدمة ، فليس هناك ما يمكن أن نختلف عليه ، لأنهم كانوا أصحاب قدرة واقتدار ، وكانوا على علم بما يملكون من قدرات ومواهب ، قياسا بزمنهم ، ولكنني أعود لاحس بالدهشة حين أجدهم ما زالوا يتربعون على عروش عقولنا ، وكان الحضارة والقدرة والخلق والإبداع وقفت عند دورتهم الزمنية ، وما علينا نحن سوى التمجيد والتغني بتلك القدرات وتلك المواهب .
وهنا تصادم العقل بين القديم المقدس ، وبين الحديث الذي لا يستطيع تجاوز عملية الحبو على أربع ، فالتصقت " بحاستي من جديد " وقلت لنفسي : بان العقاد الذي استطاع أن يستخرج الماضي بصورة معاصرة ، هو أحق ألف مره بالإتباع من الجاحظ ، وان محمد عبده الذي خرج بمفاهيم ترتقي إلى روح العصر أولى بالإتباع من كثير من علماء الماضي الذين كانوا على اطلاع بثقافة عصرهم وزمانهم .
ففوجئت بهجوم واستنكار الكثير من الأدباء والمثقفين والدعاة ، وكانت حجتهم الوحيدة انه علي احترام الماضي وعدم التقليل من شانه ، وحين أخبرتهم بأنني لا ارفض الماضي ، ولا اقلل من شانه ، ولكني أريد أن اخرج من إطار العلماء والأدباء الذين شكلوا الحضارة في زمن ما ، إلى علماء وأدباء معاصرين قادرين على تشكيل المستقبل للعقل المسلم بصورة تجعلنا نفخر بالسابقين كتراث يمكن الاستفادة منه ، ونعتز بالمعاصرين كأناس قادرين على التأثير بمجريات الحياة والحضارة ، وكمجموعة تتكون لتصبح تراثا لأجيال قادمة ، أجيال تملك زمام الحاضر والمستقبل بيقين وقدرة .
لكن فكرة " التقديس " المحمولة بالأذهان ، وقفت عائقا أمام الجيل السابق ، ولا زالت تقف أمام الجيل الحالي ، والمؤشرات تقول بأنها ستقف عائقا أمام الأجيال القادمة .
لذلك آثرت الانطواء ، والاهتمام بتربية عقلي على التخلص من عقدة الماضي المستحكمة بحياتنا إلى حد الاستبداد ، وعدت إلى " حاستي " التي أثق بها واركن إليها ، لكنه الانطواء الممزوج بالحسرة والألم .
وعرفت بان العجز الذي نعاني منه قادنا نحو تحويل الماضي إلى حاضر ، لنستطيع أن نقنع أنفسنا بأننا امة تملك الكثير من المقومات والركائز ، دون الانتباه للحاضر الذي نحياه ، والخاوي من كل المقومات والركائز المعاصرة .
فبلادنا ممزقة ، وشعوبنا جوعى ، وملوكنا وكل حكامنا ليسوا سوى أحجار على رقعة شطرنج ، ورموزنا البشرية والدينية والمعنوية مستهدفة ، فالقران الكريم مطارد ككتاب إرهابي ، ومحمد عليه السلام ، مستهدف استهداف لم يسبق مثله بالتاريخ ، حتى وصل الأمر بأحد الأمريكيين أن يرفع دعوى قضائية على الرب – جل شانه – لمقاضاته بسبب الأعاصير ، وعرضنا منتهك ومباح ، من قوى الاستعمار ، ومن أجهزة الدول الإسلامية ذاتها ، واغتصاب النساء المسلمات الطاهرات أصبح حدثا عاديا ، يمكن القبول به ويمكن تبريره ، وحتى رجال الأمة تم اغتصابهم ، وانتهاك رجولتهم ، ووصل الأمر إلى اغتيال الزعماء أمام أعيننا وعلى شاشات الرائي ، فياسر عرفات تم اغتياله بصورة واضحة ومفضوحة ، وسيق صدام حسين في يوم العيد وساعة النحر ، لينحر قصدا وعمدا بمكان معلوم وزمن معلوم وطريقة معلومة ، ولم تحرك الأمة ساكنا .
وحين تعلن انشداهك وتصل إلى ثورة الغضب العاجز ، يقف علماء الأمة الأشاوس ، لينقلوا مقولات السلف ، بأنهم كانوا يعلمون حين يسب النبي عليه السلام بان النصر قد اقترب .
أي داء وأي عقم هذا ؟ وهل علينا أن ننتظر حتى يشتم نبينا عليه الصلاة والسلام لنجني النصر ؟ وربما علينا بأزمان قادمة أن نبتهل وندعو كي يمس الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام ، من اجل أن نحرز نصرا .
هي الهزيمة ، هزيمة العقل المتقوقع في قوقعة الماضي بصورة متحجرة ، لا تقبل التطور ، ولا تملك من الإبداع والخلق سوى اجترار الماضي بصورة تجعله سيد حاضرنا ومكونه .
هي الهزيمة التي لم تلتفت إلى البناء العميق والضخم الذي حاول عباس محمود العقاد وزكي نجيب محمود ومحمد عبده ومن مثلهم إرساءه لتحرير العقل العربي من هزيمة الحاضر المغرق بالجهل وإنكار الذات .
وهي الهزيمة التي جعلت من مجموعه من الكتاب الذين عاشوا بين كتب التراث لينقلوها إلى الجيل الجديد بأسماء جديدة ، ولكن دون فهم لروح اؤلئك الكتاب والعلماء ، سوى أنها أرواح عظيمة ، ولكن دون إتباع تلك العظمة والتأثر بها .
هكذا تعلمت القراءة ، وهكذا تعلمت التمرد ، وحين التقيت بصديق في احد شوارع طول كرم ، وحاول تجنبي ، لكن الحياء منعه من ذلك ، واخبرني بان الأخوان حظروا على أفرادهم إلقاء التحية علي ، لأنني تطاولت على رموزهم ، أدركت معنى أن تحاول توجيه النقد للمؤسسة الدينية ، مؤسسة الحركة والتنظيم .
وكان هذا الأمر فاصلا جديدا في حياتي الفكرية ، اثبت قدرة حاستي على استشفاف الأمور ، وأدركت أن بدهيتي كانت أكثر حكمة من عقلي ، فتوجهت بعيدا عنهم ، توجهت إلى أبي حامد الغزالي ، وجلال الدين القاسمي ، توجهت إلى محمد إقبال ، والى مالك بن نبي ، وعدت للعقاد وزكي نجيب محمود والمازني والبارودي ، عدت إلى الشيخ حسين الجسر وابنه نديم ، ولا زلت ابحث عن كاتب يستطيع أن يشق الماضي للحاضر .
بهذا الأسلوب تكون عقلي ، وبهذه الطريقة تكونت ملكاتي ، فانا اكتب بحذر شديد ، وأتوخى الإشارة هنا وهناك ، خوفا أن يأتي دعي ويقول بأنني أتنصل من الماضي ، أو يقول ما قاله احدهم عن زكي نجيب محمود " بأنه يتمنى أن يملك ساطورا ليقطع به لسانه " .
فالوطن الإسلامي العتيد ، مليء بالتهم المفصلة على المقاسات ، فان خالفت سياسة الحاكم فأنت خائن للوطن ، وان انتقدت أسلوب الثورة ، فأنت خائن للقضية ، وان أشرت إلى احد العلماء بمخالفة بينة ، فأنت كافر ومارق وزنديق ، أما أن التزمت الصمت ، فانك تخفي خلف صمتك أمرا ما ، وقانون الاحترازي بانتظارك ، وان كنت عصيا على تهمة الخيانة ، فليس أسهل من تحويلك إلى شهيد .
واليوم ، وبعد هذا العمر ، وبعد التجربة الطويلة ، وبعد قراءات مختلفة ، اعرف يقينا ، بان الأمة الإسلامية المعاصرة ، اقل الأمم قدرة على استنهاض ماضيها ، استنهاضا يقود إلى حاضر فيه من العلم والثقافة ما يفوق علم وثقافة الماضي التي كانت في عصرها ذات شان ، لكنها اليوم سيرة يمكن أن نمر عليها لتغذية الحاضر ، وليس لتنصيبها فوق رؤوسنا كثقافة قادرة على صنع مستقبل ، لا يصنع بزيارة المقابر ، أو زيارة المخطوطات .
وهذا ما على المثقف العربي أن يعيه تماما ، وبسرعة كبيرة ، لان الأمم تندثر وتتلاشى ، ومن يحتج بالعدد والماضي ، عليه أن ينظر إلى أمريكا واليابان ، فأمريكا قفزت إلى العلم ، من قاع البئر ، وسبقت دول العالم العريقة بالعلم والمعرفة ، وحولت العالم الإسلامي والإفريقي وأوروبا إلى عبيد لرغباتها وأفكارها ، واستطاعت بفضل العلم والمعرفة أن تصنع إمبراطورية يخشاها القاصي والداني .
وكذلك اليابان ، التي خرجت من تحت ركام القنابل الذرية ، لتقف على قدمين من العلم والمعرفة بفترة قصيرة .
ولسنا بحاجة – بصراحة مطلقة – لمعرفة أو البحث لمعرفة إن كانت حضارتهم مادية خاوية من الروح ، لان العقل والمنطق يقودان إلى ضرورة نهضة إسلامية عربية ، ولتكن ممتزجة بالروح والعلم .
أما أن نجلس لننتقد الحضارة الزائفة ، دون أن نصنع الحضارة الحقة ، فنحن اقل قيمة ونضجا من الدب الذي حاول أن يبعد الذبابة عن وجه ولده فقذفه بصخرة على وجهه .
هكذا تعلمت من الكتب ، وهذا ما تعلمته من كتب التاريخ ، وهكذا قرأت وفهمت ، ولا اذكر يوما باني أمسكت بكتاب وأنا أخشى كاتبه ، إلا كتاب الله وسنة نبيه ، وما خلا ذلك فهو إنسان منزاح عن العصمة ، اقبل منه ما اقبل ، وارفض منه ما ارفض ، ولا يهمني أبدا ما قيل وما سيقال .
وفي النهاية ، أقول ، بان العقل العربي لم يعرف النقد إلا في فترات محدودة ، ومواضيع محدودة ، ارتبطت بعظماء العرب والمسلمين ، لكنها ماتت بموتهم ، وانتهت بانتهاء عصرهم ، وان الاستبداد ما زال مسحوبا على الحكام ، وفي ذات اللحظة على الثقافتين العربية والإسلامية ، وان الجمود على فاصل من الزمن ، ما زال ديننا وديدننا .
وللقراء الذين سألوني كيف اكتب وكيف اقرأ ، أقول بحسرة ، اقرأ الهزيمة واكتب عن الهوان ، هزيمة تمنعنا من حماية امرأة تغتصب في العراق والبوسنه ، وهوان يقول لنا أن ننتظر النصر القادم من اهانة كتاب الله ، واهانة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام .
مأمون احمد مصطفى
فلسطين – مخيم طول كرم
النرويج – 24 – 9 -2007