غزة.. وحملة تبديد الأوهام
بقلم أ. سمير العركي
إذا كان الكيان الصهيوني قد اختار اسم " الرصاص المتدفق " لمجزرته الدائرة على غزة الصامدة ، فإننا يمكننا أن نطلق على ذات المجزرة حملة "تبديد الأوهام" .
فقد أسهم الكيان الصهيوني ـ دون قصد منه ـ من خلال مجزرة غزة في تبديد كثير من الأوهام التي استقرت في الوعي العربي فترة من الزمن نتيجة آلة الإعلام المنحازة والتي استطاعت العبث بضمير المواطن ، وتشكيل وعيه ، وبناء منظومة فكرية أقل ما توصف بأنها منظومة عبثية تجر المواطن العربي جراً نحو ثقافة الاستسلام والانبطاح أمام قوى الاستكبار الصهيونية والغربية بحجة عدم جدوى المقاومة في ظل عدم تكافؤ القوى والذي تصبح المقاومة عنده مجرد عبث وتضحية بالشعوب دون جدوى أو طائل من ورائها.
* والخلاصة.. شاهدنا هرطقات وخزعبلات صارت تمثل أنساقاً فكرية تشغل حلقات البحث والنقاش وتعج بها وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة مما أسهم في زيادة الأوهام المتلبسة بثوب الواقعية والعقلانية اعتماداً على حالة اللامبالاة التي استولت على الناس منذ فترة ليست بالقليلة .....
* ولكن من غزة تحديداً وعلى أيدي مقاومتها الباسلة تجرى الآن عملية ضخمة لتبديد الأوهام ، وإعادة الوعي إلى الأمة القائدة والرائدة الموكول لها القيادة والصدارة حسب النص القرآني " كنتم خير أمة أخرجت للناس" ولكن ما هي الأوهام التي تبددت في سماء غزة ؟
* أولا ً: وهم عدم مشروعية المقاومة: فلقد أجهدت آلة الإعلام الاستسلامية نفسها ولسنوات طويلة في تسويق ثقافة السلام ، وتم اختزال مأساة فلسطين فى الضفة وغزة بعد أن تم شطب أراضى عام 48 من ذاكرة الأجيال الحالية ، وفى المرحلة التالية صادرت تلك الآلة نفسها حق المقاومة حتى فى الضفة وغزة واعتبرته ضرباً من الجنون ، وعدم تفهم لأبجديات السياسة ومبادئ التفكير العقلاني وراح البعض – في سابقة غريبة من نوعها – يتلمس الأعذار للكيان الصهيوني في مذبحته الأخيرة لأن المقاومة – من وجهة نظره – استفزته بنضالها !!.
* لم أكن أتصور أن أحيا إلى زمن يقال فيه مثل هذا الكلام في العواصم العربية ، فلقد آلمني تخصص قنوات إعلامية بالهجوم المركز على المقاومة وعلى حماس تحديداً.. والغريب أن كل من يتحدث كان يتحدث بلساننا بالعربية لا العبرية .
المقاومة لا تحتاج إلى صك مشروعية من أحد.. فمشروعيتها نابعة من الاحتلال الجاثم على أوطانها منذ حوالي الستين عاماً ، فحماس لم تذهب لضرب إسرائيل في بلادها حتى تتهم بالجنون بل قاومته على أرضها المغتصبة .
* ونحن بذلك نشطب كل تاريخنا الوطني المشرف، وكل جهاد بذله أجدادنا ومازال حتى الآن موضع الفخر والتقدير.
فإذا كان ما تفعله المقاومة اليوم في فلسطين ضرباً من جنون فطرد ذلك أن مقاومة المصريين البسطاء بأسلحة بدائية لجيش نابليون بونابرت المسلح – آنذاك – تسليحاً حديثاً كانت ضرباً من جنون خاصة بعد استباحة بونابرت لأحياء القاهرة وفعله بها ما يشيب لهولها الولدان.
* وأيضا لكان الشعب الجزائري مجنوناً بتقديمه ما يقرب من مليون شهيد من أجل تحرير بلاده.
فهل هذا كلام يقوله عاقل ؟!!.. وكان من المفترض أن ندعم المقاومة في مواجهة الغطرسة الصهيونية خاصة وأن عملية السلام منذ أوسلو وحتى الآن لم يستفد منها الشعب الفلسطيني شيئاً ، فقد باعوا له الأوهام ومنوه بالسراب وكل عام ينتظر الوعد عساه أن يتحقق ولكن دون جدوى ، فالهجوم الشرس على فعل المقاومة من قبل التنظيرات المتشحة بثوب العقلانية ليس له محل من الإعراب سوى ترويج لثقافة الاستسلام وقتل للإرادة في وجدان المواطن العربي ، ومخالفة كل ما استقر في وعى وحس الشعوب من وجوب تحرير أراضيهم .
* المقاومة لا تحتاج إلى استئذان من أحد حتى يتهمها اليوم نفر من الأمة بأنها لم تستأذن ، فمرجعيتها مفروضة عليها وما على الجميع إلا تقديم الدعم والعون لها وتعظيم مكاسبها في الميدان على طاولة المفاوضات .
* وهم عملية السلام: فآلة الإعلام الموالية للمجزرة الصهيونية تحاول أن تبث في روع المواطن العربي أن حماس والمقاومة أفسدوا مفاوضات السلام والتهدئة ، وبدا المشهد وكأن الدولة الفلسطينية المزعومة كانت قاب قوسين أو أدنى من أن تصبح واقعاً ملموساً على أرض الواقع وجاءت المقاومة لتفسد الأمر برمته وتضيع على الشعب الفلسطيني فرصة ذهبية لرؤية دولته !!.
* أليس الدجل المذكور هو ما يروج له في الإعلام الموالى للصهاينة ! وهو وهم كبير عشناه منذ أوسلو مروراً بكامب ديفيد الفلسطينية وواى ريفر ... ثم خارطة الطريق والتفاهمات عديدة الأسماء ، ولا تنسى مبعوثي السلام المختلفين ووعود الرئاسة الأمريكية كل عام بالدولة الفلسطينية.
* ويذهب رئيس ويأتي آخر والوضع لا يزداد إلا سوءاً وتدهوراً فهل المقاومة هي المسئولة الآن ؟ أم المسئول هو الذي أخذ الشعب الفلسطيني إلى أوسلو وسلمه لإسرائيل لقمة سائغة وأعنى هنا الفريق القابع في رام الله والذي ينتظر نهاية المجزرة بفارغ الصبر ليرجع إلى غزة على أجساد وأشلاء الشهداء.
* هذا الفريق الذي لم يتورع عن قتل الرئيس السابق ياسر عرفات بدم بارد عندما أصبح عقبة أمام إتمام المخطط ثم ساروا في جنازته يبكونه بدموع التماسيح !!.
* المقاومة هي التي ستصنع السلام الحقيقي فإسرائيل لم تجلس في كامب ديفيد عام 1977 وترضى برجوع سيناء إلا بعد الذي حدث لها في السادس من أكتوبر.
* وهم التشرذم الفلسطينى: وهو الوهم الكبير الذي يتعاطاه الإعلام الآن .. وكلما نظرت إلى الوضع بين الفصائل المختلفة وجدت توافقاً غير محدود على المقاومة وهو ما يعكس حالة الانسجام بينها فالانشقاق المشار إليه ليس في حقيقته انشقاقاً بين الفصائل كما يفهم من كثرة ترديد عبارة الانقسام والانشقاق.
* إذ إن الأحداث كشفت عن توافق بين الفصائل على ضرورة المقاومة ولا تستثنى فتح من ذلك بل إن الاستثناء هو في التيار الاستسلامي الذي يقوده أبو مازن داخل حركة فتح وهو تيار استفاد من أوسلو وتوابعها مادياً وإعلامياً كما هو معروف !!.
* وتحول هذا الفريق إلى مجموعة من قائدي المليشيا أصحاب الثروات الطائلة ودحلان نموذج لما أقول ، فالرجل هو خيار أمريكا وإسرائيل داخل السلطة نظراً للدور الذي كان يقوم به إبان توليه الأجهزة الأمنية في غزة في تتبع المجاهدين ، والتنسيق الأمني اللامحدود بينه وبين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية بل والأمريكية.. حتى حول غزة إلى بؤرة استخبارتية موجهة ضد الفلسطينين الشرفاء وضد الدول العربية ولم تسلم مصر من شروره.
* ومازال الرجل حتى الآن من المقربين لعباس في رام الله والقائمة طويلة فهذا هو التوصيف الدقيق للوضع الفلسطيني الحالي والدليل على ذلك هو الهجوم الشرس الذي تعرض له أبو مازن منذ وقت قليل من شخصية مركزية ومحورية داخل فتح وهو فاروق قدومي رئيس الدائرة السياسية في منظمة التحرير .
فأحداث غزة ستحدث فرزاً ليس بين الفصائل ولكن بين تيارين :
* الأول : يقوده أبو مازن وشعاره المفاوضات ثم المفاوضات ثم المفاوضات !! فهو خياره الاستراتيجي الذي لا مفر منه ولا محيد عنه .
* والثاني : بقية الفصائل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار والتي تتبنى خيار المقاومة .
والخلاصة أن غزة اليوم تكتب تاريخاً مجيداً سيحفظ في ذاكرة الأمة ، كصفحة ناصعة بددت الأوهام والأساطير بصمودها وصبرها .. فتحية لأهل غزة وتحية للمقاومة الشريفة .
http://www.egyig.com/Public/articles...31405374.shtml