نحتاج إلى حماس الفتحوية(1-2)
-الجزء الأول-
بقلم: سري سمّور
توطئة
هذا العنوان ليس كاريكاتوريا، ولا من باب الكوميديا أو السخرية؛ بل هو نتاج تـفكير عميق للخروج من المأزق الفلسطيني الحالي، وحالة الاستعصاء التي بلغت مداها.
نظرا لأن المصالحة باتت بعيدة، و سياق المصالحة المطروح أقرب إلى المحاصصة، ولأن العلاقة بين القوتين الأكبر على الساحة تبدو في غاية السوء والتوتر وتبادل الاتهامات...وبعد كل هذه السنين واضح تماما بأن أيا منهما لا تستطيع شطب وتجاوز الأخرى، أو تجاهل وجودها، فهناك قاعدة باتت واضحة لكل ذي بصر وبصيرة:لا سلام بدون فتح ولا حرب بدون حماس،وأنه من الأخير للطرفين التعايش مع بعضهما وتوظيف الجهود المبذولة منهما كل ضد الآخر في اتجاه التحرير، لأنه مهما امتلك أي منهما من قوة عسكرية وإعلامية ومالية فلا مجال أن يلغي ويشطب الآخر، أو أن ينجز مهمة التحرير منفردا، ولأن كيمياء شعبنا تقوم على وجودهما معا، وفي ذات الوقت هناك شريحة متزايدة من شعبنا تكفر بكل الفصائل وتعتبرها عبئا عليها؛ فكم تسمع بمن يصرخ:لا خير في فتح ولا حماس ولا الجبهات ولا كل الفصائل...جميعهم يبحث عن مصالحه ولا يهمهم الوطن ولا المواطن...لقد كفرنا بهم جميعا...!
وتأتي هذه المقالة بعد مرور عشرين سنة على توقيع اتفاق إعلان المبادئ في حدائق البيت الأبيض أي اتفاق أوسلو، والذي يتفق كل من يدافع عنه أو يهاجمه على أنه لم يجعل حياة الفلسطينيين أفضل.
لا أزعم أنني أقدم في هذه السطور حلاّ سحريا، أو مقترحا ينهي الاستعصاء السياسي بالضربة القاضية، ولكن هي مساهمة أو اقتراح في هذه المرحلة التي تعيش فيها الساحة الفلسطينية حالة حيرة وارتباك، فلا تـقدم في المفاوضات، بل لا أمل فيها، ولا برنامج مقاومة يعمل ويتقدم؛ فمنذ متى كان المستوطنون يتجرؤون على الناس بهذه الطريقة دون ردة فعل؟ومنذ متى كان خبر الاعتداء على المسجد الأقصى عابرا في نشرات الأخبار، ويقابل باستنكار لفظي فاتر؟وكيف يمكن السكوت على «السكوت» عن محاولات تقسيم المسجد الأقصى وبناء الهيكل؟ إن القوتين الكبيرتين في فلسطين أي حماس وفتح أمام مسؤولية شرعية ووطنية وتاريخية وأخلاقية لم يسبق لحجمها مثيل في تاريخهما.
(1)أمل كبير...بلا أيديولوجيا
حركة التحرير الوطني الفلسطيني-فتح تبلورت فكرتها وبنيت خليتها الأولى أواخر خمسينيات القرن العشرين، وكان الإشهار(الانطلاقة) في مطلع كانون ثاني-يناير 1965م أي حينما كانت الضفة الغربية بما فيها شرقي القدس وقطاع غزة مناطق غير محتلة، وانتهجت الكفاح المسلح خيارا للتحرير، ولتجييش الناس باتجاه الهدف الرئيس وهو تحرير الأرض، لم تتبن فتح أي أيديولوجية من الأيديولوجيات الموجودة على الساحة العربية آنذاك، وفتحت أبوابها لمن يؤمن بالتحرير أيا كان توجهه، وقد كان من قادة فتح ومؤسسيها من هو قادم من الإخوان المسلمين أو القوميين أو الماركسيين أو من هو بلا أيديولوجيا، وبهذا تمكنت فتح من تجنيد الكثير من العناصر وحشد الأنصار.
واستبعاد الأيديولوجيا هي نقطة قوة ونقطة ضعف في آن واحد؛ فهي تعطي مرونة، وقدرة هائلة على التجمع والتكتل باتجاه الهدف، إلا أنها تبقي الكتلة قابلة لدخول بعض من ضررهم أكبر من نفعهم من الأفراد، كما أن عدم وجود الحصن الأيديولوجي يجعل القبول ببعض الأطروحات السياسية سهلا...إلا أن استبعاد الأيديولوجيا ظلت نقطة قوة لفتح أكثر منها قوة ضعف على صعيد التأييد الجماهيري والقدرة على التعبئة.
وعند هزيمة العرب النكراء في حزيران(يونيو) 1967م كانت فتح أملا للطامحين بإزالة عار الهزيمة، لا سيما بعد استبسال مقاتليها في معركة الكرامة(آذار-مارس 1968م) فباتت فتح أمل الجماهير الفلسطينية والعربية وأحرار العالم، ولهذا سارع إلى الانضمام لصفوفها كثير من الفلسطينيين والعرب والمسلمين والثوار من شتى بقاع الأرض، وكان طبيعيا أن تسيطر فتح على مؤسسات منظمة التحرير.
ولقد تعلّقت الجماهير بفتح أكثر حينما كثرت هزائم زعماء العرب عسكريا، وكثرت فضائحهم السياسية، كما أن الفرد الفلسطيني كانت وما زالت لديه نزعة التميز بهوية مستقلة، وقد رأى فتح تحقق له هذه الرغبة؛ نظرا لأن أرضه محتلة والاحتلال ينكر عليه بشدة أن يـقول عن نفسه بأنه فلسطيني، ونظرا لأن الزعماء العرب يريدون له أن يكون تابعا لهم ملبيا لرغباتهم، دون أن يكون له قرار ولا هوية، وقد كانت فتح التي لا تتبنى أي أيديولوجية ملاذا للفرد الفلسطيني.
(2)وضع عربي وفلسطيني معقد
النظام العربي الرسمي ظل مهيمنا على الخيارات الفلسطينية منذ ثورة 1936م التي أوقفت بقرار عربي رسمي، وأداء الجيوش العربية الضعيف في حرب 1948م والذي كان من أسباب النكبة الأولى، والنظام العربي الرسمي وتحديدا جمال عبد الناصر هو الذي أنشأ منظمة التحرير الفلسطينية، وسمح-أو اضطر- لاحقا لحركة فتح الفتية أن تسيطر على المنظمة كنوع من ستر سوءته لأن حركة فتح خاضت مواجهة غير متكافئة مع جيش هزم كل جيوش العرب، فلا مناص آنذاك من أن تصبح فتح هي التي تقود الشعب الفلسطيني.
ولكن فتح لم يكن وحتى الآن ليس بمكنتها التغريد خارج الإجماع العربي الرسمي؛ فحين كان العرب يسمحون بالكفاح المسلح تألقت فتح، وحينما جنحوا للسلم مع العدو انخرطت فتح في العملية، صحيح أنها حاولت أن تبني صيغة فيها شيء من الاستقلالية الوطنية، لكنها استقلالية ضمن الإطار العربي الرسمي، وفي خضم خلافات العرب واجهت فتح امتحانات صعبة، وخسرت كثيرا، ولعل هذا من مساوئ ترك الأيديولوجيا؛ فقد قام النظام العراقي والليبي بمباركة ودعم مجموعة صبري البنا/أبو نضال(فتح-المجلس الثوري) التي عملت كعصابة قتل مأجورة ضد كوادر وقيادات فتح ومنظمة التحرير، وقام النظام السوري بشق مجموعة سعيد موسى/أبو موسى لتعمل لصالحه وعلى هواه، صحيح أن هذه المجموعات وغيرها لم تـفلح في الحلول مكان فتح الرسمية بقيادتها المعروفة وعلى رأسها أبو عمار، ولكنها استهلكت ما لا يستهان به من طاقة الحركة ميدانيا وإعلاميا، والذين لم يعملوا على شق فتح من العرب، عملوا على ما هو أخطر أي الابتزاز والضغط الخشن والناعم، وعلى اختراق الحركة.
وكان على فتح أن ترضي الجزائر عبر استضافة البوليساريو، وأن ترضي المغرب بنبذهم أو التصريح مثلا بأن الصحراء الغربية مغربية، وكانت كارثة دخول صدام إلى الكويت، وما تلاها أكبر علامات قدرة النظام العربي الرسمي حسم خيارات فتح وتلقائيا المنظمة وساعد على ذلك ما سأتناوله في الفقرة التالية.
(3)الساحة الداخلية والخارجية
قيادة فتح من لجنة مركزية ومجلس ثوري وقيادة عسكرية، كانت حتى أوسلو خارج الأراضي الفلسطينية، والقوات الضاربة لفتح كانت في دول عربية، وقد أخرجت القوات من الأردن (1970-1971م) ثم من لبنان بعد اجتياح 1982م وإن عادت بعد ذلك بعض القطاعات، وتوزع المقاتلون والقادة في دول عربية بعيدة عن خط المواجهة مثل تونس واليمن والسودان والجزائر والعراق، مما أفقد فتح عاملا ميدانيا مهما.
وفي الداخل الفلسطيني الذي له خصوصية تتمثل بضرورة اتباع نمط العمل العسكري السري القائم على خلايا منفصلة قليلة العدد، لم يتطور الوضع الميداني، وكانت ساحة الضفة الغربية مثلا تتبع ما يعرف بالقطاع الغربي الذي يشرف عليه القائد خليل الوزير(أبو جهاد) عبر طرق التواصل المعروفة في تلك الفترة، وقد تعرضت الخلايا إلى ضربات قوية من الاحتلال وانكشفت وزج بمعظم أفرادها في السجون، دون تنفيذ عمليات نوعية دراماتيكية، لأسباب كثيرة منها ضعف التسليح نسبيا، واعتماد تنظيم الداخل على الخارج.
وحينما انطلقت الانتفاضة الأولى أواخر سنة 1987م نشطت بعض المجموعات والخلايا ونفذت بعض العمليات المميزة نسبيا مثل قتل العملاء والجواسيس ونصب كمائن لدوريات الاحتلال وإلقاء عبوات ناسفة، وبرزت مجموعات فتحوية مثل الفهد الأسود(جنين ونابلس) والنمور السود(طولكرم) والأسد المقنع(رام الله) وصقور الفتح(غزة)، وذلك تزامنا مع تراجع حدة المواجهة بالحجارة، ووجدت ظاهرة المطلوبين المطاردين، ولكن الاحتلال تمكن من قتل واعتقال معظم النشطاء، ولم تحدث نقلة أو تطور نوعي في نشاط وعمل وسلاح وعدد أفراد هذه المجموعات، ومع انطلاق مؤتمر مدريد وما تلاه من توقيع اتـفاق أوسلو، انتهت هذه الظاهرة.
الفكرة أن وجود فتح العسكري الضارب في الداخل الفلسطيني المحتل كان متواضعا، مما قلل من أوراق القوة لدى الحركة، ومكن النظام العربي الرسمي من زيادة ضغوطه على قيادتها، وخاصة أن فتح امتلكت مدا جماهيريا كبيرا وواسعا يؤهلها لتكوين خلايا ضاربة مسلحة أكثر قوة من التي وجدت.
(4)أوسلو...نقطة تحول
جاء أوسلو نتيجة تراكمات خاصة بفتح ومنظمة التحرير، وبتحولات إقليمية ودولية(كامب ديفيد واجتياح لبنان وانهيار الاتحاد السوفياتي وهزيمة الجيش العراقي) ولا يتسع المجال إلى تقييم مجمل اتـفاق أوسلو، ولكن المؤكد أن الاتـفاق هو نقطة تحول في تاريخ الصراع ومساره، وفي منهج وسلوك حركة فتح، وكون المرحلة الانتقالية لم تنتهي حتى الآن(كان يفترض أن تنتهي سنة 1999) جعل فتح في مرحلة ما بين الدولة ومؤسساتها والثورة ومتطلباتها، وبالتأكيد فإن فتح تحولت من نهج وطريق الكفاح المسلح إلى طريق التفاوض والسياسة، وإن كان التنظير القائم على مبدأ:البندقية غير المسيسة قاطعة طريق...وبالبندقية نزرع وبالسياسة نحصد...خذ ثم طالب بالمزيد...إلخ يعتبر تبريرا مقبولا في مرحلة معينة إلا أنه بتقادم الزمن وبالتحولات التي عاشتها الحركة لا يجد له ما يسنده على أرض الواقع في ظل تغوّل المشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية.
كما أن أوسلو نقل ثـقل فتح جميعه تـقريبا إلى الداخل، ومثلما كان من الخطأ عدم تـقوية الداخل عسكريا، كان من الخطأ رمي كل الثقل البشري والمادي في الداخل المحتل بعيد أوسلو...يتبع.
،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
الأربعاء 12 ذي القعدة 1434هـ ،18/9/2013م
من قلم:سري سمور(أبو نصر الدين)-جنين-أم الشوف/حيفا-فلسطين